• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المؤسسية بين التنظير والممارسة

المؤسسية بين التنظير والممارسة


 المفهوم المعاصر للعمل الجماعي هو العمل المؤسسي. فقد دخلت المؤسسة في وقتنا الحاضر إلى كل مناشط حياتنا اليومية؛ حتى أصبحنا - صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً - نمارس حياتنا كلَّها ليلاً ونهاراً في مؤسسات، وذلك منذ أن ترى عيوننا نور الحياة حتى نغادرها. ولا عجب في ذلك؛ فإن السمة العصرية الأبرز لهذا الزمان هي المؤسسية.

وكثير منا اليوم يمارسون قيادة المؤسسات أو بعض أجزائها، وقد تكون تلك المؤسسات من التي يعوَّل عليها في إصلاح أوضاع الأمة؛ سواء كانت تلك المؤسسات حكومية أو غير حكومية. ومع ذلك فكثير من قادة تلك المؤسسات لا يسعفون أنفسهم بالتعرف على أسس ومبادئ إدارة المؤسسات، والطرق الميسرة الكفيلة بجعلها قادرة على تحقيق أهدافها وَفْقَ ما هو مأمول منها. لذلك يلجأ أكثرهم إلى تقليد أقرانهم في إدارتهم للأمور، وربما اجتهدوا من خلال الخبرة والواقع العملي والعمل بمبدأ التجربة والخطأ، حتى تمضي السنون وقد قطعوا شوطاً هائلاً أُهدِر خلاله كثير من الموارد، مقابل نتائج ضعيفة وربما تكون مخيبة للآمال.

لهذا السبب نجد أن الناجح والموفَّق من مؤسساتنا قليل. بينما كثير منها تعاني من مشكلات جسيمة ومعوقات كبيرة. والسبب في ذلك يرجع إلى الإهمال في تعلُّم أبجديات طرق إدارة المؤسسات، التي هي ثمرة الخبرة الإنسانية المتراكمة عبر العصور. وقد باتت في هذا الزمان - بفضل الله - ميسَّرة الطرق للحصول عليها وتعلُّمها، بل أصبحت عملية التدريب عليها متاحة بأيسر وأفضل وأمتع الأساليب والوسائل. ونتيجة لذلك ظهرت المنافسة بين المؤسسات الجادة على مستوى العالم باحترام المعايير المؤسسية، حتى أصبحت تلك المعايير مؤشراً على نجاح أو فشل المؤسسات، ومقياساً على مدى تقدُّمها أو تأخُّرها أمام أقرانها ومنافسيها.

وفي مقابل موجة الاهتمام بالمؤسسية في الأعمال، برز صنف من القادة جمع بين الجهل بمبادئ العمل المؤسسي والتلبُّس بشعاراته ادعاءً، في حين أنهم لم يسلكوا السبيل السهل المتاح لتحقيق هذه المبادئ. لقد أبدى هؤلاء إظهار قناعتهم بهذه المبادئ والمعايير والإعلان عن التزامهم بها، عن جهل ودون وعي ودراية، في الوقت الذي تفتقد فيه مؤسساتهم إلى روح الفريق الجماعي فضلاً عن التنظيم. فوقعوا في خطر داهم؛ إنه مزلق التنظير غير المسنود بالتطبيق العملي، فتراهم يرفعون الشعارات الجوفاء عن المؤسسية وهم عنها بعيدون كل البعد. لقد صاروا للمؤسسات كاسين عارين؛ كاسين برفع شعاراتها، عارين عن حقيقتها، مائلين بسلوكهم العملي عن جادة طريقها، مميلين لمؤسساتهم عن سبيل النجاح والتطور. فهم بذلك لم يجيدوا قيادة مؤسساتهم ولم يتيحوا المجال لغيرهم من العارفين بتولي قيادة تلك المسؤوليات الجسيمة.

فما أحوجنا في هذه الحالة للوقوف أمام معنى المؤسسة والمؤسسية والعمل المؤسسي، واستلهام المعاني منها حتى تتضح حقيقة الفرق في معنى المؤسسية بين النظرية والتطبيق.

 تعريف العمل المؤسسي:

عرَّف كتَّاب الإدارة العملَ المؤسسي بأنه: «شكل من أشكال التعبير عن العمل التعاوني بين الناس، والميل بقبول العمل الجماعي وممارسته، شكلاً ومضموناً، نصاً وروحاً، وأداء العمل بشكل منسق قائم على أسسٍ ومبادئ وأركان وقيم تنظيمية محددة»[1]. وعرَّفوه أيضاً، بأنه: «التجمع المنظم بلوائح يوزع العمل فيه على إدارات متخصصة ولجانٍ وفِرَق عمل؛ بحيث تكون مرجعية القرارات فيه لمجلس الإدارة، أو الإدارات في دائرة اختصاصها؛ أي أنها تنبثق من مبدأ الشورى، الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي»[2]. وقال آخرون هو: «كل تجمع منظَّم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل لبلوغ أهداف محددة، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبيرة، وفِرَق عمل، وإدارات متخصصة (علمية ودعوية واجتماعية)؛ بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرارات، كلٌّ في دائرة اختصاصاته»[3].

حقيقة العمل المؤسسي:

ولو تأملنا التعريفات الوارد ة أعلاه، لوجدنا أنها اشتملت على مجموعة من الحقائق تُبرِز بمجملها مفهوم المؤسسية الذي نناشد به، وهي ما نرجو من قادة المؤسسات الاعتبار بها؛ لأنها أصبحت من ضرورات العمل الجماعي الذي يحترمه الجميع ويناشد به الكل، وإن تهرَّب بعض الناس من لوازمه وضاقوا بمقتضياته ذرعاً، فمن تلك الحقائق:

1 - أن العمل المؤسسي يعني ممارسة العمل الجماعي نصّاً وروحاً: فلا جدوى لمن يدَّعي العمل المؤسسي وهو لا يمارسه على أرض الواقع؛ فإنه حينئذٍ يكون سالكاً لطريقة الشعارات الجوفاء التي يبهرك بريقها، بينما يغيب الحد الأدنى من ممارستها في الواقع.

وربما يمارس مجرد التنظير، فيغرقك بسيل من النظريات والحلول غير العملية بينما تجد ممارسته في الواقع خلاف ما يكتب أو يقول.

2 - إن ممارسة العمل الجماعي لا بد أن تكون نابعة من قناعة ذاتية ترتبط معها الأقوال بالأفعال، وإلا دخلت في الذم المقصود بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].

3 - وهنا يأتي مبدأ التعاون أساساً معبراً عن روح العمل الجماعي: فليست العبرة من اجتماع القوم هي مجرد الاجتماع فحسب؛ بل إن الغاية من ذلك هي أداء العمل بروح الفريق الواحد المتعاون، الذي تكون فيه مصلحة المجموعة أو المؤسسة أو ربما المبادئ أعلى من مصلحة الفرد، مع الاعتراف الكامل بحقوق الأفراد المعنوية قبل المادية، باعتبار أن الفرد الصالح هو اللَّبنة الأساسية في العمل الجماعي السليم.

إن هذا التعاون هو ثمرة من ثمرات حُسْن القيادة واحترام مشاعر أفراد الفريق وكسب رضاهم باستمرار؛ ليس بالمال والمادة فحسب؛ بل ببذل المعروف والكلمة الطيبة والثناء الحسن وعدم التهميش أو ظهور القادة على حساب الأفراد، أو تسلُّق بعض المستقوين على حساب بعض المستضعفين، وممارسة بعض الأخلاقيات المشينة؛ مثل: الالتفاف على مصالح الأفراد، أو تمييز بعضهم على بعض، أو الاستئثار بالمصالح والمميزات دون مراعاتهم، أو تمييز القادة لأنفسهم أو مقربيهم على حساب بقية أفراد الفريق.

4 - العمل المؤسسي هو العمل المبني على النظام والأسس والمبادئ والأركان والقيم التنظيمية الواضحة والمحددة، مع احترام العمل وأدائه بشكل منسق، والتوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وبين متطلبات الأفراد ومتطلبات العمل، في بيئة من الوضوح والشفافية، تحكمها المعايير الدقيقة واللوائح العادلة والمرنة، وتصبح كل الفرص متكافئة أمام الجميع، في العطاء والمنع، محكومة بمدى القرب أو البعد من تلك المعايير أو الإخلال بتلك اللوائح.

وتلك المعايير والأنظمة تكون منبثقة عن منظومة من القيم والمبادئ التي تهيمن على حياة الجميع؛ فالجميع (قادة وأفراداً) يجب أن يكونوا محكومين بتلك القيم والمبادئ التي صيغت بعد اقتناع وإيمان. ويجب أن يثقف الأفراد بها، وأن تتم حراستها وصيانتها من عبث العابثين وتأويلات المتأولين. ويجب أن تكون هذه من أشهر وظائف القائد في العمل المؤسسي، فإن لم تكن هذه البدهية واضحة لدى قادة المؤسسات؛ فماذا تعني لهم المؤسسية إذن؟

5 - تقسيم وتوزيع الأعمال والأدوار والمهام على المجالس القيادية والإدارات والأقسام واللجان وفِرَق العمل؛ بحيث يراعى في التقسيم التخصص لكل جزء من العمل، وحدود الصلاحيات الممنوحة بحسب حجم المسؤولية التي تحمَّلها ذلك الجزء. على أن تبقى وظيفة المجلس القيادي هي التنسيق والتشجيع والتحفيز والتطوير وحل المشكلات، فضلاً عن قيادة المؤسسة باتجاه المستقبل الذي تطمح إليه، ويطمح أن يبلغَه الأفراد من خلال مؤسستهم (المحبوبة)، التي نالت رضاهم واحترامهم بعد أن أشبعت احتياجاتهم المادية والمعنوية، وشاركتهم كما شاركوها في الأفراح والأتراح.

6 - مرجعية القرارات في العمل المؤسسي لمجالس الإدارة: فالمؤسسية تعني أن تُتَّخذ القرارات بصورة جماعية لا فردية، سواء في ذلك القرارات التي تهم الأفراد أو المؤسسة؛ فلا مجال لتسلط الأفراد إلا بحدود من الصلاحيات الممنوحة من تلك المجالس وَفْق ضوابط وآليات محددة للرقابة على سلطة صاحب القرار.

إن القيادة عن طريق المجالس هي ضمان سلامة وصمام أمان لحماية المؤسسات من شطحات الأفراد واجتهاداتهم غير المنضبطة، وصَهْر كلِّ اجتهادات الأفراد وإبداعاتهم في بوتقة من الفكر الجماعي المنضبط والمبارك بالبركة التي تحل عليهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة»[4].

كما أن المجالس صمام أمان لحماية الفرد من هواه ومزاجه ونفسه الأمَّارة بالسوء. فكلما راودته نفسه بالميل إلى هواه، أو الاستقواء بمكانته أو منصبه، أو الميل إلى رؤاه الخاصة ومصالحه الشخصية بعيداً عن مصلحة المؤسسة وخلافاً لأهدافها أو قيمها، راجعه الآخرون في تلك المجالس وردُّوه إلى جادة الصواب.

وقد تُظهِر بعض المؤسسات مشكلة الفرد المهيمن على الأعضاء بشكل يجعل منهم ستاراً لفرديته ويعمد إلى تهميشهم عن مواطن صنع القرار. وهذا الأمر يفضي بطول ممارسته وسكوت الأعضاء عنه رغباً ورهباً إلى الدبيب الهادئ  لمبدأ (ما أريكم إلا ما أرى).

7 - للإدارات الفرعية نصيب من تلك المجالس بما يجسد التخصصية واللامركزية: فأما التخصصية فلأن تفاصيل عملها لا يعلمه من هو أعلى منها، وهو سر تميُّزها. وأما اللامركزية فلأن توسيع دائرة القائمين بالعمل والمشاركة في صنع القرار وتحمُّل المسؤولية تعطي المجالس العليا فرصة للتطوير والتجديد والرقابة والتوجيه، وللآخرين قدرة على التطور والمشاركة الفاعلة في تحمُّل المسؤولية.

ختاماً:

نحن نؤمن بأن الله - تعالى - يدعو للاجتماع ويبارك ثمرته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»[5]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فَلْيلزم الجماعة»[6]. وقد جاءت أغلب العبادات لتعزز روح الجماعة المسلمة بكافة صورها (السياسية والاجتماعية والسلوكية).

تأمَّل في هذا تعرف معنى البركة في عمل الجماعة، وما هو السر المحذور في عمل الأفراد المنفصم عن عمل الجماعة.


 


[1] انظر: محمد ناجي عطية، البناء المؤسسي في المنظمات الخيرية، دار الإيمان، الإسكندرية، 2006م، متوفر على الإنترنت، موقع الإسلام اليوم.

[2] انظر: المرجع السابق.

[3] انظر: المرجع السابق.

[4] صححه الألباني.

[5] رواه البيهقي في شعب الإيمان. وفي الأحاديث المختارة للضياء المقدسي من خطبة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - في الجابية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سرَّه أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»، وأخرج الطبراني في المعجم الكبير عن عرفجة قال: سمعتُ رسول الله يقول: «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ»، وهو في كنز العمال برقم: 1031.

[6] رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع: 2546.

أعلى