• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الاتفاق اللبناني الصهيوني.. خطوة للأمام أم قفزة نحو المجهول؟

قدّمت هذه المناسبة لحظة نادرة من الانسجام المبني على المصلحة المشتركة بين جارين في حالة حرب من الناحية العملية منذ عام 1948م


بعد سنوات من الجدل والنقاشات والانسحاب من المفاوضات ثم العودة إليها، توصَّل لبنان أخيرًا إلى اتفاق بوساطة أمريكية مع الكيان الإسرائيلي لتسوية حدوده البحرية المتنازَع عليها منذ عقود، هذا الاتفاق وصفته إسرائيل على لسان رئيس وزرائها بأنه «إنجاز تاريخي»؛ كونه سيعزّز أمن إسرائيل، وسيطلق العنان لإنتاج كميات كبيرة من الغاز والنفط البحري.

أما الوسيط الأمريكي فقد اعتبره «تطورًا رائعًا يسهم في تحقيق الاستقرار والازدهار في المنطقة».

في حين قال لبنان -المتشكك في نوايا الإسرائيليين-: «إن ترسيم الحدود البحرية مجرد عمل تقني بلا أبعاد سياسية أو مفاعيل دبلوماسية تتناقض مع مبادئ لبنان الخارجية في علاقاته مع الدول، نافيًا أن يكون الترسيم اعترافًا لبنانيًّا بـ«دولة إسرائيل».

وبينما يُعدِّد كلّ طرف مكاسبه المستقبلية من وراء الاتفاق؛ تَبقى الأسئلة مشتعلةً حول بنوده، والمخاوف من تَبِعاته، والضمانات التي تضمن استمراره.

حل مؤقت لنزاع قائم

قبل عشر سنوات بدأت مفاوضات غير مباشرة بين لبنان والكيان الإسرائيلي اللذين لا تربطهما علاقات دبلوماسية رسمية، تعثرت المفاوضات عدة مرات وبقيت الأمور بين شدّ وجذب، وتبدّل العديد من المبعوثين؛ حيث كان آخرهم «عاموس هوشستين»، وهو كبير مستشاري وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون أمن الطاقة.

بنى هوشستين جهوده على مبادرات الرئيسين السابقين باراك أوباما ودونالد ترامب من أجل التوفيق بين الادعاءات المتضاربة بين لبنان وإسرائيل بشأن الحد الفاصل للمنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، كان الخلاف في معظمه مُنصبًّا على الأحقية في منطقة بشرق البحر المتوسط تبلغ مساحتها نحو 860 كيلومترًا مربعًا، ويُعتقَد أنها غنية بالغاز، كان المفاوضون اللبنانيون يؤكدون دائمًا على أن تلك المنطقة تقع في المياه اللبنانية، وأن استغلال إسرائيل لها يُشكّل سرقة لموارد لبنان. في حين يرى الإسرائيليون أن المنطقة بأكملها تقع داخل المنطقة الاقتصادية الإسرائيلية الخالصة.

وبينما كان الوقت يمر في جدال طويل ومناقشات بلا مردود فعلي؛ جلب الإسرائيليون حفّارة عائمة من سنغافورة، حيث تم تصنيعها؛ بهدف البدء في استغلال غاز حقل كاريش الواقع في تلك المنطقة، وكان وصول الحفارة بمثابة جرس إنذار للقادة اللبنانيين لإعادة انطلاق جهود الوساطة الأمريكية.

 حذَّر الرئيس اللبناني «ميشيل عون» إسرائيل من أن أيّ نشاط في المنطقة يُشكِّل استفزازًا وعملاً عدائيًّا. فيما أطلق حزب الله طائرات بدون طيار، حصل عليها من إيران، باتجاه منصة الحفر، وانبرى الأمين العام للحزب «حسن نصر الله» في ترهيب الإسرائيليين، وفي ظل هذا الجو الملتبس تسارعت تطوّرات ملف الأزمة بعد لقاءات مكوكية واتصالات مستمرة بين الطرفين، إلى أن أعلنا تباعًا عن موافقتهما على هذا الاتفاق الذي «يُرسِي حلاً دائمًا ومنصفًا للنزاع البحري القائم بينهما»؛ وفقًا لتصريحات الوسيط الأمريكي.

قدّمت هذه المناسبة لحظة نادرة من الانسجام المبني على المصلحة المشتركة بين جارين في حالة حرب من الناحية العملية منذ عام 1948م، لذا قام كل طرف بالتسويق للاتفاق بشكل مختلف، ففي إسرائيل قدّم رئيس الوزراء يائير لابيد الصفقة على أنها إنجاز سياسي كبير، قائلاً: «مع كل يوم تعترف دولة معادية بدولة إسرائيل في اتفاق مكتوب أمام المجتمع الدولي، لقد انتصرت دولة إسرائيل اليوم في الأمن والاقتصاد والدبلوماسية والطاقة». على الجانب الآخر في لبنان قال كبير المفاوضين اللبنانيين «إلياس بو صعب»: إن الاتفاق يُعدّ «بداية عهد جديد»، مُقلِّلاً في نفس الوقت من كونه تطبيعًا للعلاقات مع إسرائيل.

بموجب هذا الاتفاق؛ يصبح حقل كاريش بالكامل من حقّ إسرائيل، فيما يصبح كامل حقل قانا -الذي يتجاوز خط الترسيم الفاصل بين الطرفين- من حق لبنان، وستحصل إسرائيل على تعويض من الشركتين الفرنسية والإيطالية اللتين ستقومان بالتنقيب عن النفط والغاز في الجزء الواقع داخل الحدود البحرية للاحتلال الإسرائيلي؛ حيث سيتم تحديد حصة إسرائيل لاحقًا؛ من خلال محادثات منفصلة ستُجريها مع الجهات المُشغّلة لحقل قانا. ووفقًا لتقديرات مبدئية فإن إسرائيل ستحصل على نحو 17 في المئة من عائدات حقل قانا حين تبدأ مرحلة الإنتاج، إلى جانب ذلك حافظت إسرائيل على سيطرتها على خطها الأمني ​​الحالي الذي يمتد ثلاثة أميال بحرية قبالة الساحل، وتنازلت عن قبول الموقف اللبناني فيما يتعلق بامتداد تسعة أميال بحرية في عمق البحر.

موقف حزب الله

منذ فترة طويلة، تعهَّد حزب الله بعرقلة أيّ جهود إسرائيلية للتنقيب عن الغاز في حقل كاريش قبل إبرام اتفاق، كان الإسرائيليون في حالة خوف وترقُّب دائم من تصعيد أوسع إذا انهارت المفاوضات؛ لذا فإن إنجاز الصفقة تم تصويره على نَسَقين مختلفين في إسرائيل؛ أحدهما يرى أنه إنجاز تاريخي من شأنه أن يعزّز الرخاء والاستقرار الإقليميين شأنه شأن اتفاقات «إبراهيم»، والآخر يراه استسلامًا مخجلاً لتهديدات حزب الله والضغوط الأمريكية. فثمة تقارير تحدثت عن قيام الرئيس الأمريكي جو بايدن بالضغط على لبيد للتنازل بعض الشيء من أجل التقارب مع الموقف اللبناني؛ وذلك لتخفيف التوترات مع حزب الله المدجَّج بالسلاح، والذي يُمثِّل التهديد العسكري المباشر لإسرائيل، وبمجرد التوقيع على الاتفاق الذي شكَّل نقطة إجماع نادرة بين الفصائل السياسية اللبنانية المتصدعة أشار «حسن نصر الله» إلى أن قوات الحزب لم تَعُد بحاجةٍ إلى حالة التأهب القصوى للاستعداد لحرب وشيكة، مضيفًا في خطاب متلفز: «أُنجزت مهمة المقاومة، وانتهت الآن جميع الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها حزب الله».

من وجهة النظر الإسرائيلية المعارضة للاتفاق؛ فإن هذا الاتفاق -برغم مزاياه- قد منح نصرًا أخلاقيًّا ونفسيًّا لحزب الله، ويُمثّل استسلامًا لمطالبه، مع تكهنات بأن عائدات مبيعات الغاز في لبنان ستدعم حزب الله بالرغم من النفي الأمريكي لحدوث ذلك، يرى المنتقدون أيضًا أن رسم الحدود البحرية عند الخط 23 يمنح إسرائيل مساحة بحرية أقل بكثير من كل من الخط1 (وهو خط الحدود المسجل لدى الأمم المتحدة في عام 2011م)، وأقل أيضًا من خط التسوية الذي اقترحه الوسيط الأمريكي السابق فريدريك هوف (والذي كان سيعطي لبنان 55 بالمائة من المنطقة الواقعة بين الخطين 1 و23)؛ يرى المنتقدون أن لابيد خضع لتهديدات حزب الله، واضطر إلى إنجاز أي صفقة قبيل الانتخابات من أجل تحقيق إنجاز يُحْسَب لحكومته. أمَّا المؤيدون للاتفاق في إسرائيل فيرون أن امتلاك لبنان الآن حصة معتبرة في صناعة الغاز الطبيعي في البحر المتوسط؛ ستجعل حزب الله يفكّر مرتين قبل بدء حرب أخرى مع إسرائيل؛ فإذا قام الحزب بمهاجمة منصة إسرائيلية في البحر؛ فإن منشآت لبنان البحرية ستكون هدفًا واضحًا للرد الإسرائيلي، وبالتالي فإن الاتفاق -وبالرغم من كونه لا يمثل اتفاق سلام- سيساعد على تهدئة التوترات بين لبنان وإسرائيل، وتقليل احتمالات الصراع بينهما على المدى القريب.

إيران خلف الستار

الملاحظ تاريخيًّا هو أن الصراع الرئيسي بين إسرائيل وحزب الله لم يكن على الإطلاق حول الغاز، ولكن حول أيديولوجية الحزب وأجندته الموالية لإيران؛ لذا فإن المصلحة الإسرائيلية كانت -ولا تزال- تكمن في إبعاد لبنان عن فلك إيران، وهذا لن يحدث إلا من خلال مسارين؛ القضاء على حزب الله أو مهادنته، وإذا كان المسار الأول مستحيلاً في الوقت الراهن؛ فإن الثاني يبقى هو الأقرب للحدوث.

يجادل مؤيدو الاتفاق بأنه سيزيل خطر الصراع الفوري مع حزب الله على احتياطيات الغاز، وبالتالي سيُقلّل من اعتماد لبنان على النفط الإيراني؛ إذ يرى «بيني غانتس» وزير الدفاع الإسرائيلي أن «الاتفاق اقتصادي في جوهره، لكنه يعزّز الاستقرار والردع، ويُضعف اعتماد لبنان على إيران التي تزوده بالوقود وبسلع أخرى». إلا أن لبنان معروف بالفساد الضارب في أعماق مفاصله، ويخضع لسيطرة شبه كاملة من حزب الله الذي بدوره تسيطر عليه إيران، وبالتالي فإن إثراء لبنان دون إثراء حزب الله وإيران هو أمرٌ مستحيل، سيحصل حزب الله لا محالة على نصيبه من الموارد المستخرَجة من باطن الأرض، لذا فإن الاتفاق لن يقلل من سطوة إيران أو قبضة الحزب على الحياة السياسية في لبنان.

من وجهة نظر طهران، فإن حزب الله يقيّد إسرائيل ويردعها عن مهاجمة إيران، كما أن طهران تستخدم الحزب أحيانًا كذريعة لبدء حرب غير مباشرة بينها وبين إسرائيل، لذا فإن أفضل ما يمكن أن يقال عن اتفاق الحدود البحرية هو أنه ربما اشترى فترة محدودة من الهدوء بينما تبدأ إسرائيل في استغلال غاز حقل كاريش، إضافةً إلى كون الحزب -الذي يمثل القوة الرئيسية التي تعترض على أي صفقة مع إسرائيل- يقوم الآن بدور الراعي السياسي الرسمي لاتفاق يوفر لإسرائيل الأمن والاستقرار، وبقدر استفادة الإسرائيليين من هذا الوضع فإن الإيرانيين سيستفيدون منه أيضًا، ففي 24 سبتمبر الماضي، عبَّر ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى، عن اعتقاده بأن إدارة الرئيس بايدن لن تعاقب لبنان في حال استيراده الوقود من إيران؛ هذا الاعتقاد تحول إلى أمر واقع خلال الأسبوع الماضي عندما التقى وفد لبناني مع مسؤولين إيرانيين في طهران لبحث إمكانية تزويد لبنان بالوقود؛ حيث يعاني لبنان نقصًا حادًّا في الإمدادات، بالتأكيد ما كان لهذا اللقاء أن يحدث ما لم تكن هناك موافقة أمريكية ضمنية بالسماح لإيران بتصدير نفطها إلى لبنان.

شكـوك وثغـرات

بالرغم من أن الاتفاق ينص على أنه «لا يحقّ لإسرائيل أن تعترض على أيّ أنشطة أو تتّخذ أي إجراءات من شأنها تأخير تنفيذ أنشطة التنقيب عن النفط والغاز، أو استخراجهما من حقل قانا»؛ إلا أن الاتفاق لا يمنعها من وقف أيّ تطوير في الحقل، وذلك من خلال إنهاء صياغة الاتفاق المالي مع الشركة الفرنسية المُشغِّلة للحقل، فقدرة لبنان على استكشاف آفاق حقل قانا وتطويره تعتمد في نهاية المطاف على موافقات إسرائيلية، وعلى الترتيب المالي المستقبلي بين إسرائيل والشركة الفرنسية، وبالتالي يمكن للإسرائيليين حرمان لبنان من الاستفادة من موارده إذا استغلوا تلك الثغرة في الاتفاق وقتما شاءوا ذلك.

المثير للاهتمام بشكل خاص في هذا الاتفاق هو تأكيده على مكافأة إسرائيل عن أيّ أرباح تحققها لبنان من جانبها في حقل قانا، بالرغم من أن حجم احتياطيات الغاز في الحقل لا يزال غير معروف، وهو ما يجعل مسألة تعويض إسرائيل نقطة خلاف لسنوات قادمة، كما أن هذا الشرط يمنح إسرائيل ميزة العمل كمشرف على أنشطة التنقيب اللبنانية في المنطقة. وثمة شكوك عديدة حول ما إذا كانت إسرائيل ستتصرف بحسن نية حيال هذا الوضع، وهي التي انتهك أسطولها البحري مياه لبنان الإقليمية مرارًا وتكرارًا.

في سياق متصل، تتواصل محاولات واشنطن لتأمين مناطق مؤهلة أخرى لتكون مصدرًا لإمدادات الغاز؛ وذلك لدعم واشنطن في معركتها الكبرى التي تخوضها ضد موسكو؛ إذ تقدر احتياطات الغاز القابلة للاستخراج في المنطقة البحرية اللبنانية بـ25,4 تريليون قدم مكعب، وفقًا لمسح زلزالي أجرته شركة سبكتروم البريطانية في عام 2012م، بالرغم من أن السلطات اللبنانية قد أعلنت عن تقديرات أعلى، لكن تبقى موارد حقل قانا غير محددة حتى اللحظة، ومن غير الوارد استخراجها قبل فترة لا تقل عن 5 سنوات، كما أن الأرباح التي سيحققها لبنان لن تغطي سوى جزء يسير من ديونه المتراكمة التي أدخلته في انهيار اقتصادي هو الأسوأ في العالم منذ عام 1850م، وفقًا لتقارير البنك الدولي.

ثمة شكوك أخرى حول مدى استدامة تلك الحدود التي تم ترسيمها؛ فالرئيس بايدن الذي اعتبر الاتفاق إنجازًا لسياسته الخارجية، ذهب بعيدًا في الادعاء إلى أن الطرفين اتفقا على إنشاء حدود بحرية دائمة، إلا أن وضع اللمسات الأخيرة على تلك الحدود لا يزال يعتمد بشكل كبير على المفاوضات المستقبلية، فهذه هي أول حدود إسرائيلية مرسومة مع لبنان؛ إذ كانت الحدود البحرية في السابق عبارة عن خطوط مؤقتة وضعتها إسرائيل، بينما تم رسم الحدود البرية الوحيدة من قبل أطراف ثالثة، وبعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000م، قامت الأمم المتحدة برسم ما يسمى بالخط الأزرق، وهي حدود برية تتماشى بشكل وثيق مع خط الهدنة لعام 1949م، وعلى الرغم من أن كلتا الحكومتين تحترم هذا الخط بشكل عام، إلا أنهما لم يعترفا به رسميًّا أبدًا، وشهدت تلك الحدود انتهاكات متكررة على مر السنوات الماضية، وليس من المرجح أن يكون الاتفاق الحالي ضامنًا قويًّا لوقف هذه الانتهاكات على الدوام.

 قفزة نحو المجهول

وَاهِمٌ مَن يظن أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية يُعزّز السلام اللبناني الإسرائيلي؛ إذ شدّدت لبنان على مختلف المستويات بأن الاتفاق لا يُمثّل تطبيعًا مع إسرائيل، كما لم يلتقِ أيّ مسؤول لبناني بمسؤول إسرائيلي أو تحدث أحدهم إلى الآخر عبر الهاتف، ولم يكن هناك حفل توقيع مشترك للاتفاق كما هو معتاد في مثل هذه الظروف، وبالتالي لا يمكن اعتبار الأمر سوى صفقة لتسهيل استغلال كلا الطرفين لمخزونات الغاز في شرق البحر المتوسط، لا سيّما مع مرور لبنان الآن بعامه الرابع من الانهيار الاقتصادي، وفي ظل الجمود السياسي في لبنان وضعف البنية التحتية المرتبطة بالطاقة؛ فإن المصاعب تتكاثر أمام بيروت للاستفادة من وقودها الأحفوري، ومِن ثمَّ معالجة مشاكلها المالية العميقة، لقد منح لبنان لإسرائيل الأمن اللازم لاستخراج الغاز على الفور، فيما بقي لبنان يحلم باستغلال غازه رغم كونه لا يزال في أغوار المجهول.

 

 


أعلى