قراءة في التعامل الصهيوني مع الانتفاضات الفلسطينية (سياسياً وعسكرياً)
أحيا الإعلام الصهيوني خلال الشهر المنصرم الذكرى السنوية الثانية والعشرين لانطلاق انتفاضة الحجارة التي اندلعت في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1987، واستمرت حتى أواخر عام 1993؛ حيث وُقِّع اتفاق أوسلو «سيئ الصيت»، وقبلها بشهرين جاءت الذكرى السنوية لانتفاضة الأقصى التي اندلعت في سبتمبر (أيلول) عام 2000، وما زالت حتى يومنا هذا تشهد حالات من المد والجزر. التحليل التالي يسلط الضوء على التغطية الإعلامية الصهيونية لهاتين المناسبتين، وعلى تركيز الصهاينة على ما يسمونه: الاستعدادات الجارية لمواجهة «الانتفاضة الثالثة» المتوقعة. مفاجأة انتفاضة الحجارة: تعرَّض الإعلام الصهيوني إلى تفسيرات اندلاع الانتفاضة، والتعامل معها، وتراوحت بين عدة اتجاهات: 1 - باغـــت اندلاع الانتفـــاضة الأوساط الصهيــونية، لا سيَّما العسكرية، وفاجأتهم قوَّتها وشموليتها واستمراريتها، وهي التـي اعتقـدت أن الاحتـلال اسـتطاع خـلال عشـرين عامـاً أن يُلحق الضفة الغربية وقطاع غزة به، وتحييد الغالبية العظمـى من أهلهـا عن المسـيرة الوطنيـة، ولم يخطــر بباله أن الفلسطينيين سيجرؤون على تحدي سلطته العسكرية الـمُطْبِقَة عليهم بانتفاضة شعبية عارمة. 2 - بقيت القيادة الأمنية العسكرية الصهيونية غارقة في غطرستها، وأعماها جمودها الفكري وعنصريتها عن فَهْم الانتفاضة لحظة انفجارها، ولم تستطع رؤية الظواهر الجديدة في الحركة الشعبية الفلسطينية كما هي، ولم تقرأها بصورة موضوعية مجردة عن «عنجهية المحتل»، واكتفت بالتعامل معها باعتبارها تكراراً لأحداث تعودت عليها لسنوات طويلة. 3 - ظنَّ أركان الدولة العبرية أن بإمكانهم السيطرة على الانتفاضة بسهولة خلال أيام معدودة بالأساليب والوسائل القديمة، هكذا كانوا مقتنعين، وهكذا كانت تقاريرهم للقيادة السياسية تبيِّن ذلك، وبسببها رفض «رابين» الأخذ بنصيحة بعض مستشاريه بقطع زيارته لواشنطن والعودة إلى تل أبيب لمعالجة الموقف، وشجَّعته على إطلاق تصريحات عنجهية من واشنطن قال فيها: بعد أيام سأعود إلى تل أبيب، وعندها ستنتهي حركة «الشغب» الجارية في المناطق. 4 - بعد فَشَل هذه التهديدات في إخماد لهيب الانتفاضة، حدثت أزمة في الاطمئنان النفسي الصهيوني للقوة العسكرية؛ إذ لم تعد دولة الكيان الصهيوني قادرة على اعتماد ما تحصَّلت عليه من أسباب القوة لإخماد وَهْجها المتنامي، بعد أن فرضت عليها نمطاً من المواجهة لم يحسب العقل الاستراتيجي الصهيوني حسابه، ومن ثَمَّ نجحت الانتفاضة في تحييد هذه القوة العسكرية وشلِّ فعاليتها. وسرعان ما دفعت قوات الاحتلال بقواتها العسكرية إلى المواجهة؛ حيث وصل عدد جنودها أكثر من عددهم يوم احتلال الضفة والقطاع، بل زادت في بعض المناطق بنسبة 200 - 300%، بالإضافة لاستخدام المجنزرات، وطائرات الهيلوكبتر، والأسلحة المتطورة في مواجهة الجماهير، وكذلك القمع والاعتقالات الجماعية للآلاف والتعذيب والبطش بصورة وحشية. ولنا أن نقف أمام تصريحات «إسحاق شامير، وإسحاق رابين، وشمعون بيريز، وأرئيل شارون»: فالأول: جاهر بأن على الجيش أن يُرعب الفلسطينيين حتى يهدؤوا وتسكن حركتهم. والثاني: أعلن أنه سيتابع إصدار الأوامر للجنود كي يقوموا بقمعهم. والثالث: تابع تصريحات زخرف القول كعادته. والرابع: كما درج في سياساته كلها يهدد ويتوعد الفلسطينيين والعرب والعالم كله. دروس انتفاضة الأقصى: تُعَدُّ انتفاضة الأقصى حالة معقَّدة للغاية بالنسبة لجيش الاحتلال، ويمكن تلخيص آثارها وتبعاتها على بِنْيَة الجيش ومعنوياته، وإفشال مخططات الاحتلال (التوسعية والأمنية والسياسية والاقتصادية)، وعدم تمكينه من تحقيق أيٍّ منها بالنقاط التالية، وذلك وَفْقاً لما أبرزها الإعلام الصهيوني مؤخراً: 1 - قدرة الانتفاضة الذاتية، وثباتها في مواجهة العدوان، ونجاحها في مقارعة المحتل بمختلف الوسائل (الأمنية والعسكرية والإعلامية والسياسية)، واكتساب الثقة الشعبية، واحتضان المجتمع لدَورِها، واستعداده للتحمُّل والتضحية. 2 - إنتاج ظاهرة العمليات الاستشهادية، التي تنافس على القيام بها جيل الشباب دون الثلاثين من العمر منافسة شديدة؛ والغريب أن يشارك في المنافسة من تجاوز هذه السن ممن استقرت حياتهم الأسرية بشكل معقول، وكذا النساء والفتيات. ولعل هذا ما كان يقصده المحلل العسكري الصهيوني «أليكس فيشمان» حين قال: إن انخفاض معدل العمليات في بعض الأحيان، لا يعني أننا انتصرنا، وأن الانتفاضة على وَشَك الانتهاء؛ لأنه في المقابل يتضاعف عدد الإنذارات؛ وهو ما يعني أن جيلاً من الفدائيين يُخلق وينمو فوراً، بدلاً من الجيل الذي تمَّ القضاء عليه وسَـيَخلُفه في الميدان، والجيل الجديد ليس أقل عنفاً. 3 - تَمكُّن الانتفاضة من ضَرْب الجبهة الداخلية الصهيونية بشكل قوي لأول مرة منذ سنة 1948، وهي النقطة الأضعف في الدولة والمجتمع؛ وهو ما لم تقم به الجيوش العربية أبداً في حروبها، وهو ما أوجع الاحتلال أيضاً، ليس على مستوى الخسائر المادية والبشرية فحسب، بل على مستوى استقرار الدولة ومستقبلها من حيث الوجود، إضافة لإيقاف الهجرة القادمة، وإحداث هجرة مضادة هاربة. تلك الحقائق دفعت بالمؤرخ الصهيوني «بنتسيون نتنياهو» والد «بنيامين نتنياهو»، للقول: من يحلم بالأمن والاستقرار والهدوء في هذه البلاد يبحث عن أوهام لا يمكن أن تتحقق؛ فما دام الفلسطينيون يرون يوم استقلالنا يوماً لنكبتهم، فإن المواجهة ستبقى متواصلة وغير قابلة للتوقف. خسائر الاحتلال (اقتصادياً وبشرياً): أبرز الإعلام الصهيوني في إطار مراجعاته لآثار وتبعات الانتفاضتين على الكيان، عدداً من مؤشرات الخسائر التي مُنِي بها (اقتصادياً وعسكرياً وبشرياً)، على النحو التالي: 1 - عانى المجتمع الصهيوني من تدهور وَضْعه الاقتصادي، الذي شهد ازدهاراً كبيراً قبل الانتفاضة؛ حيث تعطَّلت السياحة تقريباً؛ وهي تمثِّل ثاني مصدر للدخل. وكانت أعوام الانتفاضة هي الأسوأ من الناحية الاقتصادية منذ خمسين عاماً؛ حيث تراجع الناتج المحلِّي الإجمالي بنسبة 1%، وارتفعت نسبة البطالة إلى 10.5%، وارتفع عدد الصهاينة تحت خطِّ الفقر إلى 20% (أي: نحو مليون ومئتي ألف صهيوني)، وانخفض المعدل السنوي لإنتاج الفرد ثلاثة آلاف دولار، من 18600 إلى15600 دولار. 2 - قدَّرت بعض التقارير الأمنية الخسائر الصهيونية من القتلى والجرحى بين عامَي: 2000م - 2006م بـ: 1100 قتيل، و 6000 جريح، وبلغ مجموع ما أُنفِق على الأمن سنة 2004 ما يقرُب من 9.5 مليار دولار، ومجموع من خرج للسياحة خارج البلاد أثناء الانتفاضة 360 ألف صهيوني، أكثرهم خرج خوفاً من العمليات الاستشهادية؛ وهو ما دفع بوزير الأمن الداخلي السابق (عوزي لنداو) للقول: «إن الحرب التي تديرها قوات الأمن ضدَّ الحركات المسلحة، هي حرب أدمغة وأساليب جديدة». 3 - وخلال أعوام الانتفاضة، نفَّذ الفلسطينيون أكثر من 20 ألف هجوم من أنواع مختلفة، قُتل فيها أكثر من ألف صهيوني، وأكثر من 5600 جريح، منها 138 عملية استشهادية، قُتل فيها أكثر من 500 صهيوني، وجُرح أكثر من 3100 آخرين. 4 - ووَفْقاً لآخر الإحصائـيات الصادرة، أوضح العميد «يسرائيل زيف»، رئيس قسم العمليات في جيـش الاحتـلال، أن النفقات العسكرية في مواجهة الانتفاضة بين عامَي: 2002 - 2006 جاءت على النحو التالي: 750 مليون دولار، 300 مليون دولار، 200 مليون دولار، 150 مليون دولار، 175 مليون دولار. أخيراً: علَّق الإعلام الصهيوني في معرض استعداده لتغطية ما يصفها بـ: «الانتفاضة الثالثة» على أخطاء التعامل الصهيوني مع الانتفاضة؛ حيث تعرَّض الجنرال «غيورا أيلاند» رئيس قسم التخطيط في هيئة الأركان، للأخطاء التي ارتكبها الجيش (سياسياً وعسكرياً)، خاصة عدم الاستعداد لهذه المواجهـة: لا بالمفهـوم التنظيمـي ولا بالمفهـوم الفكـري، وهو ما أدى لفقدان الإحساس بالأمن الشخصي، وباتت طُرُقُ الضفة الغربية غاية في الخطورة... وشعر العديد من الصهاينة بانعدام الأمان في الأماكن العامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب فلسطيني