وهناك دَفْع مِن القوى الغربية لصناعة شرعيتين داخل الدولة، عبر آليات التفاوض والاتصالات والتواصل مع طرفي الأزمة على قدم المساواة، وهي نفس اللعبة التي جرت في اليمن،
يحمل الصراع الجاري في السودان ملامح استراتيجية خطيرة، ينبغي فهمها وتدبُّر
مآلاتها حتى يستعد صانع القرار للتعامل مع نتائجها المتوقعة. وهي خطيرة. وحتى تكون
هناك رؤية بديلة أمام النُّخب والجمهور العام في مواجهة ما يجري من حصر الاهتمام في
متابعة تطورات القتال -بطريقة أقرب لمتابعة مباراة كرة قدم-، دون إدراك لأبعاد
المأزق الخطير الذي دخله السودان، وجوهره حدوث التغيير الذي استهدفه الغرب في
معادلات القوة في مركز الدولة، وإجهاد قلب الدولة، وإضعاف قدرته على الحفاظ على
جغرافيا الدولة وتماسك المجتمع، ونزع مشروعيته في أداء دوره. وإن ما يجري الآن هو
التمهيد والتحضير لإطلاق حرب أهلية شاملة لإعادة تقسيم السودان.
بدأت الأحداث الأخيرة، بمظاهرات رفعت شعارات الديمقراطية، وإقصاء البشير -والحركة
الإسلامية من الحكم-؛ فتقاطرت الوفود الغربية، بل حتى الصهيونية، لحَرْف اتجاهات
الحركة الشعبية، ونقل الأزمة من مربع الحراك الشعبي إلى مربع التفجير العسكري، في
تكرارٍ لما جرى في تدخلات سابقة في أزمات مشابهة في المنطقة.
لقد تدخلت الأطراف الغربية تحت ذات العناوين والممارسات المحفوظة -بفعل تكرارها في
أكثر من أزمة بالمنطقة-؛ من القيام بدور الوساطة والمساعدة في تقريب وجهات النظر،
وتعزيز أدوات التحول الديموقراطي، وزادت عليها -ادّعاء- بالعمل لإعداد البلاد لرفع
العقوبات الدولية المفروضة على السودان خلال حكم البشير. لكنَّ الأمر انتهى إلى
إعادة توصيف الأزمة وصناعة اصطفافات جديدة تشارك وتتوزع فيها مكونات القوة الصلبة
للدولة.
لقد أفضت المظاهرات والمفاوضات والصراعات والوساطات الغربية -إياها- إلى نقل الصراع
وتحويله من السياسي والجماهيري بين ما وُصِفَ بالقوى المدنية والسلطات العسكرية،
إلى صراع حربي بين طرفين كانا يُمثّلان حتى وقت قريب
«قلب
الدولة»
-إذ تجري الآن حرب بين قوتين عسكريتين رسميتين-، كما يجري الدفع الآن لكي يسقط
السودان في أتون حرب أهلية شاملة؛ إذ يتحرك الطرفان العسكريان ضمن وفي داخل
اصطفافات جديدة مع القوى السياسية، ليكون الصراع شاملاً.
لقد بدأ الصراع الحربي بغتة، وتبعته حالة من إعادة تموضع سياسي لطرفي الحرب.
صارت قوات الدعم السريع متخندقة مع قوى سياسية مع تلك التي كانت بدأت المظاهرات،
وباتت قيادتها تطلق تصريحات لتظهر نفسها في موضع الجناح العسكري للمجموعات التي
ترفع شعارات الحكم المدني وبناء النظام الديمقراطي. بينما الطرف العسكري الآخر
المتمثل في القوات المسلحة، يرى أن ما يجري هو تمرُّد عسكري على الدولة وتخريب
لمُقدّرات المجتمع، وبات يسعى لحَشْد الدعم من قوى سياسية وشعبية، تحت عنوان الحفاظ
على الدولة، وبناء نظام سياسي يحظى بمشروعية من مختلف قوى المجتمع عبر آليات
ديمقراطية.
وهناك دَفْع مِن القوى الغربية لصناعة شرعيتين داخل الدولة، عبر آليات التفاوض
والاتصالات والتواصل مع طرفي الأزمة على قدم المساواة، وهي نفس اللعبة التي جرت في
اليمن، حين وضعت الانقلابيين والمتمردين الحوشيين -وميليشيات أخرى- على نفس درجة
الشرعية مع نظام الحكم وجيش الدولة الرسمي عبر ذات الآليات، وهو ما يَفتح الباب
أمام صراع لا يُحْسَم إلا بيد القوى الغربية ذاتها، باعتبارها من يُمسك بصكوك
الاعتراف بشرعية أيٍّ من الطرفين؛ إذ تقدم نفسها كممثل ونائب عن المجتمع الدولي.
لقد هيَّأت القوى الغربية البلاد لوقوع حرب أهلية شاملة في وقتٍ ليس ببعيد، وهي
تسعى الآن للانتقال من تفكيك قلب الدولة إلى الحرب الأهلية لينتهي الأمر إلى
التقسيم في ظل غياب قوة دولة قادرة على التصدي.
وإن لم تحدث صحوة تأخرت لنحو 70 عامًا في هذا البلد، وإن لم يُعَد ترتيب المفاهيم
والرؤى على أرضية مختلفة عن كلّ ما جرى منذ الاستقلال وحتى الآن؛ فلا مناص من
اكتمال مخطط تشكيل دولتين جديدتين؛ الأولى في دارفور، والثانية في الشرق، بل لا
مناص من وقوع تقسيم لما يتبقى بعد هذا التقسيم، ضمن حركة استراتيجية جديدة ستمتد
آفاقها إلى ترتيبات أبعد باتجاه دول الجوار.
ذلك أن كل ما يجري الآن من حرب ليس وليدًا للأزمة الأخيرة، أو لتلك الأحداث التي
بدأت بالإطاحة بحكم البشير، بل هو حلقة جديدة من حلقات إنفاذ رؤية استراتيجية سبق
رَسْم إطارها العام وإنفاذ مراحلها الواحدة تلو الأخرى قبل إعلان استقلال السودان.
لقد عاش السودان تحت حصار تم فرضه وقرار حضاريّ-استراتيجي بإضعاف السودان حتى
تفكيكه؛ إذ هو دولة إن استقرت وتطورت تقلب التوازنات في إفريقيا والقرن الإفريقي
والشرق الأوسط. كان قرار إضعافه ومَنْعه من بناء دولته وتحقيق الاستقرار والتنمية،
وصولاً إلى تقسيمه، قد صدر في بريطانيا، وبدأ إنفاذه منذ عشرينيات القرن الماضي
(1922م)، ضمن سياق رؤية استراتيجية وحضارية شاملة، صارت من بعد أحد ثوابت إدارة
التوازنات الدولية.
وقد مكَّن لتحقيق تلك الاستراتيجية الشاملة: فَشل النخب السودانية التي تداولت
الحكم بعد الاستقلال، في تشكيل هوية وطنية جامعة لمختلف مكونات السودان الجهوية
والعرقية والقبلية واللغوية -إلى درجة أخَّرت اعتماد دستور دائم للبلاد-؛ إذ تصارعت
النخب المدنية والعسكرية على مناصب الحكم، في دورات متعاقبة وفق ثنائية الحكم
المدني الذي يعقبه حكم عسكري، والعكس، بما حال دون بناء الدولة ودون تحقيق هوية
جامعة.
لقد عاش السودان منذ الاستقلال مراحل من الحكم المدني، وأخرى من الحكم العسكري. ولم
يكن الحكم المدني سوى نموذج من ديموقراطية فطرية، تجري خلالها الانتخابات وتقسيم
مواقع ومناصب السلطة على أساس الانتماء القبلي والجهوي والطائفي، لا على أساس
البرامج. وعاش السودان مراحل حكم عسكري بعد انقلابات عسكرية سرعان ما كان يُطلَق
عليها تعبير الثورة، وهي الأخرى لم تَخْلُ من نفس العوامل الطائفية والجهوية
والقبلية.
فساهمت تلك الحالة من التقلب في الصراعات، في تعويق بناء الهوية المشتركة، وأفشلت
بناء مؤسسات الدولة، بل حتى المؤسسات المدنية في المجتمع، وهو ما حوَّل الميزات
الاستراتيجية للسودان على صعيد الجغرافيا والثروة والهوية، التي خوفت المستعمرين من
استقراره ودفعتهم لقرار تقسيمه إلى منافع استراتيجية لتحقيق هدف إضعافه وتقسيمه.
وهو ما تحقق في مرحلته الأولى في عام 2011م.
وفور تحقيق هذا التقسيم، بدأت المرحلة الثانية، بالاقتتال والتدويل في دارفور،
وإشعال المظاهرات والتوترات في الشرق عبر آليات وأدوات متعددة. وتطورت عبر الإطاحة
بحكم البشير والحصول على شرعية للتدخل الدولي في قلب بنية الدولة السودانية لإزاحة
القوة العسكرية أو المكوّن الصلب الذي يمثل السّد المانع في مواجهة عملية التقسيم
القادمة التي تجري هذه المرة في القلب الجغرافي الذي منَح للدولة والقوة العسكرية
شرعية وجودها تاريخيًّا.
-
فشل النُّخب العسكرية والمدنية
لم يشهد السودان غزوًا عسكريًّا أجنبيًّا بعد استقلاله. وقد جرت كل عمليات إنفاذ
الاستراتيجيات الغربية -وفي القلب منها الصهيونية- عبر الصراعات الداخلية المتعددة
والمتطاولة، التي جرت تحت وقع الحصار الخارجي الذي تواصل عبر مختلف الأنظمة التي
حكمت في السودان دون استثناء.
لقد عاش السودان بعد استقلاله عام 1956م، أعقد حالات ثنائيات الصراع بين المدني
والعسكري؛ إذ تبادل المدنيون والعسكريون السيطرة على السلطة بالانقلابات والثورات،
وهو ما منع تحقيق الاستقرار، وأضعف مشروعية نُظُم الحكم، وعرقل جهود تشكيل هوية
موحدة، أو دولة مستقرة متماسكة قادرة.
لقد فشلت النخب السودانية، السياسية منها والعسكرية -على تعدُّد مشاربها وأدوارها-
في بناء هوية وطنية جامعة، وفي بناء دولة ذات مشروعية مؤكدة، تتمتع بالتماسك
والاستمرار، فسقطت البلاد في أتون مِرْجل دائم الاشتعال من الصراعات الإقصائية،
الفكرية والجهوية والعرقية والطائفية عبر تاريخه. وهو ما يدفع للقول بأن أغلب
النُّخب في السودان -مدنيةً كانت أو عسكريةً- لم تكن سوى رَجْع صدًى للاختلافات
والمكونات الجهوية والعرقية والقَبَلية في المجتمع السوداني متمدّد الأطراف ومتعدّد
الثقافات والانتماءات، والمفتوحة حدوده على مختلف دول الجوار.
بدأ السودان المستقل حياته السياسية في مطلع عام 1956م، تحت حكم مدني قاده إسماعيل
الأزهري (الزعيم) الذي قاد مؤتمر الخريجين منذ عام 1947م، ومثَّل الجهة السودانية
المتحدثة باسم السودان في هذا الوقت.
وإذ كان افتتاح البرلمان الأول للسودان شاهدًا على كل ما هو آتٍ بما حدث من نزاع
بين الأنصار والختمية، فلم يمضِ سوى عامين من الحكم المدني حتى وقع انقلاب عسكري
قاده الفريق إبراهيم عبود، تحت عنوان
«إنقاذ
البلاد من الفوضى والنزاعات الطائفية التي شهدها السودان طوال عامي الحكم المدني».
واصل عبود حكمه العسكري ست سنوات، ليشهد السودان أول ثورة ضد الحكم العسكري في عام
1964م، ويعود للحكم المدني. لكن الحكم المدني لم يستمر هو الآخر سوى 5 سنوات؛ إذ
قاد الفريق جعفر نميري انقلابًا عسكريًّا جديدًا للسيطرة على السلطة في عام 1969م.
وقد استمر نميري في الحكم إلى عام 1984م، ليجري خَلْعه بثورة أخرى نَقلت البلاد من
الحكم العسكري إلى المدني، وكان عنوان الانتقال فيها هو الفريق سوار الذهب.
وعاد الأمر للتكرار مجددًا. فلم تمر سوى 5 سنوات -كانت مليئة بضجيج الخلافات
والصراعات وعدم الاستقرار- حتى قاد الفريق عمر البشير انقلابًا عسكريًّا في يونيو
1989م، تحت عنوان
«مواجهة
المتمردين الزاحفين إلى الخرطوم، ومواجهة مخاطر الصراعات بين القوى المدنية التي
تحالف بعضها مع متمردي الجنوب».
وكان البشير أطول الحكام بقاءً في السلطة.
وهو إذ بدأ حكمه ارتباطًا بالإسلاميين؛ فقد شهدت نواة الحكم انشقاقًا خرج بمقتضاه
أنصار دكتور حسن الترابي، ليشكلوا حزب المؤتمر الشعبي، فيما واصل البشير دورة الحكم
تحت عنوان
«حزب
المؤتمر الوطني»،
مع مَن انضم إليه من الأحزاب الأخرى التي شهدت الكثير من الانقسامات والتشققات على
أرضية الانضمام لسلطة حكم البشير.
وإذا كان البشير قد بدأ حُكمه تحت عنوان
«مواجهة
التمرد في الجنوب»؛
فقد شهد حكمه انفصال جنوب السودان إنفاذًا لاتفاقيات نيفاشا وما تلاها.
وانتهى حكم البشير تحت مطرقة المظاهرات الشعبية، ليعود السودان مجددًا إلى ثنائية
الصراع بين المدنيين والعسكر، وفي هذه المرة وَفْق ظرف مختلف، كانت أخطر ملامحه
وقوع كل الأطراف تحت هيمنة التدخلات الدولية التي أدارت اللعبة -هذه المرة- من داخل
السودان بشكل مباشر.
وانتهى الأمر حاليًا إلى تَفجُّر القتال بين الجيش وظلّه أو قوات الدعم السريع.
-
التفكيك الثاني للسودان
ما يجري الآن من صراع واحتراب بين الجيش السوداني وظلّه المتمثل في قوات الدعم
السريع، ليس حالةً طارئةً أو حدثًا استثنائيًّا، وهو ليس نتيجة لتسلسل الأحداث منذ
إقالة البشير فقط، بل هو نتاج طبيعي وتمدُّد لما شهده السودان فور نجاح مخطّط
تقسيمه الأول.
لقد انتهت المرحلة الأولى من التقسيم باقتطاع الجنوب، لتبدأ المرحلة الثانية من
التقسيم، بأحداث دارفور، وشرق السودان ومناطق أخرى في جنوب السودان
«الجديد».
وإذا كان يقال دومًا:
«إن
تمرد الجنوب مثل رافعة التغيير في الخرطوم»؛
فقد جاءت أحداث دافور والشرق لتشكل رافعة التغيير والاضطراب في الخرطوم بديلاً لدور
الجنوب، وإن كانت الحركة الشعبية لتحرير الجنوب لم تتخلَّ عن دَوْرها السابق في
تفكيك السودان بعد الانفصال؛ إذ ظلت تمارس نفس الدور عبر فرع لها في الشمال.
لكن ذلك لم يكن الاختلاف الوحيد في سودان ما بعد فصل الجنوب؛ فالاختلاف الأهم، أنه
جرى التحول إلى رؤية أخرى بشأن الدولة في السودان. لقد كان مقررًا أن تبقى الدولة
-وإن كانت ضعيفة- خلال إنفاذ خطة فصل الجنوب؛ لدورها في التوقيع على التقسيم، بما
يمنحه المشروعية. لكنَّ الأمر لم يعد كذلك في المرحلة الحالية؛ فقد بات مطلوبًا
تفكيك قلب الدولة وإنهاء مشروعيتها، باعتبارها مَن يقف في وجه التقسيم المقبل؛ إذ
يستمد الجيش مشروعية بقائه من الحفاظ على جغرافيا السودان، وبشكل خاص دارفور
والشرق. وذلك ما تم الوصول إليه مؤخرًا.
لقد كان المستهدَف بعد الإطاحة بالبشير هو الوصول إلى تفجير المؤسسة العسكرية من
داخلها؛ لإزالة أهم سد في مواجهة التقسيم الذي سيجري هذه المرة في المناطق التي
استمدت الدولة والجيش مشروعيتها -بل حتى بنائها وكادرها- منها عبر تاريخ السودان
المستقل.
-
سيخسر طرفا الحرب
في إدارة الصراع الراهن بين القوتين العسكريتين المتحاربتين في قلب الدولة ومركزها،
يمكن الجزم بأن الأهداف التي دفعت الأطراف الدولية لإشعال هذه النيران، قد تحقَّقت
بإطلاق الطلقة الأولى في هذه الحرب.
وإذ ليس مؤكدًا بعدُ، كيف اندلعت شرارة الاقتتال بين الجيش وظلّه المسمى قوات
التدخل السريع، فقد بدا لافتًا اعتماد كل طرف من طرفي الصراع فهمًا سياسيًّا
واضحًا، بل حتى خطة استراتيجية جمعت بين الأهداف السياسية والعسكرية خلال إدارة
الصراع بينهما. وهو ما يدفع للتساؤل: كيف لمن يدير المعارك مع خَصمه الداخلي بهذا
الفهم أن لا يدرك الأبعاد الاستراتيجية لهذا الصراع؟!
لقد تحركت إدارة الدعم السريع لإعادة توصيف دورها، وإعادة تموضعها السياسي؛ لكسب
مشروعية داخلية وخارجية، وغسل تاريخها السابق. وهو ما جاء مرتبطًا بتحركاتها
العسكرية التي سعت إلى إنهاء احتكار الجيش لاستخدام القوة عبر ممارستها فعليًّا،
ومزاحمته في السيطرة على العاصمة، ومنع انفراده بإدارة المؤسسات السيادية.
كان الدور السابق للدعم السريع قد تلخَّص في مواجهة الحركات المسلحة الخارجة على
القانون أو المتمردة على النظام (في دارفور)، وتمدد دورها لتواجه الحراك الشعبي
الذي استَهدف إسقاط نظام البشير وما بعده؛ لكنها أعادت تموضعها السياسي، وصارت
تقدّم نفسها كقوة داعمة للتحول الديمقراطي، ومنادية بالحكم المدني، حتى إن هناك مَن
يصفها بالجناح العسكري للقوى المدنية.
وعلى تلك الخلفية خططت للسيطرة على مراكز الحكم والقرار والإعلام لتوقف قدرة مجلس
السيادة على إدارة الدولة والجيش، ولشَلّ قدرته على احتكار القوة. كما سعت تلك
القوات إلى صناعة علاقات خارجية لإدخال البلاد في حالة ازدواج السلطة، مع استجلاب
الدعم الدولي؛ إذ تقدم نفسها كسلاح في يد القوى العلمانية.
وفي المقابل برزت رؤية واضحة لدى البرهان والقيادة العسكرية في إدارة الصراع
سياسيًّا وعسكريًّا؛ فلقد قدم الجيش نفسه كممثل وحيد لشرعية النظام القائم، ووصف
قوات التدخل السريع بالقوات المتمردة عسكريًّا؛ لنزع الشرعية عنها، وأرسل إشارات
واضحة للدول الأخرى بعدم التعامل الدبلوماسي معها، كما سعى لقطع طرق حصول تلك
القوات على شرعية التمثيل الخارجي. وقدم الجيش نفسه في موقع الحريص على حياة
المدنيين باعتباره قادرًا على حسم المعركة لامتلاكه أسلحة ثقيلة من طائرات ودبابات
ومدفعية، لكنَّه لا يستخدمها إلا في أضيق نطاق؛ حتى يتجنَّب هدم المدينة وتخريبها
عمرانيًّا، وحتى لا يتسبب في سقوط ضحايا كثيرين من المدنيين.
وقد أظهر الجيش قدرةً على رسم وإدارة المعركة عبر استراتيجيات وقرارات متعددة؛ فقد
أصدر الجيش قرارًا باعتبار قوات الدعم السريع قوات تمرُّد غير شرعية، كما أصدر
قرارًا بسحب ضباط الجيش المنتدبين في تلك القوات، وأمرهم بالعودة إلى صفوف الجيش.
وعلى الصعيد الحربي فقد قصف الجيش مقرات وحدات الدعم السريع لإفقاد قيادتها السيطرة
على القوات، وقلَّل تزويد الخرطوم بالمحروقات لتعطيل حركة قوات الدعم السريع.
وصار الجيش يقدم نفسه للمواطنين باعتباره مَن يسعى لفرض الأمن وتوفير الغذاء
والدواء... إلخ
لكن، ومع كل هذا الاهتمام بالجوانب الاستراتيجية والسياسية، ومع كل هذا التخطيط في
إدارة المعارك، فالمؤكد أن كليهما خسر المعركة استراتيجيًّا، سواء معركة السيطرة
على الحكم أو معركة الحفاظ على السودان موحدًا.
ما يبدو مؤكدًا ومحققًا في هذا الصراع هو إن هذا الاحتراب أضعف قوة الدولة والمجتمع
في مواجهة مخطط تقسيم البلاد، وإن السودان يَفقد الآن دور أهم أجهزة الدولة أو
القوة الصلبة في الحفاظ على كيان الدولة، وإن الأبواب فُتِحَت لتدخُّل خارجي عميق
لتفكيك المجتمع، وإن القوى العسكرية المتنازعة لن تضعف فقط، بل سيتلاشى دورها في
المستقبل.