العلمانية في المغرب .. صراع متجدد
كان يوماً مباركاً ذلك
اليوم الذي زرت فيه الشيخ الدكتور إدريس الكتاني في بيته لأول مرة، تنقلنا في
النقاش بين مواضيع شتى حتى أثرت معه كتابه (المغرب المسلم ضد اللادينية)، واستغربت
عدم إعادة طبعه رغم مرور أكثر من نصف قرن على طبعته الأولى التي نفذت منذ أعوام.
فاقترح عليَّ أن أتكلف بذلك، فاستجبت دون تردُّد شاكراً له هذه الثقة، ثم اقترح
عليِّ أن أُعدَّ مقدمة لهذه الطبعة، وهذا من تواضعه - حفظه الله - فمتى كان
الأصاغر المجاهيل يقدمون للأكابر المشاهير، وترددت في القيام بذلك لمعرفتي قدر
نفسي، ولعلمي أن أي مقدمة لهذه الوثيقة المهمة لن تقدم جديداً ذا فائدة. ثم بعد
تفكير يسير توكلت على الله في خط هذه السطور التي لن يكون لها كبير فائدة إلا على
كاتبها، الذي هيأ له الله - عز وجل - من الأسباب ما جعل اسمه يوضع بجانب اسم باحث
ومفكر من الطراز العالمي، ويتشرف بأن تكون له يد في إخراج هذا السفر المهم
والمفيد، الذي يرصد فيه صاحبه مؤامرة حيكت ولا زالت تحاك ضد عقيدة ودين وأخلاق
وتاريخ هذا الشعب، مؤامرة حاكت خيوطها نخبٌ تصدرت صالونات السياسة ومنابر الإعلام،
وصُنعَت صنعاً على أعين الغرب، لتكون هي ممثل الشعب وقائده إلى ظلمات العَلمانية.
يؤرخ الدكتور إدريس
الكتاني في كتابه هذا الذي هو تبرير وشرح لأسباب استقالته من حزب الشورى
والاستقلال في خطاب رفعه آنذاك لأمين عام الحزب حينها محمد حسن الوزاني، هذا الحزب
الذي انقلب فجأة إلى العَلمانية، وبدأ يغازل اليهود ويرسل رسائل التطمين ذات
الشمال وذات اليمين.
قلت: يؤرخ في هذه الوثيقة
التاريخية المهمة، لانحراف في مسار جزء من الحركة الوطنية والأحزاب السياسية،
وتنكُّره لدينه بطريقة يذكر الدكتور مستهجنة ومقرفة، ولم تكن لها حاجة أو داعٍ،
اللهم إلا التملق والتسلق والتآمر. وتولى جريدتان آنذاك، هما: (الرأي العام)
وجريدة (الديمقراطية) كِبْر محاربة الإسلام والاستهزاء برموزه ومقدساته وفرض
العَلمانية واللادينية، على شعب مسلم عشية الاستقلال. ولقد حاربت (الديمقراطية)
الإسلام حرباً لا هوادة فيها مستهزئة برموزه ومقدساته.
والحقيقة أن المؤامرة
التي تحدَّث عنها الدكتور الكتاني، والتي تزعَّمها من تلبَّس بلبوس القيادة
والزعامة والنضال، مِن فلول الاستعمار وأذنابه، ورؤوس التخريب و أصحابه، لم تكن
البداية. بل هي محطة من محطات الارتباط بالعدو بشكل من الأشكال، وعلى مستوى من
المستويات، والتي كان علماء المغرب لها بالمرصاد.
ففي سنة 1303هـ كتب
الشيخ جعفر بن إدريس الكتاني جَدُّ المؤلف كتابه (الدواهي المدهية للفرق المحمية)،
متصدياً لظاهرة خطيرة مست المغرب في صميم وحدته وسيادته، ودينه وسياسته؛ ألا وهي
احتماء المغاربة بالأجانب والتجنس بجنسياتهم. وقد كَثُر هذا النوع من الاحتماء في
صفوف بعض الإقطاعيين من المسلمين، وفي صفوف كثير من أهل الذمة خاصة اليهود منهم.
وقد كان هؤلاء المحميون مرتبطين بالعدو مستمدين قوتهم منه، متنكرين لأصولهم
وتقاليدهم. وهو ما يكرره العَلمانيون في أيامنا. ولقد كان الشيخ حازماً وصارماً في
كتابه مع هذه (الظاهرة / الفتنة). ثم بعد ذلك بدأت جحافل الجواسيس والمبشرين تغزو
البلاد، متخذة من مهن عديدة غطاء لتنفيذ مهمتها. فكان منهم الطبيب و الباحث
والرحالة والتاجر وغيرهم، وتسللوا لمراكز القرار ومواقع التأثير، وانتشروا في
القرى والمداشر، بعد أن عششوا في قصر السلطان ومؤسسات الدولة، بل باضوا وفرخوا.
فأصبحت سياستهم نافذة، فضلاً عن تقاريرهم للدول الاستعمارية المتواصلة المتزايدة.
وقد تصدى العلماء لهذه الظاهرة، وحذروا منها كتابة وخطابة ووعظاً وفتوى. كان منهم
والد المؤلف الشيخ محمد بن جعفر الكتاني، في كتابه (نصيحة أهل الإسلام بما يدفع
عنهم داء الكفرة اللئام)؛ حيث تصدى لهذه الظاهرة. وتحدث عن بودار انهيار المغرب،
وأسباب ذلك، والحلول المقترحة. وكتابه المذكور، نصيحة قدمها للسلطان المولى عبد
العزيز، محاولةً أخيرةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن السلطان لأسباب عدة (صغر السن،
وقلة التجربة، وفساد البطانة، وتسلل الجواسيس لبلاطه) ارتمى في أحضان
الغرب، ومهَّد للعَلمانية. حيث بدأت بوادرها في عهده بإلغاء الزكاة، والتشريع
للضريبة المسماة الترتيب، وإنشاء أول بنك ربوي، وغيرها من الإجراءات. وقد قاوم
العلماء ذلك بشدة، وكان لهم الدور الكبير والكلمة الأولى والأخيرة فخلعوا بيعته،
وبايعوا أخاه السلطان المولى عبد الحفيظ على الإسلام والجهاد والتحرير.
لكن جيوب مقاومة الأسلمة،
وتقليص دور العلماء ونشر العَلمانية والاستماتة في قتل روح المقاومة، والسعي لتقديم
المغرب على طبق من ذهب لأعدائه، التي كانت مصالحها مرتبطة بالاستعمار الصليببي،
متمثلة في المحميين والجواسيس والخونة وأجداد العَلمانين، مافتئت تحاول وتناور
وتمكر وتكيد، وتبث سمومها عبر جرائد ظهرت في تلك الفترة، لعل أشهرها جريدة السعادة
التي كانت تصف المقاومين بالإرهابين، والعلماء بالرجعيين والظلامين والثوار
المفسدين. وتدعو إلى الاستسلام لفرنسا لتحقيق التقدم والحداثة والازدهار. فتصدى
لها جمع من العلماء والمثقفين.
لقد كان الناس
آمنين، يتحاكمون لشريعة ربهم، ويفضون نزاعاتهم بين يدي علمائهم، ويتصدون لمحاولات
حشر الأعداء أنوفهم في أحكامهم وقوانينهم ومصالحهم وحرماتهم، إلى عهد قريب. وفي
أوائل القرن التاسع عشر وابتداءً من سنة 1840م، أصبح للقناصل الأجانب دور كبير في
إدارة بعض مصالح مدينة طنجة، بعد أن تخلى عنها سلطان ذلك الوقت. وتطور الأمر إلى
ما يشبه قيام حكومة محلية، ثم جاء الاعتراف بها كمدينة دولية سنة 1902م. وفي سنة
1923م تقدمت بريطانيا باقتراح لوضع نظام خاص بطنجة. وفي سنة 1924م أصبح هذا
الدستور قانونياً، وأصبحت طنجة تحكم نفسها حكماً ذاتياً مستقلاً، كانت اليد الطولى
والكلمة المسموعة فيه تعرف مداً وجزراً بين الدول القوية المتصارعة المسيطرة على
المدينة. ورغم أن المغاربة المسلمين كان عددهم يفوق الثلثين، إلا أن الفصل في
الخصومات بينهم وبين غيرهم، كان يتم في محكمة مختلطة تتكون من ثلاث قضاة من فرنسا
وإسبانيا وواحد من إيطاليا والبرتغال وبلجيكا وهولندا وبريطانيا وأمريكا. وانتظر
المسلمون سنة 1952م، لإضافة قاض مسلم واحد لم يكن له من الأمر شيء، وكان وجوده
شكلياً.
كان هذا في طنجة الدولية،
التي كان تطبيق العلمانية فيها وإبعاد الدين سابقاً على باقي مناطق البلاد، وبعد
دخول فرنسا رسمياً للمغرب عقب معاهدة الحماية، وجدت العَلمانية والقوانين الوضعية
طريقها للتطبيق والتنزيل على أرض الواقع، وبدأت عملية عزل الشريعة وإقصائها
والحدِّ من دور العلماء وتهميشهم تتم بالتدريج. فقد صدر ظهير ملكي لضبط محال بيع
الخمور بتاريخ 29/06/1913م، وصدر بتاريخ 19/03/1914م، ظهير ملكي بتقنين البغاء،
وفي 11/09/1914م، صدر ظهير ملكي يأمر بإقرار ومراعاة العوائد البربرية (وهو ما
يعني عدم خضوع هذه المناطق للشريعة وتحاكُمها للأعراف والتقاليد؛ أي العلمانية)،
وفي 21 من الشهر نفسه صدر قرار بتحديد القبائل الخاضعة للحكم البربري العَلماني،
وفي 22/09/1915م صدر بلاغ يقضي بجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات
البربرية، وفي 15/11/1922م صدر قرار يقنن تفويت العقارات للأجانب بالقبائل
البربرية، وصدر قانون مصادرة الأراضي في 11/01/1914م، وصدر ظهير إصلاح القضاء
بتاريخ 11/01/1913م، وعدل بتاريخ 07/03/1914م، ثم في 30/04/1916م، وفي 22/08/1921،
وفي 29/04/1924م. وصدر ظهير تمييز الراية المغربية بتاريخ 29/06/1915م. وظهير حرية
الصحافة المأخوذ عن القانون الفرنسي بتاريخ 27/04/1917م، وعدل في 09/02/1918م، ثم
في 20/11/1920م، وهي السنة التي صدر فيها قانون يمنع على جميع مدارس البادية تعليم
العربية الفصحى، وفي 1930م صدر الظهير البربري الصليبي العَلماني، والقاضي بإحلال
قانون العقوبات الفرنسي في المناطق الأمازيغية.
كان هذا استعراض
لجذور العَلمانية وإقصاء الشريعة في المغرب، التي تمت على مستويات وحقول مختلفة؛
فقد كانت طنجة الحقل المكاني للتجربة الأولى؛ كونها الحلقة الأضعف والأنجح أيضاً
لأسباب عدة.
ثم كانت القوانين مدخلاً
لإقصاء الشريعة، في باقي المناطق، وهي طريقة سريعة وغير مكلفة، ساعد في إنجاحها،
جهل المجتمع بما يحاك ضده، وتقديم هذه الحزمة من القوانين في قالب الإصلاح
والتجديد، وحمايتها وتطبيقها وفرضها، بقوة الرجال والحديد والنار.
ثم جاءت مرحلة أخرى، هي
علمنة النخبة ثم المجتمع، وهو هدف مكلف وبطيء، يستدعي تعهُّد نخبة من الزعماء
والمثقفين للقيام بهذا الدور، وتكوينهم وتمويلهم ومراقبتهم، ثم استهداف ثقافة وفكر
وعقيدة المجتمع وَفْقَ برنامج مكلف وطويل الأمد. يذكر (روم لاندو) في كتابه تاريخ
المغرب في القرن العشرين، في الفصل الثالث تحت عنوان (الحركة القومية): أن أغلب
طلاب الحركة الوطنية في بداية تشكُّلها تأثروا باتحادات العمال والأفكار
الاشتراكية؛ خاصة أولئك الطلبة الموجودين بفرنسا، وأن عدداً من القادة كانوا من التقدميين
الذين درسوا في فرنسا، وهم معجبون بثقافتها ويحترمون مدنيتها، بل بعضهم حارب في
جيشها وتدرب في معسكراتها. وقد استعملت معهم فرنسا سياسة العصا والجزرة، فكانت
تدفعهم لتقديم التنازل تلو الآخر باعتماد أسلوب التضييق والاتهام والتنقيص
والازدراء؛ فقد كان الفرنسيون - حسب روم لاندو - يردون على مطالب الوطنيين
بالاستقلال بأنهم ما يزالون في طور بدائي وأنهم لا يعرفون ما يريدون، وأنهم بعيدون
عن الديمقراطية ومتعصبون دينياً وذووا نزعات معادية للسلام، وليس لهم برنامج واضح.
ولك أن تطلق العنان لخيالك لتتصور ما يمكن أن يقدمه بعض هؤلاء القادة من تنازلات
وإثبات حسن السيرة والسلوك لمحو هذه اللائحة من التهم؛ خاصة أولئك الطامعين في
الحكم والزعامة. وتحت ضغط الشعب من جهة وضغط الاستعمار والرغبات الشخصية فقد كان
على هؤلاء الزعماء - لضمان الاستمرار في مناصبهم وإرضاء جميع الأطراف - التوفيق
بين مبادئ الإسلام، والمطالب العَلمانية للحضارة الحديثة، فكانوا وبالاً على
أمتهم.
ورغم ذلك فقد ظل العلماء
متيقظين، مدافعين عن الإسلام بنقائه وصفائه، مستمدين من عقيـدته ما يعينهـم على
جهاد الأعداء بالسيف والسنان، والمرتبطين بهم كيفما كان هذا الارتباط بالقلم
واللسان، فتصدوا لبعض محاولات العلمانيين الركوبَ على الموجة، وقطف الثمرة،
والتنكر لدين هذا الشعب وتضحيات أبنائه. وتحقيق أهدافٍ ومكتسباتٍ للحملة الصليبية
الاستعمارية ما كانت لتحلم بها. و ما استطاعت تحقيقها بقوة السلاح وأنواع العذاب
وأشكال الدمار والخراب، ونقل الدكتور إدريس الكتاني في كتابه مواقف لكلٍّ من
الشيخ المكي الناصري وعلال الفاسي من العَلمانية والعَلمانيين.
كما تصدى هؤلاء العلماء
للطرق الصوفية التي باعت دينها بعَرَض من الدنيا قليل: كالشيخ المكي الناصري في
كتابه (إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة)، والشيخ ابن المؤقت في كتابه (الرحلة
المراكشية). وقد أشار الدكتور الكتاني في كتابه لهذا الدور المخزي
للطرق الصوفية بقوله: (لقد كنا نقاوم شيوخ الطرق الدينية، أيام الحماية لأنهم
كانوا يطعنون الإسلام في الصميم بموالاتهم للاستعمار)[1].
لقد وضع الدكتور إدريس
الكتاني إصبعه على الداء، ولو أن تاريخ المؤامرة وجذورها سابق لحادثة تآمر بعض
قيادات حزب الشورى والاستقلال بكثير، كما أشرنا أعلاه. بل كتب الدكتور إدريس
الكتاني نفسه كتاباً سنة 2000م، يتحدث فيه عن مؤامرة بدأت خيوطها قبل ثمانين سنة،
وقد أسماه (ثمانون عاماً من الحرب الفرنكفونية على الإسلام واللغة العربية)، وهو
وثيقة مهمة ترصد صراع المرجعية الإسلامية الأصلية، والمرجعية العَلمانية
الاستعمارية الدخيلة، بخصوص مؤامرة سماها الدكتور الكتاني: (الحرب اللغوية
الفرنكفونية العَلمانية)، حرب يشنها الغرب الصليبي العَلماني الصهيوني على مستوى
برامج التعليم والثقافة والإعلام، بإستراتيجية تقوم على اختراق واحتواء عالمية
الحضارة الإسلامية طولاً وعرضاً، في بعديها (التاريخي والجغرافي). وثيقة مهمة
تتناول مؤامرات عَلمنة التعليم وتغريبه وفرنسته، كتبها الدكتور بمناسبة مشروع
ميثاق التربية والتكوين لسنة 1999م، وقد تحدث عن رفض 500 عالم ومثقف لهذا المشروع
العَلماني الفرنكفوني، وقال عنه: إنه يهتدي بسياسة ليوطي لسنة 1921م، ويسترشد
بالظهير البربري لسنة 1931م، و هو حلقة في سلسلة مشاريع استعمارية عَلمانية لتخريب
التعليم، بدأت سنة 1962م، يستعرضها الدكتور الكتاني في كتابه المهم والفريد.
ويستعرض معها رفض هيئات وشخصيات لهذه السياسات التعليمية العَلمانية الفرنكفونية
الاستعمارية:
- كاستقالته من عمله في
وزارة التربية الوطنية احتجاجاً على مشروع الوزارة لإصلاح التعليم، وهي ثاني
استقالة له في حياته السياسية، وهو المشروع الذي رفضه المجلس الأعلى لرابطة علماء
المغرب، ورفع بخصوصه برقية لرئيس المجلس الأعلى للتعليم، بتاريخ 18 جمادى الثانية
1382هـ، 18 أكتوبر 1962م، وقَّعها الأمين العام، عبد الله كنون و 53 من الأعضاء.
- وكموقف
عمر الساحلي سنة 1964م، وموقف علال الفاسي سنة 1965م، وغيرهم.
-
وفي أكتوبر 1970م وقعت 500 شخصية بياناً ضد السياسة الحكومية الاستعمارية
الفرنكفونية العَلمانية، حول التعليم.
-
وفي أكتوبر 1980م، أصدرت رابطة علماء المغرب بياناً ترفض مشروعاً لوزارة التربية
الوطنية بعنوان نحو نظام تربوي جديد.
-
وفي أكتوبر 1993م، أدانت مجموعة من الأحزاب والحركة الإسلامية، مشروع المسالك
المزدوجة الفرنسي الاستعماري، الذي قدمه وزير التعليم العالي الفرنسي فرانسوا
بايرو، لوزير التعليم المغربي رشيد بن المختار، سراً سنة 1996م، وتحدث الوزير
الفرنسي لمجلة السفارة الفرنسية بالمغرب، كوصي مسؤول عن تلبية حاجات الآباء
المغاربة.
وللدكتور إدريس الكتاني
صولات وجولات في فضح السياسة العلمانية الفرنكفونية، في مجال الإعلام.
ولقد ظل الدكتور إدريس
الكتاني عصياً على الهضم من طرف معدة عَلمانية كبيرة، تسعى لابتلاع كل مقومات
البلاد، وتحويلها لمطرح لفضالات ونفايات الغرب. وكان غصة في حلق العلمانية، وشوكة
في خاصرتها، بثباته وجهاده وفضحه للمؤامرات والمكائد، وأغلب كتاباته في فضح
التغريب والفرنكفونية والعلمانية، بطريقة عزَّ نظيرها، ليس في المغرب، بل في
العالم الإسلامي أجمع.
فهي كتابات ترصد تحولات
وتغيرات على الواقع، وأحداث تاريخية عايشها الدكتور، ومؤامرات بالأسماء والتواريخ.
وليست ردوداً فكرية أو فلسفية على نظريات وأطروحات، وبرامج في الفضاء، أو حبيسة
الكتب لمفكرين علمانيين ظهر عداءهم للدين ومحاربتهم له حتى للعجائز. كما نرى من
بعض من يتهرب من تسمية الأمور بمسمياتها. أو ممن أصيب بنوبة صحوة ضمير، أو ممن
تحلى بنصف الشجاعة أو ربعها، ممن يعرض النظريات العلمانية، لمجهره أو مشرطه، يخرج
حقائقها، ويتعلق بدقائقها، ويبحث عن مراميها وأهدافها، ويتحدث عن فلاسفتها
وجذورها، ويؤرخ لها بتواريخ وحقب عجيبة. ويتيه بك في تفاصيل وتحليلات، يشرح
الواضحات، ويكرر الاستنتاجات. ولكنه لا يكلف نفسه انتقاد مظهر من مظاهرها المعاشة،
ولا يراها طوفاناً تكتسح غرفة نومه ومدرسة طفله، وقوانين بلاده، ومظاهر حياته،
وتفاصيل يومه. لذلك جاءت كتب وأبحاث الدكتور الكتاني، فريدة من نوعها، نادرة في
بابها، رصداً لوقائع وأحداث، وإنكاراً لها بكل جرأة وشجاعة الصادع بالحق، المجاهد
بقلمه ولسانه.
وكتاب (المغرب المسلم ضد
اللادينية) أحد الوثائق المهمة والفريدة والنادرة، التي جمعت بين الرصد والتحليل
والمتابعة، لمرحلة من مراحل التآمر من جهة، وبين التعليق على الأحداث، والتعبير عن
الموقف والصدع بالحق واستنكار المنكر من جهة أخرى. والكتاب مرجع لأغلب من يتحدث عن
العلمانية في المغرب، من الكتاب والمفكرين الإسلاميين. فقد أحال عليه الدكتور يوسف
القرضاوي، وكذلك أبو الحسن الندوي في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة
الغربية في الأقطار الإسلامية).
ولا يفوتني أن أسجل تحفظي
على بعض ما جاء في الكتاب، من أفكار ومواقف: كالحديث عن اشتراكية إسلامية،
وديمقراطية إسلامية، وكإحسان الظن ببعض الشخصيات وتلميعها، وإضفاء ألقاب التعظيم
والتبجيل عليها، وقد كفانا التاريخ عناء كشف حقيقتها.
[1] صفحة (41).