(فأَهَلَّ بالتوحيد) استخلاصٌ عميقٌ لأهمِ مقاصدِ الحج، وفقهِه الأعظمُ ومقصودِه الأسنى؛ ذكرُ اللهِ -تعالى- وإفرادُه بالعبادة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
لم يكنْ عامًا كغيرِه من الأعوام، إنه عامُ الوداع، إنها السنةُ العاشرةُ منَ
الهجرة، كانَ حشدًا مهيبًا، وشوقًا وحنينًا، وغدتْ طَيْبةُ مَهْوى أفئدةِ الراحلين.
يقولُ جابرٌ -رضيَ اللهُ عنه-:
«فقَدِمَ
المدينةَ بشرٌ كثير، كلُّهم يلتمسُ أنْ يأتمَّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ،
ويعملَ مثلَ عملِه»،
وكانُوا زهاءَ مئةِ ألفِ نفسٍ، وليتَ شعري هلْ كانُوا يعلمونَ بدنوِّ أجلِه وقربِ
رحيلِه؟! أمْ هوَ التنافسُ على شرفِ مُرافقتِه صلى الله عليه وسلم في حجّتِه؟! أمْ
هما معًا؟!
اجتمعَ هذا الجمعُ المباركُ، وكانتْ عيونُهم ترصدُ أحداثَ هذه الحَجَّةِ العظيمةِ
كأجهزةِ الرصدِ الحديثة، كانتْ عيونُهم -رضوانُ الله عليهم- ترقبُ أقوالَه صلى الله
عليه وسلم قبلَ أفعالِه؛ تسجيلٌ دقيقٌ لكلِّ لحظاتِ هذه الحَجَّة، وتدوينٌ عجيبٌ
لكلِّ محطاتِ هذه الرحلةِ الإيمانية. وكانَ مِنْ بين تلكَ الجموعِ الحاشدة، وتلكَ
العيونِ الراصدة جابرُ بن عبدالله -رضيَ اللهُ عنهما- الذي وثَّقَ -رضي الله عنه-
تلكَ الحجة أعظمَ توثيق، فكانَ حديثُه في نبأ هذه الحَجَّةِ العظيمةِ مُقَدَّمًا
على غيرِه عندَ العلماءِ والمحققين.
حديثُ جابرٍ في صفةِ حجِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ مشحونٌ بالذكرى،
ممزوجٌ بالأشجان، ملتحِفٌ بالحنين، كانَ عَلَمًا بنى عليه الفقهاءُ تقريرَهم
لأحكامِ الحج، ومَتْنًا استقَى منه أهلُ الوعظِ والزهّاد.
يقول -رضيَ اللهُ عنه-:
«فَخَرَجْنَا
مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ
نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ
رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْل ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْل ذَلِكَ،
وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْل ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ
أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا
عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ. فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ
«لَبَّيْكَ
اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ
وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ».
هنا يتوشحُ الفقهُ بالحديث، ويتحلى الوعظُ بالعلم، (فأهلَّ بالتوحيد)، ثمَّ شرعَ
-رضيَ اللهُ عنه- يفسرُها بأنَّها التلبية: (لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ).
(فأَهَلَّ بالتوحيد) استخلاصٌ عميقٌ لأهمِ مقاصدِ الحج، وفقهِه الأعظمُ ومقصودِه
الأسنى؛ ذكرُ اللهِ -تعالى- وإفرادُه بالعبادة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
فالذِّكرُ هوَ حياةُ الحجِّ، ولأجلِه شُرِعَ الحجُّ؛ كما ورد عن النبيِّ صلى الله
عليه وسلم :
«إنّمَا
جُعِلَ رميُ الجمار، والسعيُ بينَ الصفا والمروة لإقامةِ ذكرِ الله»
(رواه أبو داود والترمذي).
يتنقَّلُ الحاجُّ بينَ المشاعرِ المقدسة؛ بينَ البيتِ الحرام، وثَرَى مِنًى،
وصعيدِ عرفات، والمشعرِ الحرام، والذِّكْرُ معَه في كلِّ مَشعرٍ، وهوَ بابُ الحج
ومِسْكُ ختامِه: {فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وهو عقيبُ كلِّ ركنٍ
منْ أركانِ الحجِ كما قالَ -تعالى- في ركنِ الحجِ الأعظم: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْـمَشْعَرِ الْـحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا
هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَـمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].
والذكرُ أيضًا هوَ معيارُ التفاضلِ في الحجِ؛ فقدْ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم :
أيُّ الحجِّ أفضل؟ قال:
«العجُّ
والثجّ»
(رواه الترمذيُّ بإسنادٍ صحيح).
والعجُّ هوَ التلبيةُ؛
كما جاءَ تفسيرُه في (مسندِ ابنِ أبي شيبة)، وعلى الذكرِ تواترتِ الأديانُ
السماويةُ، وتتابعَ عليه أنبياءُ الله -تعالى-، وكمَا ترتجُّ المشاعرُ المقدسةُ
بالتلبية، فسائرُ أمصارِ الإسلامِ ترتجُّ بالتكبير؛ اغتنامًا لقولِه صلى الله عليه
وسلم :
«مَا
مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ
مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ
وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»
(رواه الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيح).
فمن شرف هذه الأيام: منزلة الذِّكْر فيها، وهنَا يلمحُ العبدُ الضعيفُ رحمةَ الله؛
فإنَّ مَنْ ضَعُفتْ بهِ راحلتُه، وقصرتْ به نفقتُه عنْ قصدِ البيتِ الحرام، فلنْ
يعدمَ لسانًا يَذكرُ اللهَ به وهو في محلِّه بينَ أهلِه، والسباقُ إلى اللهِ سباقُ
القلوب.
ومنْ أرادَ أنْ ينالَ محبةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فليلهجْ بذِكْرِه، فالذِّكرُ
بابُ المحبةِ وشارعُها الأعظم، وصراطُها الأقوم؛ كَمَا يقولُه الإمامُ ابنُ القيمُ
-رحمَه اللهُ تعالى-.
وكَمَا يتفاضلُ أهلُ الطاعاتِ بالذِّكْر؛ فأهلُ الذِّكْرِ كذلكَ على مراتب: فأعلى
مراتبِ الذِّكْرِ هوَ مَا تواطَأَ عليهِ القلبُ واللسانُ؛ إذْ يجتمعُ في هذا
الذِّكْرِ تقوى القلبِ وذِكْرُ اللسانِ.
وإذا كانتِ القلوبُ تتقطعُ لوقفةٍ على صعيدِ عرفات، والعَبَراتُ تخنقُ النفوسَ
لفوتِ تلك الوقفة، فالعزاءُ أنَّ يومَ المباهاةِ ليسَ لأهلِ الموقفِ دونَ أهلِ
الأمصارِ، فرحمةُ اللهِ واسعة، ومِنَنُ الرحمنِ في ذلك اليومِ تشملُ الجميع، ويومُ
عرفةَ هوَ يومُ العتقِ منَ النارِ فيعتقُ اللهُ منَ النارِ مَنْ وقفَ بعرفةَ ومنْ
لمْ يقفْ بها منْ أهلِ الأمصارِ من المسلمين؛ فلذلك صارَ اليومُ الذي يليه عيدًا
لجميع المسلمين في جميع أمصارهم منْ شهدَ الموسمَ منهم ومن لم يشهده؛ لاشتراكِهم في
العتق والمغفرة كما يقوله ابنُ رجب -رحمه الله-.
فإنْ حالتِ الأعذارُ بينَك وبينَ الوقوفِ بعرفة؛ فقُمْ للهِ بحقِّه، كيفَ وقدْ
قالَ صلى الله عليه وسلم :
«صِيَامُ
يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي
قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»
(رواه مسلم).
إن يومًا كيومِ عرفةَ جديرٌ بأنْ تُغَيِّرَ جدولَ أعمالِك منْ أجلِه، إنَّه ليسَ
مجردَ يومٍ في التقويمِ، بلْ يومُ الدعواتِ والابتهالات، ولقدْ قالَ ابنُ عبدِ
البرِّ قديمًا:
«دعاءُ
عرفةَ مجابٌ كلُّه في الأغلبِ -إنْ شاءَ اللهُ- إلا للمعتدين في الدعاءِ بما لا
يرضي الله».
تقبَّل الله مِن الجميع، وحَفِظ الحُجّاج في حلّهم وترحالهم.