الفقه الرباني الذي فضل الله - سبحانه وتعالى - به صفوة أوليائه؛ إذ علم أن الإنسان الضعيف يحتاج في طريق الحق لمن يساعده على متاعبه وتخطّي صعابه.
الحمد لله الذي وهبني بواسع رحمته، وجليل كرمه ابنًا يتعلم القرآن بتدبُّر كل حرف
فيه، وكان مِن تدبُّر ابني للقرآن أن سألني عن المعنى من قوله سبحانه وتعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13].
إذ سألني متحيرًا: ألم تخبرني يا أبتِ أنَّ العاقل يجب أن يتبع الحق بغير النظر لمن
يصحبه في طريقه؟
فكان مختصر الإجابة: أن النَّاس على كثرتهم صنفان:
أولهما:
من يتبعون الحقَّ وإن كانوا بمفردهم، وهؤلاء قليلون جدًّا من الأنبياء والأولياء،
والأئمة والأفراد والخاصة.
وثانيهما:
من يحتاجون إلى صحبة ومشجعين لهم في طريق الحق، وهم العامة وغالب النَّاس.
ولأن مُنَزِّلَ القرآن -عز وجل- هو الخالقُ الأعلمُ بطبائعِ خلقه، فهو يخاطبهم بما
يكون فيه الدافع لهم على اتباع الحق.
وسأضرب لك طرفًا من الأمثلة التي تُقَرِّبُ هذا المعنى:
المثال الأول: نقض صحيفة المقاطعة[1]:
وذلك أن من جملة الوسائل الشيطانية التي اتبعها المشركون لحرب الإسلام: المقاطعة
الاقتصادية؛ إذ قاطعوا بني هاشم وبني المطلب مقاطعة تامة حتى يسلموا النبي صلى الله
عليه وسلم للقتل.
ولكن البعض مع خلو قلوبهم من الإسلام فلم تَخْلُ من الرحمة والعدل، وعلى رأسهم
هِشَام بْن عَمْرو والذي رأى أن هذه المقاطعة ظالمة، وأن مروءته تأبى عليه إلا أن
يسعى لإنهائها، ولما كان ذلك العمل أكبر منه منفردًا سعى ليبحث عمَّن يتوسم فيه أنه
ينصره في ذلك العمل النبيل.
فكان أول من قصده هو زُهَيْر بْن أَبِي أُمَيَّة.
فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ! أَرَضِيتَ بهذا الظلم العظيم؟
فأجاب: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ،
وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا حَتَّى
أَنْقُضَهَا.
فقَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلاً.
قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟
قَالَ: أَنَا، قَالَ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا رَجُلاً ثَالِثًا.
فَذَهَبَ هشام إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ، وقال له مثل قوله لزهير.
فقَالَ وَيْحَكَ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِد.
فقَالَ: قَدْ وَجَدْتَ ثَانِيًا.
قَالَ: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: أَنَا.
قَالَ: أَبْغِنَا ثَالِثًا.
قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
قَالَ: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.
قَالَ: أَبْغِنَا رَابِعًا.
فَذَهَبَ للْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَام، فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ
لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ.
فَقَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: زُهَيْرٌ، وَالْمُطْعِمُ، وَأَنَا.
قَالَ: أَبْغِنَا خَامِسًا.
فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَكَلَّمَهُ.
فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ
أَحَدٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ سَمَّى لَهُ الْقَوْمَ.
فتعاونوا على نقضها فنقضوها بإذن الله سبحانه وتعالى».
والشاهد من القصة أن كل إنسان من الخمسة يعلم طريق الحق، لكنه لم يقدر على سلوكه
إلا بعد أن وجد معه صحبةً تُعينه على تحقيقه.
المثال الثاني/ كعب بن مالك رضي الله عنه في غزوة تبوك:
إذ تخلف عن الغزوة بغير عذر، فلمَّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم منها، اعتذر كل
منافق بعذر باطل، واستغفر النبي صلى الله عليه وسلم له، ولكن كعبًا رضي الله عنه
قال الحقيقة، وأنه لا عذر له في التخلف.
فلما خرج كعب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، عاتبه قومه، وقالوا: ارجع فاعتذر
للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيستغفر لك، فيغفر الله لك ذنبك.
يقول كعب رضي الله عنه: ((فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ
أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي
أَحَدٌ؟
قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ، قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا
قِيلَ لَكَ.
فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟
قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ
الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شَهِدَا بَدْرًا،
فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي))[2].
والشاهد أن كعبًا رضي الله عنه همَّ بالرجوع عن طريق الحق؛ إذ ظن أنه فيه وحده،
فلما علم أن رجلين صالحين قد سبقا إليه اتبعهما؛ إذ كان هذا تشجيعًا له.
المثال الثالث/ نصيحة عتبة بن ربيعة لقريش:
إذ أرسلوه ليتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاد وكان فيما قاله لهم:
«خَلُّوا
بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ ودعوته، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ
بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ
عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ»[3].
يعني: انتظروا حتى يدخل العرب في الإسلام فتتابعونهم عليه.
المثال الرابع/ نصيحة الغساني لقومه:
إذ يُروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا غسَّان.
فقال الحكماء: نعمت الدعوة لو اتبعناها.
ولكن أحد الماكرين ردهم قائلاً: ((لا نكون أول العرب دخولاً في الإسلام، ومصادمة
النَّاس، ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب، ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس))[4].
وللأسف كان الناس أكثر ميلاً لهذا الرأي من رأي الحكيم.
المثال الخامس/ نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان رضي الله عنه لقريش في
الحديبية:
وذلك عندما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشًا عزمت على قتاله؛ فقال صلى الله
عليه وسلم :
«إِنَّا
لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ
قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا
مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ:
فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا
فَقَدْ جَمُّوا»[5].
وهي عين النصيحة التي نصحهم بها عثمان رضي الله عنه مع عدم سماعه لقوله صلى الله
عليه وسلم ؛ إذ كان فيما قاله لقريش: "تُكْفَونَ الحرب من غَيركم، فَإِنْ ظَفَرُوا
بِمُحَمّدٍ فَذَلِكَ مَا أَرَدْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرَ مُحَمّدٌ كُنْتُمْ
بِالْخِيَارِ، أَنْ تَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ أَوْ تُقَاتِلُوا
وَأَنْتُمْ وَافِرُونَ جَامّونَ»[6].
المثال السادس/ نصيحة خالد لقريش يوم الفتح:
إذ قال:
«وَدَعَوْتهمْ
إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَأَبَوْا»[7].
المثال السابع/ قول الصحابة لأهل الكتاب:
إذ كانوا يقولون لهم:
«ندعوكم
إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله أو تدخلوا
فيما دخل فيه الناس وتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون»[8].
المثال الثامن/ نصيحة العالم الرباني لقاتل المائة:
إذ سأل تائبٌ عَالِمًا: كيف يتوب وقد قتل مائة نفس؟
فأجاب: ((انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا
يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ))[9].
فمعلوم من الدين بالضرورة أن الله - سبحانه وتعالى - يقبل التوبة في جميع بقاع
الأرض على السواء!
فإن كان ذلك كذلك فما يدعو العالِم لأمر التائب بمفارقة بلاده، والتغرب والهجرة في
بلاد الناس!
إنَّه الفقه الرباني الذي فضل الله - سبحانه وتعالى - به صفوة أوليائه؛ إذ علم أن
الإنسان الضعيف يحتاج في طريق الحق لمن يساعده على متاعبه وتخطّي صعابه.
فليس كلُّ النَّاس يستطيع أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
«فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ
سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ»[10].
ومن ثم فمن الدروس المستفادة من هذه الآية:
أن عامة الناس يحتاجون من يقودهم ويشجعهم على طريق الحق، ولا يستطيعون السير فيه
بمفردهم، وأن السائرين بمفردهم في طريق الحق قِلَّة يندر وجودهم.
ومن أكبر الدروس المستفادة:
أهمية الصحبة الصالحة في طريق الحق، وتوظيف هذا الفهم في الحفاظ على التائبين من
الانتكاس بقلة المُعين على الخير، ووفرة أصحاب السوء؛ عياذًا بالله.
والدَّرس الأهم:
هو أهمية التدبر للقرآن وأثر التدبر في خدمة الدعوة لله - سبحانه وتعالى -، والثبات
على طريقه.
وجدير بالذكر:
أن كلمة "النَّاس" لم ترد في الآية بمعناها الظاهر العام، وإنما يقصد بهم فئة
مخصوصة من النَّاس، وهم المؤمنون العقلاء الحكماء[11].
ويجمل بنا
أن نذكر قول بعض المفسرين[12]
أن الآية نزلت في منذر بن معاذ، وأبي لبابة، ومعاذ بن جبل، وأُسَيْد، إذ قَالُوا
لليهود: صدِّقوا بمحمد، كَمَا صدق به عَبْد اللَّه بن سلام -رضي الله عنه- وأصحابه.
فقالت اليهود: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} [البقرة: 13].
وختامًا
فهذه دعوة ربانية لتدبر كلام الله - سبحانه وتعالى - استجابة لقوله عز وجل:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
اللهم اجعلنا ممن يتدبرون القرآن ويتلونه حق تلاوته، ويتبعونه حق الاتباع حتى يشفع
لهم، ويقودهم للفردوس الأعلى، آمين يا أرحم الراحمين.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ،
وَأَتُوبُ إِلَيكَ.
[1] راجع القصة كاملة في سيرة ابن إسحاق (ص: 165: 166)، سيرة ابن هشام (1/ 374:
376).
[2] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (15789)، وَالْبُخَارِيُّ (4418)، وَمُسْلِمٌ
(2769).
[3] راجع نص القصة: سيرة ابن إسحاق (ص: 208)، سيرة ابن هشام (1/294)، دلائل النبوة
لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 234)، دلائل النبوة للبيهقي محققًا (2/ 205)، تاريخ دمشق
لابن عساكر (38/ 247).
[4] انظر القصة كاملة
«الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله»
(1/ 253).
[5] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد (18909)، الْبُخَارِيُّ (2731).
[6] راجع: مغازي الواقدي (2/ 601).
[7] مغازي الواقدي (2/ 839).
[8] فتوح الشام (2/ 163).
[9] راجع الحديث كاملاً: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (11154)، وَالْبُخَارِيُّ
(3470)، وَمُسْلِمٌ (2766).
[10] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (18909)، والْبُخَارِيُّ (2731).
[11] راجع: تفسير الطبري (1/ 292: 293).
[12] راجع : تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 90).