مبدأ "المساءلة" بين الشرعية والمزايدة العلمانية
لا
بدَّ بداية من تجلية المقصود من بعض المصطلحات والمفاهيم الواردة في العنوان:
فالمساءلة،
أقصد بها مراقبة ومحاسبة المسؤول مهما كانت رتبته في سلَّم المسؤولية.
وأقصد
بالشرعية، شرعية هذه المساءلة، سواء استمدتها من الشرع وسيادته في الدولة
الإسلامية، أم من الشعب وسيادته في الدولة الديمقراطية، وكلا النظامين يكفل هذه
المساءلة، بل هي في النظام الإسلامي، مأمور بها، أكثر من كونها مجرد حق.
أما
المزايدة العلمانية، فهي الشطحات الديماغوجية التي لا عَلاقة لها لا بالمساءلة
كمبدأ، ولا بالإسلام ولا بالديمقراطية ولا بالمنطق، بل هي مجرد عدمية وهوس وحقد
علماني أعمى، وهو ما سنبينه في هذا المقال.
حين
ننتقد المزايدات العلمانية الصبيانية، لا نصادر حق الآخر في الانتقاد والمساءلة
والمحاسبة، فهذا مما ندعو إليه ونؤمن به، ففي النظام الإسلامي الذي نَعدُّه أمثل
وأفضل نظام للحكم، يعدُّ مبدأ المساءلة أهم المبادئ الدستورية الإسلامية، ومساءلة
الحكام والمسؤولين واجب على الأمة، بل جعلها الشرع من أفضل الجهاد، وهي تتم بآليات
ومؤسسات منضبطة، من أجل إقامة الدين وحفظ مصالح المحكومين، كما أن مبدأ المساءلة
مكفول لأفراد الشعب؛ بل لأصغرهم وأقلهم شأناً.
والأمر
في النظام الديمقراطي، عند من يحترمون أنفسهم، لا يقل أهمية، حيث تمارس الرقابة
والمساءلة على مستويات، ويعدُّ الإعلام أحد آلياتها ووسائلها، بقواعد وضوابط. بغرض
حفظ مصالح الشعب وقيمه وهويته.
المساءلة
إذاً في كلا النظامين غرضها تحقيق مصلحة المحكومين، وفق نظام مجمع أو متفق عليه.
في
مغربنا التائه بين الإسلام والديمقراطية والحداثة، لا يمكنك أن ترى إلا العبث،
ومنه ما تطالعنا به بعض المنابر الإعلامية من مزايدات، تعليقاً على تحركات وزراء
العدالة والتنمية، ووصفهم بالشعبوية، فقط لأنهم لامسوا هموم المواطن وتطلعاته، ثم
لأنهم قبل ذلك، وهذا هو مربط الفرس، محسوبون على التيار الإسلامي، ومن ثم يصبح
الانتقاد هدفاً وغاية و عملية “روتينية”.
المتتبع
لكثير من الإجراءات التي قام بها وزراء العدالة والتنمية (عبد العزيز رباح، الحبيب
الشوباني، مصطفى الرميد، مصطفى الخلفي)، والتي تدخل ضمن إطار الوفاء بالتزامات
الحزب أمام الناخبين خاصة والشعب المغربي عامة، أو تصحيحاً لأوضاع وممارسات سابقة،
فرضتها نظرة ضيقة، أو هوس بنماذج علمانية متطرفة، أو حسابات سياسية، فجاءت لحظة
التصحيح، التي لم تعجب دعاة الاستئصال، والحنين للنموذج التونسي أو الأتاتوركي
البائدين، فتم وصف كشف لوائح المستفيدين من المأذونيات (إكراميات) من طرف وزير
النقل، وكشف لوائح الجمعيات المستفيدة من الدعم الأجنبي من طرف وزير العلاقات مع
البرلمان والمجتمع المدني؛ بالشعبوية.
واعترض
على انتقاد الوزير نفسه لمهرجان موازين، بالقول إن ذلك غوغائية، وتم انتقاد دعوة
وزير الاتصال لمنع بث الإشهارات المتعلقة بألعاب الرهان واليانصيب في القنوات
العمومية، حيث جاء في يومية “المساء” أن محمد أوزين قال: إن “الخلفي وزير للاتصال
ومسؤول حكومي وليس فقهياً أو مفتياً للديار يحرم ويحلل ويجرم ويخون”، واصفاً
مقاربة الخلفي بـ “السطحية”، وبأنها “لا تهتم بالجوهر والمقاصد”.
يقال
هذا الكلام في دولة تقول: إنها إسلامية على مذهب الإمام مالك، والوزير إن فعل ذلك
فإنما يفعله من موقعه ومسؤوليته كوزير ينطلق من هذه المرجعية، ومطالب إسلامياً
ودستورياً وأخلاقياً، بالحفاظ عليها، وعدم تجاوزها، فأين الغوغائية والشعبوية
والسطحية؟!
حقيقة
لا يستطيع المتتبع حصر تلك المزايدات المجانية، حيث يتسع الخرق فيها على الراقع،
وتتناسل الانتقادات الشعبوية والغوغائية كالخلايا الانشطارية، وتتكاثر كالفطر
السام.
نختم بواحدة منها، لنرى كيف تعاملت معها بعض
المنابر الإعلامية. يتعلق الأمر بالزيارة التي قام بها وزير العدل والحريات لجمعية
دار القرآن بمراكش، حيث تحولت إلى مأتم ومناحة على صفحات عدة منابر علمانية، فراحت
تولول وتحذر، وتصرخ، وتسرح بخيالها الواسع، لتترجمه إلى عناوين مثيرة ومكذوبة، على
عادتها في اختلاق الكذب، وسياسة التهويل والتحريض ضد كل ما هو إسلامي، من قبيل:
(حين
تنتصر وزارة العدل لفتوى المغراوي)
(الرميد
يلتقي المغراوي ويغضب الأجهزة)
(غلطة
الرميد وتضخيم الحكومة)
(هل
فقد وزير العدل صوابه أم أنه يريد افتعال نقاش جانبي ليتجنب متابعة ناهبي المال
العام؟)
(وزير
العدل والحريات مصطفى الرميد يثني على السلفي صاحب فتوى الزواج ببنت التسع
المغرواي ويهاجم السياحة)
(وزير
العدل يزور بيت المغراوي مجيز اغتصاب بنات التسع بالزواج بتزامن مع إثارة قضية
أمينة المنتحرة)
(هذا
مبلغ الرميد من العِلم)
وعلى الرغم من أن الزيارة قام بها وزير في حكومة
منتخبة، لجمعية مغربية مرخصة، واستقبله مواطنون مغاربة، إلا أنها أثارت حفيظة
الكثير ممَّن يحبون أن يأكلوا نصيبهم ونصيب غيرهم. حيث لم يكفهم أن أفكارهم سيطرت
منذ الاستقلال، وكتمت أنفاس هذا الشعب، وتناوب علينا العلمانيون في السيطرة على
مواقع التأثير، لا تكاد تجد بين قنافذهم أملس، ولا يتفاوتون إلا في درجة القتامة،
وجرعات الحقد والكراهية، فضربوا حظراً على الإسلاميين، ووسموهم بكل نقيصة، لكن حتى
لما ولَّى زمانهم وقالت الشعوب العربية كلمتها، واختارت الإسلاميين عن رضى
وطواعية؛ بل برغبة وحماس، نجد هؤلاء العلمانيين يحشرون أنوفهم الجدعاء، ويستمرون
في بلاهة منقطعة النظير في إعطاء دروس الحريات والحقوق، وما يجوز وما لايجوز؛ بل
وينقلبون على الديمقراطية التي طالما تباكوا عليها، ويكفرون بها وبنتائجها.
المشكلة
ليست في أن جهات لم ترقها زيارة عادية من وزير، لجمعية من جمعيات المجتمع المدني،
تشتغل في مجال حفظ دين وهوية المغاربة؛ بل في الركوب على الحدث، من أجل ممارسة
الوصاية والأستاذية على قِطَاع كبير وعريض من المغاربة، مسؤولين وجمعيات وأفراد،
ومصادرة حقهم في الاختلاف والتفكير والتعبير، وتصبح هذه المزايدة لا عَلاقة لها
بالمساءلة والمراقبة التي يمارسها المجتمع المدني على مسؤوليه، بغرض حماية حقوق
ومصالح المواطنين وهويتهم وثقافتهم، بقدر ما هي ضربات تحت الحزام، وغوغائية
وشعبوية وتشغيب، لا معنى له.
:: مجلة البيان العدد
300 شعبان 1433هـ، يوليو 2012م.