صياغة المادة الثانية من الدستور المصري
وتنص تلك المادة كما هي في دستور 1971م والإعلان الدستوري الحالي من بعده،
على أن: (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة
الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع)، وقد جرى ذلك النصُّ في ظلِّ دستور سنة
1971م، حيث يعدُّ أكبر إنجاز قامت به الحركة الإسلامية في عصر السادات.
ولأن البشر مهما أوتوا من فصاحة وبيان فسيظلون قاصرين عن إعداد التعريفات
الجامعة المانعة وخاصة في أمر مهم كأمر الشريعة والتي نصبح محدودين في ذلك بطبيعة
الشريعة ذاتها، فقد حاول العلمانيون وغيرهم استغلال ورود لفظ (مصدر) نكرة وليس
معرفة، ليجعلوا مع الشريعة مصادر أخرى للتشريع! ممَّا دعا الحركة الإسلامية لخوض
معركة أخرى لتقييد نصِّ المادة الثانية لمنع ذلك.
انتهت تلك المعركة بتعديل المادة بتاريخ 22 مايو سنة 1980 واستبدلت عبارة
(مصدر رئيسي) بــ (المصدر الرئيسي)، لأن العبارة الثانية التي دخل على لفظيها
(الألف واللام) تفيد الحصر[1].
و لكن بعد ذلك التاريخ بأكثر من عام قتل السادات في حادثة المنصة، وفي
المحاكمة اتجه المحامون لمنع عقوبة الإعدام عن المتهمين عن طريق الطعن في دستورية
قانون العقوبات في أثناء المحاكمة؛ لأنها مخالفة لنصِّ المادة الثانية، فرفضت
المحكمة هذا الطعن وقررت أن كلمة (المصدر الرئيسي) تسمح بوجود مصادر فرعية! ممَّا
يعني أنه يمكن مخالفة الشريعة الإسلامية أحيانًا!! وبذلك عدنا أدراجنا للوراء مرة
أخرى!، وظهر على الساحة بالإضافة إلى موضوع (الألف واللام في «مصدر») مسألة جديدة
مثيرة للجدل وهي عبارة عن مشكلة لفظية مفادها أن نص المادة الثانية يدعو لتطبيق
مبادئها فقط من دون أحكامها[2]، وقد غذَّى بعضهم للأسف هذا الطرح!
وقد استدعى كل ذلك تحويل الأمر للمحكمة الدستورية العليا للبت فيه، وظل
الاختلاف حول تفسير المادة الثانية معروضاً عليها مدة تجاوزت خمسة عشر عاماً، حتى
فصلت فيه المحكمة يوم 18 مايو عام 1996م بعد طول بحث.
وقد قررت المحكمة الدستورية العليا ما يلي:
- أن المادة بهذه الصياغة تمنع مِن سنِّ قوانين
جديدة مخالفة للشريعة.
- أن المادة تخاطب السلطة التشريعية لا
القضائية، ومِن ثمَّ فلا يجوز للقاضي أن يترك القانون الصادر عن السلطة التشريعية
بحال، مهما كان مخالفًا للشريعة.
- أن القوانين التي سبق سنها قبل هذا التعديل
الدستوري اكتسبت حصانة دستورية، ولا يمكن إسقاطها إلا بنصِّ صريح مِن السلطة
التشريعية.
وممَّا جاء في نص حكم المحكمة الدستورية أيضاً، قولها: (ومن ثم صحَّ القول:
إن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء
سنداً، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفاً لآراء استقر عليها العمل
زمناً). وقولها: (فلا يجوز لنص تشريعي، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في
ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها
ممتنعاً، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التي
لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً).
وبمقتضى هذا الحكم.. أتى المُشـرِّع الوضعي بقيد على السلطة التشريعية
مؤداه إلزامها فيما تقرره من النصوص التشريعية بأن تكون غير مناقضة لمبادئ الشريعة
الإسلامية بعد أن عدهَّا الدستور أصلاً يتعين أن تردَّ إليه هذه النصوص أو تستمد
منه لضمان توافقها مع مقتضاه.
ومؤدى نص هذا الحكم.. أنه لا يجوز لنص تشريعي يصدر في ظله أن يناقض الأحكام
الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها معاً، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي
يمتنع الاجتهاد فيها؛ لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية ثوابتها التي لا تحتمل
تأويلاً أو تبديلاً، ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان
والمكان؛ إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها، أما الأحكام غير القطعية
في ثبوتها أو في دلالتها أو فيهما معا، فإن باب الاجتهاد يتسع فيها لمواجهة تغير
الزمان والمكان، وتطور الحياة وتنوع مصالح العباد، وهو اجتهاد إن كان جائزًا أو
مندوبًا من أهل الفقه، فهو في ذلك أوجب وأولى لولي الأمر ليواجه ما تقتضيه مصلحة
الجماعة درءاً لمفسدة أو جلبًا لمنفعة أو للأمرين معًا.
وبصدور الحكم السابق.. ينتهي عمليا الاختلاف حول جواب السؤال: هل يعني
تطبيق المبادئ عدم سن قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية؟
وينتقل تاريخ مكافحة الإسلاميين القانونية لتطبيق الشريعة إلى منحى جديد،
وهو النقاش بين الإسلاميين أنفسهم حول مقصود (النصوص ظنية الدلالة وقطعية الدلالة)
وأثر ذلك في القوانين.
حيث رأى بعض الإسلاميين أنه على الرغم من صدور قيد لنص المادة الثانية، وهو
الحكم بمنع سن قوانين جديدة مخالفة للشريعة، إلا أن ذلك جاء مُقيّداً بأنه في
النصوص قطعية الدلالة، ممَّا يعني أن هذا القيد الذي أعملته المحكمة الدستورية وما
زالت تعمل به قد حرَّر كثيراً من القوانين من الالتزام فيها بالشريعة، حيث إن
النصوص قطعية الدلالة تمثل نسبة ضئيلة جداً من النصوص الشرعية في القرآن والسنة،
يقدرها بعضهم بنسبة 10% فقط، وهي غالباً في أركان الإسلام والأحوال الشخصية وبعض
مسائل الحلال والحرام، وهذا يعني أيضاً لدى بعضهم أن الأحكام الشرعية التي ستُطبق
بحسب نص حكم المحكمة ربما لا تكون متعلقة بالحكم وبالسياسة والقضاء والاقتصاد وغير
ذلك، لأن كثيراً من نصوصها ظنية الدلالة.
ولقد زاد من هذا النقاش الإسلامي الإسلامي كون تقدير ما إذا كان الحكم
الشرعي قطعي من عدمه هي مسألة موضوعية خاصة بالمحكمة الدستورية خاضعة لتقديرها
وحدها دون رقابة عليها من أحد.
و لكن هذا الاختلاف في الحقيقة كان محسوماً من الناحية العملية، لأنه ومن
باب الإنصاف وإحقاق الحق لابدَّ من توضيح أمور:
أولاً: أنه قد جرت العادة في المحكمة الدستورية في
حال الطعن على قانون بمخالفته للشريعة الإسلامية إرسال القانون بنصوصه لمجمع
البحوث الإسلامية ليفصل فيه.
وثانياً: أن رئيس البرلمان في النظام البائد، كان
يرسل كل القوانين المزمع إصدارها لمجمع البحوث الإسلامية ليبدي رأيه فيها قبل أن
تصدر، حتى لا يُطعن على القانون بعدم الدستورية، فكانت بذلك مشروعات القوانين
ابتداء من عام 1996م تعرض على المجمع لضبطها على الشريعة إما سابقاً وإما لاحقاً
في حال الطعن، أي أن القيد الذي تم تحريره تم عقده مرة ثانية عن طريق تحويل
القانون للمجمع.
ثالثاً: لم يقم مجمع البحوث الإسلامية مطلقاً طيلة
هذه المدة باختزال الشريعة الإسلامية في النصوص ثابتة الدلالة فقط أو في المبادئ
دونما الأحكام.
وعلى كل حال.. فقد جرى إعمال المادة الثانية من الدستور وكان لها دوراً
بارزاً في سنِّ القوانين؛ فاستناداً لنصها، وإعمالاً لحكمها، قضت المحكمة
الدستورية العليا بعدم دستورية عدة نصوص قانونيــة خالفت أحكام الشريعة الإسلامية،
منها، نص المادة الأولى من القانون رقم 241 لسنة 1944م بفرض رسم أيلولة على
التركات فيما قضى به من فرض ضريبة على صافي ما يؤول من أموال إلى كل وارث أو مستحق
في تركة من يتوفى، وتستحق هذه الضريبة من تاريخ الوفاة، ونص الفقرة الثانية من
المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977م في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة
بين المؤجر والمستأجر، وذلك فيما نصت عليه من استمرار شركاء المستأجر الأصلي للعين
التي كان يزاول فيها نشاطاً تجارياً أو صناعياً أو مهنياً أو حرفياً، في مباشرة
ذات النشاط بها بعد تخلي هذا المستأجر عنها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أكدت المحكمة الدستورية – عملاً برأي مجمع
البحوث - على شرعية بعض النصوص القانونية وجريانها على أحكام الشريعة الإسلامية، وكانت
محل خلاف وطعن من بعضهم بزعم مناقضتها للمبادئ العامة للحريات والمساواة والتضامن
الاجتماعي ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - نص الفقرة الأولى من المادة الأولى
من القانون رقم 25 لسنة 1920م المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985م فيما قضى به من
إلزام الزوج بنفقة زوجته ولو كانت موسرة، ونص الفقرة الخامسة من المادة 20 التي
تنص على أن: (يثبت الحق في الحضانة للأم، ثم للمحارم من النساء، مقدماً فيه من
يدلي بالأم على من يدلي بالأب، ومعتبراً فيه الأقرب من الجهتين على الترتيب
التالي: الأم، فأم الأم وإن علت، فأم الأب وإن علت، فعمات الأب بالترتيب
المذكور..).
:: مجلة البيان العدد 300 شعبان
1433هـ، يوليو 2012م.
[1] كان
يمكن في رأيي أن يحدثوا تغييراً آخر ليؤكدوا هذا المعنى، وهو تغيير كلمة (الرئيسي)
إلى كلمة ( الرئيس)، أي: بحذف الياء، لأن كلمة (الرئيس) من حيث اللغة لا تعني إلا
إنه الأوحد، فيكون بذلك معنى أنه لا يوجد مصادر أخرى للتشريع مع الشريعة
الإسلامية، مؤكداً ليس فقط عن طريق (أل) التي هي أداة الحصر، بل أيضاً في ذات معنى
الكلمة نفسها.
[2] سأخصص بإذن الله تعالى مقالة أخرى
لمناقشة تعديل نص المادة الثانية من (مبادئ الشريعة) إلى (أحكام الشريعة).