مما يلاحظ على المستشرق (وات) أنه لا يتعامل مع الروايات بمنهج علمي محايد، بل يستدعي من الروايات ما يقوّي رأيه، ويُعرض عن باقي الروايات لغرض تضييق مساحة الخلاف بين الروايات المختلفة
ملخص البحث:
يهدف البحث إلى إبراز العيوب المنهجية العلمية التي وقع فيها المستشرق البريطاني
(مونتجومري وات)
Montgomery
Watt،
في كتابه (محمد في مكة)
Muhammad
at
Mecca،
مع بيان خطورة هذه الأخطاء، وكذا إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي
توصل إليها (مونتجومري وات)، مما يجعلنا لا نقبل أحكامه وآراءه التي أطلقها حول
السيرة النبوية.
انتهينا
في العدد الماضي إلى عرض المبحث
الأول المبحث الأول: التعريف بالمستشرق (مونتجومري
وات) وبكتابه (محمد في مكة) وفيما
يلي المبحث الثاني.
المبحث الثاني: عيوب المنهج العلمي عند: (مونتجومري وات)
أولاً: عدم استيعاب المصادر المتخصصة:
لم يستوعب الكاتب كل المصادر المتخصصة، والمصادر التي اعتمد عليها لا تُسعفه كثيرًا
في موضوعه؛ لأنها ليست شاملة ولا مستوعبة للفترة المكية، ففيها الصحيح والضعيف -ما
عدا القرآن الكريم-، ولخلوها من مصادر أخرى مهمة، كما أن مراجعة مصادر المذاهب
الإسلامية التاريخية والروائية، وشروح الحديث، وشروح السيرة كشرح السهيلي لسيرة ابن
هشام، وما دون في مُختلِف (مشكل) السيرة النبوية، وتفاسير القران الكريم، له أثر
مهم وحاسم في بناء التصورات الصحيحة أو القريبة من الواقع.
وهذه الإشكالات المنهجية من أخطر العيوب في البحث العلمي، ولإيضاح أهمية استيعاب
المصادر الأصلية المتخصصة في البحث العلمي عند أساتذة المنهجية، ننقل بعض النصوص من
كلامهم حول ذلك:
يقول شارل فيكتور لانجلوا: إذا لم يعرف المرء قبل البدء في عمل تاريخي، كيف يُحيط
نفسه بكل المعلومات الميسّرة له، فإنه يزيد بسهولة من مزالق خطر العمل على أساس
وثائق غير كافية، وهي مزالق وفيرة العدد مهما بذل من جهد، وكم مِن عمل مِن أعمال
التاريخ عُولِج وفقًا لقواعد أدقّ المناهج قد أفسده، بل قضى عليه قضاء مبرمًا، أمر
مادي بسيط هو أن المؤلف لم يقف على وثائق كان من شأنها أن تُوضّح تلك التي كانت في
متناول يده -واقتصر عليها- وأن تكملها أو تنقضها[1].
ويتفق أساتذة المنهجية على أن مِن أهم واجبات الباحث، إن لم يكن من أولويات البحث،
أن يُحيط إحاطة تامة بمصادر بحثه الأصلية التي تكون شديدة الصلة به[2].
ثانيًا: الانتقائية في الروايات:
تُعد روايات المشهد النبوي من المصادر الأساسية لدى الباحث في السيرة النبوية،
وبينت آنفًا أقوال المختصين في أهمية استيعاب المصادر الخاصة بموضوع البحث، ونبين
هنا أقوال علماء الحديث في أهمية جمع طرق الحديث:
روى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع عن الإمام أحمد بن
حنبل، يقول:
«الحديث
إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفسّر بعضه بعضًا»[3].
وروى عن علي بن المديني، قال:
«الباب
إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه»[4].
ومما يلاحظ على المستشرق (وات) أنه لا يتعامل مع الروايات بمنهج علمي محايد، بل
يستدعي من الروايات ما يقوّي رأيه، ويُعرض عن باقي الروايات لغرض تضييق مساحة
الخلاف بين الروايات المختلفة، وبفعل هذا المنهج يصور المسألة كأن لا خلاف فيها،
وخير مثال على ما ذهبت إليه حديثه عن رؤيا خالد بن سعيد “أنه كان واقفًا على شفا
حفرة من النار، وأن أباه كان يحاول أن يدفعه إليها”[5]،
بينما لم يذكر الرواية التي تفيد أنه رأى قبل المبعث بيسير نورًا يخرج من زمزم، حتى
ظهرت له البسر في نخيل يثرب، فقصَّها على أخيه عمرو، فقال له إنها حفرة عبد المطلب،
وإن هذا النور منهم فكان ذلك سبب مبادرته إلى الإسلام.[6]
ومن منهجه إبهام الروايات، ونقصد بالإبهام هنا: أنه يشير إلى وجود الرواية
ولا يفصح عن حالها ولا عينها، ويرجع ذلك إلى عدم استقصاء كل المصادر؛ بل يكتفي إما
برواية الطبري أو رواية ابن إسحاق أو رواية ابن سعد في الطبقات، فلو جمع بين كل
الروايات الواردة في المسألة الواحدة لوصل إلى نتائج تكشف له الحقيقة، وترفع عنه
هذا الشك الذي يجول في فكره.
ونوضح ذلك بقوله: “وثمة روايات عن صعوبات واجهها محمد صلى الله عليه وسلم مع
أفكار عثمان بن مظعون”[7]؛
فأنت ترى أنه لم يعيّن تلك الروايات، خاصة في قضية مهمة كقضية شقاق بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم وبين عثمان بن مظعون؛ على حد تعبيره.
ثالثا: اعتماد منهج الإسقاط
projection:
الإسقاط هو رؤية الكاتب للحدث التاريخي وتفسيره له برؤيته الخاصة التي تتحكم فيها
ظروف عصره وأحاسيسه الباطنية[8].
قال عبد الله النعيم:
«وهو
إسقاط الواقع المعاصر المعاش على الوقائع التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ
فيفسرونها في ضوء خبراتهم ومشاعرهم الخاصة وما يعرفونه من وقع حياتهم ومجتمعاتهم»[9].
وحذّر المؤرخ الكبير
«هرنشو»
من الإسقاط في العمل العلمي، وعبّر عن صعوبته بقوله:
«أما
حذر المؤرخ الدائم فيجب أن يوجه إلى عدم تشخيص الحركات والنظم الماضية بالحركات
والنظم الحاضرة، ذلك أن الطريقة التي نسير عليها لنفهم المجهول (الماضي) بالتدرج من
المعلوم (تجربتنا الخاصة بنا) هو أمر لا نستطيع التهرب منه إلا بشق الأنفس»[10].
فهل التزم
«وات»
بهذه القاعدة التي قررها
«هرنشو»
وغيره من علمائهم؟
نموذج إسقاطي:
يتحدث
«وات»
في الفصل الرابع من كتابه
«محمد
في مكة»
الموسوم بـ«طبقات
المسلمين الأوائل»
عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى دخولهم في الإسلام، وقد أرجع
«وات»
تلكم الأسباب إلى أسباب: اجتماعية، واقتصادية، وسياسية. فما صحة هذه الدوافع
والأسباب؟
الدوافع
الاجتماعية:
قسم المؤلف المسلمين الأوائل إلى ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى:
تنتمي إلى أُسَر بيدها الحل والعقد داخل القبيلة.
والطبقة الثانية:
أقل درجة عن الأولى، لكنها لا تخرج عن دائرة السلطة والنفوذ داخل التنظيم القبلي.
أما الطبقة الثالثة:
فتتكون من المستضعفين.
من خلال هذا التقسيم حاول المؤلف أن يُقعّد لنظرية التأثير القَبَلي (البيئة
الاجتماعية) في تفكير الأفراد، ولعل الكاتب يقصد: أن الوضع الاجتماعي الذي يعيشه
الفرد داخل مجتمعه أو قبيلته يوجّه تفكيره واعتقاده، والمؤلف له حظ من الصواب في
فكرته، ولا يمكننا أن ننكر هذا التأثير بطبيعة الحال، كما لا نقبل بإسقاط نظرية
التأثير القَبَلي على إسلام الصحابة -رضوان الله عليهم-، فالقياس بين واقع الصحابة
وواقع الحركة الشيوعية في أوروبا قياس مع وجود فارق.
وذكر
«أن
الإسلام الشاب كان في جوهره حركة شبابية»[11]،
وهؤلاء الشباب عاشوا في وسط اجتماعي يستحوذ على السلطة والزعامة[12]
ينتشر فيه الظلم والقهر[13]. والشاب عادة عندما يعيش في مجتمع يتسم بهذه السمات لا محالة
سيبحث عن الرقي الاجتماعي، ويبحث كذلك عن الحماية، خاصة إن عاش في أُسرة تمتلك
السلطة ولا يجد لها سبيلاً، أو أنه تعرَّض لظلم وسلب للحق.
من هنا نرى الكاتب يحاول أن يُسقط هذه الصورة على السابقين للإسلام حينما
قسَّمهم ذلك التقسيم الذي أشرنا إليه سابقا.
فتعبيره بلفظ ضعاف الناس في هذا السياق الذي ألمعنا إليه آنفًا يُوهم بكون أوائل
المسلمين ما أسلموا إلا ليتخلصوا من اضطهاد وتعذيب القبيلة لهم، والبحث عن الحماية
داخل الإسلام، وخفي عن السيد
«وات»
أن التعذيب لم يبدأ إلا بعد إعلان المسلمين لإسلامهم، فَلِمَ يبحثون عن الحماية
المزعومة قبل الإسلام؟
بل الدافع الأساسي في اعتناقهم الإسلام يكمن في اقتناعهم بمبادئه وأخلاقه، ويبدو
أن المؤلف أغفل أو تغافل عن الروايات التي تصرّح بأخلاق الدين الخاتم وعظمته، ومنها
قول عروة بن مسعود:
«أي
قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت
ملكًا قط يُعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا»[14].
ونحن نسأل السيد (وات) ما السر وراء هذا الارتباط؟ أليست أخلاق الرسول صلى الله
عليه وسلم هي السبب الرئيسي في هذا التعظيم؟
الدوافع السياسية:
يُفسّر المستشرق (وات) تلك الدوافع تفسيرًا سياسيًّا، ويحاول أن يحصر قضية الإسلام
في قضية سياسية صرفة، ويستبعد الجانب الديني ويضعه في رتبة متأخرة عن الأسباب
المادية الثلاثة (المجتمع، السياسة، الاقتصاد)، واستدل بهجرة خالد بن سعيد وإقامته
فيها على عدم اتفاقه مع سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا استدلال غير مقنع تمامًا، وقد شهد غير واحد من المخالفين ببُعْد الإسلام عن
الأطماع السياسية، بل اهتم بالتوحيد ومكارم الأخلاق، فلما قوي الإسلام؛ بدأ التفكير
في بناء دولة المدينة. فالكاتب وقع في تعارض مع المعلوم بالضرورة من التاريخ، فكيف
لأوائل المسلمين أن يفكروا في الزعامة السياسية وهم في حالة الضعف؟ كما صرح بذلك
الكاتب بنفسه عندما ذكر الفئة الثالثة.
ودَفْع هذا الوهم لا يحتاج إلى كبير عناء، بل يكفي أن نُمثِّل بقول هرقل لأبي
سفيان:
«وسألتك
هل كان من آبائه مِن مَلِك؟، فذكرت أن لا، قلت فلو كان من آبائه مِن مَلِك، قلتُ
رجل يطلب ملك أبيه»[15].
فهذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة الكرام تخرّجوا من مدرسته صلى
الله عليه وسلم فكيف يمكن لهم أن يتشوّفوا للسياسة وقد تأثروا بمنهجه صلى الله
عليه وسلم خاصة في مرحلة الضعف والتنكيل؟
الأسباب الاقتصادية:
عبّر المؤلف عن الإسلام باعتباره حركة نضال بين الذين يملكون والذين امتلكوا منذ
وقت قريب[16]، فهذه عبارة تدل على أن الكاتب
يعتمد على آلية القياس؛ إذ يقيس الإسلام بالثورة الشيوعية في أوروبا، ومن خلال هذا
القياس يحاول أن يصل إلى فكرة مفادها أن أوائل الصحابة جعلوا من الإسلام وسيلةً
للوصول إلى أغراض اقتصادية.
ووقائع التاريخ تشهد بغير ذلك فهذا سلمان الفارسي كان مُنعَّمًا في أُسرته، ومع كل
الإمكانات المادية خرج يبحث عن الحقيقة حتى وجد ضالته في الإسلام. وهذا الصِّدِّيق
-رضي الله عنه- قد تصدَّق بجميع ماله، فكيف يمكن حصر همة {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] في أمر اقتصادي مادي
صرف؟!
فبعد تحليلنا لهذه الأسباب والدوافع؛ يتبن أن المؤلف حاول إسقاط التأثيرات البيئية
(الأوروبية) المعاصرة على وقائع دخول الصحابة -رضوان الله عليهم- في الإسلام، وكل
باحث يعتمد في بحثه على منهج الإسقاط، فإن نتائجه لا تكشف الحقيقة، ولا تزيل لثام
الشك عن وجه اليقين.
رابعًا: تأثير الأفكار القبْلِية في نتائج البحث:
من الأسباب التي تؤدي بالباحث إلى نتائج خاطئة في العملية البحثية الفكرية؛
الانطلاق من الأفكار القبلية أو المُسلَّمات الأولية في معالجة القضايا التي يتطرق
لها في بحثه، والملاحظ أن المؤلف تَوخَّى العدل والإنصاف -الموضوعية- في دراسته
للفترة المكية، إلا أنه لم يستطع التخلص من تأثير أفكاره القبلية في نتائج دراسته.
وخير مثال يوضح ذلك: تفسيره تحنُّث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بفراره
صلى الله عليه وسلم من حرّ مكة خلال فصل الصيف؛ لأنه لا يستطيع التوجه للطائف،
مُسقطًا مُسلَّماته المبنية على واقعه المعيش لتسويغ الحادثة مُبعدًا لها عن ما ذكر
في كتب السُّنة عن بدايات نبوته صلى الله عليه وسلم .
ومثال آخر على تأثير الأفكار القَبلية في نتائج البحث: تبرير
«وات»
هجرة المسلمين إلى الحبشة برغبتهم في مساعدة عسكرية، وتحويل الحبشة إلى قاعدة
لمهاجمة تجارة مكة، ومحاولة إيجاد طريق جديد لتجارة الجنوب لا يمر بمكة، ووجود
خلافات حادة في الرأي داخل صفوف المسلمين. وهو ما يُرجّحه
«وات»
ويبني عليه أن هذه الهجرة لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، رافضًا كل
الأسباب والدوافع الوجيهة والحقائق التاريخية، ليصل إلى النتيجة التي يريدها، وهي
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينجح في بداية دعوته مع أصحابه.
وهذا التحيز أو التأثير يُعتبر من أشد نواقض الموضوعية وقوادحها؛ إذ يحذر أساتذة
المنهج العلمي الباحثين من الوقوع في التحيز لقومية أو فكرة أو مبدأ أو شخص أو
مذهب؛ لأن ذلك يتعارض مع مبدأ الموضوعية، وسأورد فيما يلي نصوصًا لبعض المختصين
تؤكد هذه الحقيقة:
يقول روبرت ثاولس[17]: من الأمور التي تجعلنا
ميالين إلى التفكير الأعوج؛ تحيزاتنا التي هي: طرق في التفكير تقررها سلفًا قوى
ودوافع انفعالية شديدة، كالتي يكون مصدرها منافعنا الذاتية الخاصة، أو ارتباطاتنا
الاجتماعية[18].
ويضيف: إننا نكون تحت تأثير الهوى والتحيز في آرائنا ميالين إلى تصديق ما نرغب في
تصديقه، أو ما نحتاج إليه أن يكون صحيحًا، وإلى إنكار ما نرغب في إنكاره، أو ما
نحتاجه أن يكون باطلاً[19].
ويقول فؤاد زكريا عن أخطار التعصُّب على المنهج العلمي:
«وأعظم
الأخطار التي يجلبها التعصب على العلم، هو أنه يجعل الحقيقة ذاتية، ومتعددة
ومتناقضة، وهو ما يتعارض كلية وطبيعة الحقيقة العلمية... كما ينطوي التعصب على
تفكير أسطوري -خرافي- يتّسم بطابع وهمي ومختلق، وهو بطبيعته يشجع التفكير غير
العقلي؛ لأنه هو الدعامة الوحيدة لموقفه»[20].
ويقول أحد الباحثين المختصين في منهجية البحث التاريخي: إذا وقع الباحث في أَسْر
التعصب، كان من السهل وَصْمه بالذاتية التي هي نقيض الموضوعية والعلم[21].
إن هذه النصوص -وغيرها- تُبيّن لنا أن الباحث المتحيز لا يمكن أن تكون نتائج بحثه
علمية بأيّ حال من الأحوال[22].
خامسًا: الشك غير المنهجي:
الشك المنهجي مطلوب في البحث العلمي بوصفه خطوة أولى هدفها هو التثبت من الأمر،
ومِن ثَم نجد المختصين في المنهجية يعطون للشك المنهجي مكانة مهمة، لذلك قالوا:
«كل
ما لم يثبت بعدُ، ينبغي أن يظل مؤقتًا موضوعًا للشك»[23].
وقد عرّف مجمع اللغة العربية الشك المنهجي بأنه:
«مرحلة
أساسية من مراحل منهج البحث في الفلسفة، وقوامها تمحيص المعاني والأحكام تمحيصًا
تامًّا بحيث لا يُقبل منها إلا ما ثبت يقينه، ومن أبرز من قال به الغزالي ثم
ديكارت. فعلى الباحث أن يُحرّر نفسه من الأفكار الخاطئة
«بالشك»،
وأن يتروَّى فيما يعرض له، فلا يتسرع في حكمه»[24].
وعرّفه الأستاذ جبور عبد النور بأنه
«موقف
يتميز عن الشك الارتيابي بأنه وقتي، ويسلم بالمقدرة على بلوغ حقائق أكيدة شرط
التمكن من التدليل عليها»[25].
وعليه فلا بد للشك حتى يكون علميًّا من معايير موضوعية علمية بعيدة عن الذاتية
والتحيز، ولا بد أن يكون مبنيًّا على بينة أو قرينة مقبولة، فإذا خلا الشك من هذه
الشروط؛ خرج من دائرة الشك المنهجي إلى دائرة الشك غير المنهجي، وهو ما حذَّر منه
أساتذة المنهجية.
يقول
«لانجلوا»:
«ينبغي
ألا نسيء استعماله، فإن الإفراط في الشك والاتهام في هذه الأمور، يكاد يكون له نفس
النتائج الضارة، في الثقة والاعتقاد»[26].
ويقول الدكتور علي جواد الطاهر:
«الشك
ضروري على أن يكون علميًّا، وفي حدود الحقيقة، وأن يقع في السلب والإيجاب، وفيما
لنا، وما علينا، أما الشك المرضي أو الشك الذي تدفعك إليه نزوة في مخالفة
المألوف... فهو خارج حدودنا، وليس من وكدنا»[27].
وبعد أن ألممنا بموقف المختصين في منهجية البحث العلمي من
«الشك
المنهجي»
و
«غير
المنهجي»،
فلننظر ماذا فعل
«وات»؟
تشكيكه في المرويات المتداولة عن أوائل المسلمين:
لقد استهل
«وات»
فصله الرابع[28] بأسلوب تعليلي، أراد أن يُبرهن
من خلاله على ضعف صحة الروايات
المتداولة عن أوائل المسلمين رابطًا بين عامل النَّبَالة الذي يقوم -حسب زعمه- على
خدمة قضية
المجتمع، وبين تصديق المسلمين لما قاله أو كتبه أجدادهم، ضاربًا عُرض الحائط بعِلْم
مصطلح الحديث
والجرح والتعديل، اللذين امتازت بهما الأمة الإسلامية عن باقي الأمم، كما أنه
تمادَى في افتراضاته التي لا تستند إلى أيّ دليل علميّ حين قال:
«وإذا
وجدنا قولاً عن واحد من هؤلاء منسوبًا إلى أحد سلالته أو المعجبين به مؤداه أنه كان
من بين المسلمين الاثني عشر الأوائل، فلا بد أن نستنتج ونحن مطمئنون أنه كان في
الخامسة والثلاثين من عمره»؛
زاعما بذلك أن الحمية العرقية أو الإعجاب هما الدافع الأساسي لأسلافنا عند حديثهم
عن أوائل المسلمين، غاضًّا الطرف عما بذله العلماء المسلمون من مجهودات في سبيل
النقد والتمحيص للمرويات، حاملين شعار
«سَمُّوا
لنا رجالكم»،
كأن لم يطرق سمعه قصة جابر بن عبد الله المذكورة في أحد مصادره
«مسند
الإمام أحمد»،
وكذلك ترجم بها الإمام البخاري بقوله:
«باب
الخروج في طلب العلم، ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في
حديث واحد.
وقد أكثر وات من استعمال الألفاظ التشكيكية من قبيل:
«لكن
هناك اختلافات حادة بشأن أول من أسلم من الرجال، ورغم وجود أساس للشك في الروايات
المتعلقة بأوائل المسلمين»
[29]،
«ومن
المستبعد أن هؤلاء الخمسة كانوا قد أتوا الرسول مجتمعين... في مرحلة مبكرة جدًّا من
تاريخ الإسلام»[30].
الخاتمة
وفي الختام نخلص إلى النتائج الآتية:
أولاً:
حاول المؤلف أن يلتزم الحياد والموضوعية، لكنَّ نزعته المادية طغت على أفكاره في
غير ما مرة في كثير من القضايا.
ثانيًا:
لا يُنكر المؤلف الدوافع الدينية جملةً وتفصيلاً، وإنما يحاول أن يقلل من شأنها،
ويضعها بعد الأسباب المادية الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ثالثًا:
وقع الكاتب في مزالق منهجية، وهذا يجعلنا نرفض استنتاجاته، ولا نطمئن لمنهجه
العلمي، وقد حدّدنا أهمها في الأمور الآتية:
1- عدم استيعاب المصادر المتخصصة.
2- الانتقائية في الروايات.
3- اعتماد منهج الإسقاط.
4- تأثير الأفكار القبْلِية في نتائج البحث.
5- الشك غير المنهجي.
وعليه يجدر الاهتمام بالدراسات النقدية؛ لكشف العيوب المنهجية في أعمال المستشرقين
المتعلقة بالسيرة النبوية، المنافية للعمل الأكاديمي، وربط علاقات بين الباحثين في
الدراسات الإسلامية والمختصين في اللغات الأجنبية؛ لإنجاز أبحاث علمية محكمة ونشرها
في مجلات غربية، ومشاركة نتائجها على وسائل الاتصال الحديثة.
لائحة المصادر والمراجع
أصول البحث العلمي ومناهجه، أحمد بدر، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 4، 1978م
البحث في التاريخ، د. عصام الدسوقي، دار الجيل بيروت، ط1، 1411هـ.
التفكير العلمي، د. فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، 1412هـ.
التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، روبرت ثالوس، ترجمة حسن سعيد الكرمي، سلسلة كتب
عالم المعرفة، الكويت، ط 1، 1399هـ.
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، لخطيب البغدادي، تحقيق محمود الطحان، مكتبة
المعارف، الرياض.
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه،
البخاري، تحقيق محمد الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى 1422هـ.
الروض الأنف، السهيلي، تحقيق السلامي، دَار إحْيَاء التراث الْعَرَبِيّ، بيروت،
الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م.
فلسفة العلوم الميثودولوجيا، د. ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية،
بيروت، ط 1، 1997م.
محمد في مكة، مونتجومري وات، ترجمة د. أحمد شلبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
1994م.
مدارس السيرة النبوية، د. محمد اليولو، دار التوحيد، الرياض، ط 1، 2017م.
المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية، صالح بن حمد العساف، الرياض، ط 1، 1409م.
المدخل إلى الدراسات التاريخية، مطبوع ضمن كتاب النقد التاريخي، أنجلوا وسينوبوس،
ترجمة عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط4، 1981م.
المدخل إلى مناهج البحث العلمي، د. محمد محمد قاسم، دار النهضة العربية، بيروت، ط
1، 1999م.
مزالق في طريق البحث اللغوي والأدبي وتوثيق النصوص، د. عبد المجيد عابدين، دار
النهضة العربية، بيروت، ط 1، 2001م.
المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1980م.
المستشرقون والسيرة النبوية، عماد الدين خليل، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1،
1426ه.
المعجم الأدبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1983م.
المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية في مصر، الهيئة العامة لشؤون الطباعة الأميرية،
1403ه.
مناهج البحث العلمي، د. بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 3، 1977م.
المنطق وفلسفة العلوم، بول موي، ترجمة د. فؤاد حسن زكريا، مكتبة دار العروبة،
الكويت، 1401م.
المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، ديكارت، ترجمة فواز الملاح
ومحمود الصالح، دمشق، ط 1، 1988م.
منهج البحث التاريخي، د. حسن عثمان، دار المعارف، القاهرة، ط 4.
منهج البحث في الأدب واللغة، لانسون وماييه، ترجمة د. محمد مندور، دار العلم
للملايين، بيروت، ط 2، 1982م.
البروفيسور مونتجومري وات، مقال لكارول هيلين براند:
https://www.independent.co.uk/news/obituaries/professor-montgomery-watt
إسقاطات المستشرقين والحداثيين والعقلانيين في كتابة السيرة النبوية: دراسة نقدية:
ص 89. مجلة الإبراهيمي للآداب، جامعة برج بوعريرج، العدد 3 - جوان 2020م.
[1] النقد التاريخي، لأنجلوا وزميله سينوبوس: (ص 5 - 6).
[2] مناهج البحث العلمي: (ص 184 - 185)، مزالق في طريق البحث اللغوي والأدبي: (ص
25).
[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي: (2/ 212).
[4] المصدر نفسه.
[5] محمد في مكة: (ص 189).
[6] ينظر: الروض الأنف للسهيلي: (2/ 115).
[7] محمد في مكة: (ص 188).
[8] إسقاطات المستشرقين والحداثيين والعقلانيين في كتابة السيرة النبوية: دراسة
نقدية: (ص 89).
[9] الاستشراق في السيرة: (ص 34).
[10] علم التاريخ، هرنشو: (ص 117 - 120).
[11] محمد في مكة: (ص187).
[12] قال المؤلف: الذين أصبحوا على وعي بالتفاوت بينهم وبين أولئك المتربعين على
القمة (ص 188).
[13] قال المؤلف: لم يُعطه أحد حماية فعالة (ص 186)، وانظر كذلك إلى التعريف الذي
اختاره لكلمة المستضعفين وعزاه لابن سعد (ص187).
[14] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل
الحرب، رقم الحديث2731.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم الحديث
7.
[16] محمد في مكة: (ص 188).
[17] روبرت هنري ثاولس يعمل أستاذًا بجامعة كمبردج وشغل منصب محاضر في علم النفس
بجامعتي مانشستر وجلاسجو، وله عدة كتب في علم النفس منها: سيطرة العقل، وعلم النفس
العام والاجتماعي.
[18] التفكير المستقيم والتفكير الأعوج: (ص 183).
[19] التفكير المستقيم: (ص 187).
[20] التفكير العلمي: (ص 99 -101).
[21] البحث في التاريخ: (ص 20).
[22] ينظر: المنهج لإحكام قيادة العقل لديكارت: ص36، والمنطق وفلسفة العلوم: (ص 58
- 59)، وأصول البحث العلمي: (ص 58،59، 61)، وفلسفة العلوم الميثودولوجيا: (ص 99)،
والمدخل إلى البحث في العلوم السلوكية: (ص 297)، ومنهج البحث التاريخي، (ص 19)،
والمدخل إلى مناهج البحث العلمي، (ص 26 - 27).
[23] المدخل إلى الدراسات التاريخية: (ص 122).
[24] المعجم الفلسفي: (ص 103).
[25] المعجم الأدبي: (ص 154).
[26] المدخل إلى الدراسات التاريخية: (ص 75).
[27] منهج البحث الأدبي: (ص 46).
[28] محمد في مكة: (ص 171).
[29] المصدر نفسه: (ص 171).
[30] المصدر نفسه: (ص 172).