مُحدِّدات السلوك الانتخابي تختلف من شعب إلى آخر، ومن أُمة إلى أخرى، لكنْ يبقى الاقتصاد من أقوى المعايير التي تُوجِّه رأي الناخب وتَدفعه لاختيار حزب أو شخص بعينه.
«إنه
الاقتصاد يا غبي!»؛
هكذا كان شعار أحد الرؤساء الأمريكيين الذي استطاع به هزيمة مرشحه المنافس له،
وتبوَّأ مقعد الرئاسة. كان هذا في الانتخابات الأمريكية التي جرت بين بيل كلينتون
صاحب الشعار، وغريمه الرئيس المخضرم جورج بوش الأب، وبه اكتسح بيل كلينتون انتخابات
1993م، وصار الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة. ومن يومها صار شعار
«الاقتصاد
أولاً»
أحد أهم الشعارات في السجالات السياسية حول
العالم.
في عِلْم السياسة ما يُعْرَف بـ«السلوك
الانتخابي»،
وهو عِلْم قائم على دراسة علم نفس الجمهور المُنتخِب، وكيف يمكن اكتساب الأصوات.
فمن الناس مَن يُصوّت لحزبه أيًّا ما كانت الأوضاع، وهو صاحب ولاء مُطلَق لمن ينتمي
إليه من حزب أو زعيم سياسي. وتلعب الأيديولوجيات والأفكار دورًا محوريًّا في توجيه
أصوات الناخبين، ما بين قومي، أو ليبرالي محافظ، أو علماني، ويأتي الاقتصاد عاملاً
حاسمًا في معظم المجتمعات.
مُحدِّدات السلوك الانتخابي تختلف من شعب إلى آخر، ومن أُمة إلى أخرى، لكنْ يبقى
الاقتصاد من أقوى المعايير التي تُوجِّه رأي الناخب وتَدفعه لاختيار حزب أو شخص
بعينه.
منذ ظهور حزب العدالة والتنمية على الساحة التركية؛ كان الأداء الاقتصادي رافعة
قوية لنتائج الحزب في المعارك الانتخابية التي خاضَها، في بلدٍ تخلّلت فيه
العلمانية إلى نخاع المجتمع، كان حزب العدالة دائمًا ما يُحقّق الفوز على مخالفيه؛
«إنه
الاقتصاد أولاً»،
وهو ذاته الشعار الذي كان سببًا فيما بدا مِن تراجُع مرحلة الحسم في الانتخابات
الرئاسية الحالية في تركيا، بين الرئيس أردوغان ومنافسه كمال كليجدار. بالإضافة إلى
حزب العدالة والتنمية نفسه والذي تراجعت عدد مقاعده، وإن كان تحالفه هو الفائز
الأكبر بالانتخابات البرلمانية.
منذ ما يزيد عن العشرين عامًا، وحزب العدالة يقدّم أداء جيدًا في هذا النسق
الاقتصادي، ومع بعض التراجع به؛ اهتزت نتائج الحزب وزعيمه.
في بدايات صعود حزب العدالة والتنمية شكَّل تحالفه مع حركة
«الخدمة»
المعروفة بحركة فتح الله كولن. والتي تتألف من العديد من الأفرع والكيانات التي
انتشرت داخل المجتمع التركي، نشطت الحركة بشكل متميز في مجال التعليم، وامتلكت مئات
المدارس داخل تركيا وخارجها، إضافةً إلى المستشفيات والجامعات ووسائل إعلام، اجتذبت
الحركة عدة آلاف من الشباب التركي المُتعطِّش للعودة لهويته الدينية في ظل بيئة
علمانية متوحشة.
كان للحركة دور بارز في المجتمع، وأثر لا تخطئه العين، وبُعْد اجتماعي لا غِنَى له
للحزب الذي يحاول أن يمدّ جذوره داخل مجتمعٍ تعرَّض إلى جرعات زائدة من عمليات
طَمْس الهوية والدين.
ساءت الأوضاع بين حركة فتح كولن المقيم حاليًا في أمريكا، والذي تتّهمه الحكومة
التركية بالإرهاب، وتَمَّ حَظْر جماعته ومحاربتها، ومصادرة أملاكها لصالح الدولة
على إثر المشاركة في المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016م، وربما مِن قبلها
بعدد من الأعوام.
وبعيدًا عن أسباب الخلاف، والذي آل إلى شقاق وافتراق، وانتهى بالحظر والمنع
والمحاربة؛ فقَد حزب العدالة والتنمية ظهيرًا اجتماعيًّا لم تستطع المؤسسة الدينية
الرسيمة -رغم الدعم الذي تلقته والجهود الكبيرة التي قامت بها- أن تسدّ الخلة التي
تَركتها غياب حركة دينية كانت تتمتع بالنشاط والحيوية، وتغلغلت داخل كافة مكونات
المجتمع ومؤسساته.
عشرون عامًا في السلطة حقّق حزب العدالة والتنمية، ورئيسه أردوغان، كثيرًا من
النجاحات السياسية والعسكرية والاقتصادية. واستطاع تحجيم علمانية أتاتورك التي
ورثها المجتمع التركي، فتم إلغاء القوانين التي تمنع حجاب المسلمات، وتُحيل للتقاعد
كلّ مَن يثبت عليه من الرجال مظاهر تدين أو ممارسة شعائر الإسلام؛ فقد كان يكفي
الأستاذ الجامعي أو ضابط الشرطة أن يُتَّهم بالمواظبة على الصلاة، أو تكون زوجته أو
إحدى بناته محجبة؛ حتى يتم طرده من العمل.. كل ذلك أصبح من الماضي.
لكن ما يزال في المجتمع ثلمة تحتاج إلى حركات اجتماعية دينية تنشط في اجتذاب قطاعات
المجتمع الشاردة إلى جادته، وتُعيد للمجتمع تصوراته الإسلامية، خاصةً أن المجتمع
التركي يتميز بالحيوية؛ فهو مجتمع يُشكّل الشباب أكثريته وطاقته المُحرّكة.
ختامًا، عشرون عامًا في السلطة أحدَث أردوغان وحزبه تغييرات كثيرة في المجتمع
التركي، لكن وبلا ريب كان من الممكن أن تكون أكبر وأكثر عمقًا؛ فإعادة إحياء
الإسلام في المجتمع تحتاج إلى جهد أكبر من جهد المؤسسة الدينية الرسمية
«رئاسة
الشؤون الدينية».
على الأغلب ثمة فرصة جديدة لأردوغان وحزبه خمس سنوات أخرى في الحكم، تحتاج تركيا
إلى ما هو أكثر من نجاحات سياسية واقتصادية، تحتاج إلى تأثير أعمق وأبقى أثرًا؛
تأثير يفوق ميراث أتاتورك الذي ما زالت بصماته بادية على أجيال تعقبها أجيال في
تركيا.
وبلُغَة السياسة فـ«الاقتصاد
دائمًا ليس أولاً»،
والسلوك الانتخابي لشعوب مادية ملحدة، ليس كسلوك انتخابي لشعوب مسلمة مؤمنة.