• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام

قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام

هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي (ت684 هـ) أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعَلماني؟

هل كان «القرافي» يريد في حديثه عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أنه دليل على أن «الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير مُلزِمة؛ وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح»؟

لا بأس، لنلملم أطراف هذا الموضوع، ونعيد ترتيب المشهد من جديد، ولنشرح القصة بالكامل؛ لنعرف أين يقع «القرافي» وأين يقع بعض المعاصرين الذين يستشهدون بــ «القرافي» كثيراً.

لدينا إذن ثلاثة أمور:

 ماذا قال «القرافي»؟

وماذا فهم بعض المعاصرين منه؟

 وما مدى صحة هذا الفهم؟

أما كلام «القرافي» فهو يقرر أن ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً للمسلمين؛ فهو خاص بالأئمة ولا يقوم به عموم الناس، وما صدر عنه صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضياً فهو للقضاة ولا يقوم به عموم الناس، وما صدر عنه باعتباره تبليغاً وفتوى فهو لعموم الناس، فمثلاً توزيع الغنائم وتجهيز الجيوش فعله النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً فلا يسوغ لأحد أن يوزع الغنائم أو يجهِّز الجيوش إلا إن كان إماماً. وليس هذا مثل الفتوى الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تكون لعموم المسلمين، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضياً فهو حكم قضائي لا يشمل عموم الناس، مثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»[1]، هو حكم قضائي فلا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها إلا بعد حكم القاضي؛ لأن تصرُّف الرسول صلى الله عليه وسلم كان باعتباره قاضياً على رأي بعض أهل العلم، وقال آخرون: يجوز للمرأة أن تأخذ بلا إذن قضائي؛ لأن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم هنا كان إفتاء لها وليس قضاء على زوجها.

فأحكام الإمامة والقضاء والفتيا كلها قضايا تشريع، لكن منها ما هو تشريع لعموم الناس يقومون به من دون إذن إمام ولا حُكْم قاضٍ، ومنه ما هو تشريع خاص بالإمامة لا يصدر إلا عن إمام، وتشريع خاص بالقضاء لا يصدر إلا عن قاض، فما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضياً أو إماماً فأحكامها متعلقة بالأئمة والقضاة؛ سواءً كانت واجبة أو مندوبة أو مباحة، وإلا فالأصل هو كونها أحكاماً تشريعية عامة لجميع الناس.

هذه خلاصة نظرية «القرافي» في التصرفات[2].

وأما في عصرنا الحاضر فقد فُهم القرافي من عددٍ من المعاصرين بشكل مختلف تماماً ، وأصبح رأي «القرافي» يتكرر في بعض الدراسات السياسية بتفسير لا يمت لتنظير القرافي بأي صلة.

ماذا فهم بعض المعاصرين من نظرية «القرافي»؟

يقولون: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله الواردة في باب الحكم الدستوري والسياسي ليست ملزمة، بل هي أمور فعلها النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً، وبما يحقق المصلحة المقصودة في ذلك الزمان؛ ولهذا فالأئمة من بعده يجتهدون في بناء الأحكام السياسية بحسب المصلحة التي بنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحكام التي ليست ملزمة لهم كأحكام العبادات والمعاملات والمقدرات التي جاء فيها نصوص ملزمة لعموم الناس.

هذه خلاصة تلك الآراء.

فهل هذا هو كلام «القرافي»؟

بالتأكيد: لا.

إذن، أين الخلل؟

الخلل دخل عليهم من محورين:

الأول: عملية النقل الخطيرة التي مارسوها على كلام القرافي؛ فهو يتحدث عن تصرفات محددة من الرسول صلى الله عليه وسلم فجعلوه يقصد كل الأحكام السياسية؟

 فالقرافي يتحدث عن فعل صدر عنه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً، ولم يقل: كل أحكام السياسة، فهو يتحدث عن أفعال معيَّنة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً: كإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وقسمة الغنائم ونحوها، ولم يقل هذا عن كل باب السياسة؟ وكان يتحدث عن تصرفات، وليس عن كل الأقوال والأفعال في الباب، فهذا تحريف سيئ لكلامه.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم له تصرفات باعتباره قاضياً، ولا يقول أحد: إن كل أحكام القضاء اجتهادية مصلحية لا نصوص فيها!

فمثلاً حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة»[3] هل يقول عاقل: إن هذا تصرف منه - عليه الصلاة والسلام - باعتباره إماماً؟ فمن حق الحكام أن يحددوا باجتهادهم هل يفلح القوم إن ولَّوا أمرهم امرأة أو لا يفلحوا؟

وحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا»[4]. هل يقول أحد: إن هذا حكم للائمة أو للناس فهم الذين يحددون اعتبار الصلاة هنا أو عدم اعتبارها؟ وما الحاجة لسؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إذن إن كانت كل شؤون السياسة مصلحية بحتة؟

لهذا قال القرافي (فما فعله - عليه السلام - بطريق الإمامة: كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في الأراضي والمعادن ونحو ذلك، فلا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - فعله بطريق الإمامة وما استبيح إلا بإذنه فكان ذلك شرعاً مقرراً)[5]

فالموضوع عن تصرف معيَّن وليس عن كل أحكام الباب، فهذه عملية نقل قفزت على مفازات عدة حتى تصل إلى هذه النتيجة!

فتصرفات الإمامة هي جزء من السياسة، وليست هي كل السياسة؛ فثمَّ أحكام كثيرة شــرعية هي من صميم السياسة ولا علاقة لها بموضوع التصرفات.

الثاني: أن القرافي جعلها أحكاماً خاصة بالأئمة، ولم يخرجها عن التشريع؛ فهي تشريع حسب تأصيله لكن لا يقوم بها إلا الإمام، وأما هذا الفهم العصري فقد ألغى عنها التشريع بالمرَّة فجعلها أحكاماً مصلحية متغيرة، وهذا بعيد جداً عن تقرير القرافي؛ فتصرفات الإمامة المختصة بالأئمة منها ما هو واجب على الإمام كإقامة الحدود، ومنها ما هو مندوب أو مباح حسب كل حكم؛ ولهذا اختلف العلماء في جملة من الأحكام السياسية ، وما خطر ببال أحد منهم أن كل أحكام السياسة خارجة عن التشريع، ولو كان هذا وراداً عندهم لما أتعبوا أذهانهم في الحديث عن كونها واجبة أو مباحة أو مندوبة أو منسوخة... إلخ؛ لأنها في النهاية ستكون خاصة بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تُلزِم أحداً، كما هو هذا الفهم العصري المغلوط!

فهاتان غلطتان حرَّفتا برأي القرافي وقلبتاه رأساً فخرج رأي جديد لم يعرفه القرافي ولا كان يدور في خلد أحد من عصره، فالقرافي يتحدث عن جزئية معيَّنة في السياسة وهم جعلوه يتحدث عن كل السياسة! والقرافي يتحدث عن تشريع وإلزام لكنه خاص بالأئمة والقضاة فأخذوا برأيه بعد أن سحبوا قضية التشريع ووضعوها عند الباب.

فصار رأيهم المحدث يقول: السياسة ليس فيها أحكام وتشريعات ملزمة؛ وإنما تقوم على مبادئ كلية عامة، تعتمد على المصلحة المتغيرة.

هي نتيجة وصلوا إليها عن طريق «القرافي» ووصل إليها آخرون من مسار مصلحة «الطوفي» وغيرهم من جهة مقاصد «الشاطبي».

تقول هذه النتيجة: إن بالإمكان تجاوز كثير من الأحكام الشرعية التفصيلية التي يجري عليها الخلاف المعاصر؛ حيث لم تعد ملزِمة كما كان الإسلاميون يفهمونها سابقاً.

سيخطر في ذهنك سريعاً بعد قراءة هذا التفسير سؤال مشروع يقول:

ما فرق هذا الكلام عن العَلمانية؟

فالخلاف مع العَلمانية حول النظام السياسي المعتمِد على تشريعات وأحكام ثابتة، وحين تكون أبواب السياسة خارجة عن التشريع فالخلاف إذن على أي شيء؟

وهو سؤال محرج يتطلب جواباً واضحاً عن الفرق الذي يميز هذا الطرح الإسلامي عن الطرح العَلماني، وقد ذكروا في التفريق أمرين:

الفرق الأول: أن أصحاب هذا التفسير يؤمنون بالمبادئ الكلية والأصول العامة للشريعة، ويؤمنون بقيام الأحكام على المصلحة كما راعتها الشريعة بخلاف الفكر العَلماني.

وهذا فرق غير كافٍ ولا مقنع؛ لأن الأصول العامة والمبادئ الكلية تتميز بالعمومية المطلَقَة بما يمكن إدراج كافة التفسيرات فيها، ولن يكون لدى الفكر العَلماني حساسية من مبادئ العدل والحرية والشورى والمساواة حين تكون مجرد مبادئ كلية عامة، وأما المصلحة فالفكر العَلماني إنما يدعو من قديم لأن تعتمد المصلحة بعيداً عن الأحكام التشريعية التفصيلية.

الفرق الثاني: أن العلمانية ليست شيئاً واحداً ولا فكراً محدداً، فيمكن بمثل هذه الرؤية التقريب والتوافق مع تفسير معيَّن للعَلمانية لا يحمل عداءً للإسلام وأهله؛ فهؤلاء يمكن تبنِّي موقفاً قريباً من موقفهم لأن رؤيتهم لا تعارض الإسلام وإنما الخلاف مع العَلمانية المعادية للإسلام.

إذن، ليس ثَمَّة مشكلة كبيرة مع الفكر العَلماني المعتدل الذي لا يعادي الدين؛ لأنه في النهاية حصل اتفاق على إبعاد أي أحكام شرعية ملزِمة من الحكم، وصار الاعتماد على المصلحة المتغيرة؛ فأساس الخلاف بين الإسلاميين والعَلمانيين هو في الإلزام بأحكام بناءً على رؤية دينية، وحين لا يعتمد النظام السياسي الإسلامي على أي أحكام شرعية محددة فقد حصل الاتفاق والتقارب بين الفكر العَلماني والإسلامي.

ربما يفرح بعض الناس بهذا التقارب على أنه حل وسـط وخيار جديد للعمـل الإسلامي المعـاصـر، لكن واقع الأمر بكل أسف - أنه ليس خياراً جديداً، بل هو تحويل للنظرية الإسلامية لتكون متوافقة مع المنظومة العَلمانية التي لم تغير شيئاً من منهجها، بل بقيت في مكانها وجاءت إليها المنظومة الإسلامية بعد أن حققت الحد الأدنى من الشرط العَلماني المقبول.

يتوهم أن الصراع (الإسلامي - العلماني) قديماً كان مع العَلمانيين المتطرفين الذين يعادون الدين ويسعون لاستئصاله، فيشعر بارتياح لأنه استطاع أن يكسب بعض العَلمانيين، وما علم أن الصراع - أساساً - كان مع العَلمانية التي لا تعادي الدين، وأن النزاع - تحديداً - كان في كيفية فرض نموذج ديني على الناس، وأما العَلمانية المعادية للدين فهؤلاء خلاف الإسلاميين معهم لم يكن في النظام السياسي أصلاً، فلا معنى الآن لاستثنائهم لأنهم كانوا من الأصل خارج النزاع!

فقصة العَلمانية التي لا تعارض الإسلام باختصار - هي ذاتها العلمانية التي حاربها الإسلاميون سابقاً ثم أصبحت مع مرور الأيام لا تعارض الإسلام!



[1] أخرجه البخاري: 2/769، رقم (2095).

[2] انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، للقرافي 45 - 49.

[3] أخرجه البخاري: 6/8، رقم ( 4425).

[4] أخرجه مسلم: 3/1480، رقم (1854).

[5] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 49.

 

أعلى