• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الخرف المفيد

ولا شك لدينا أن بايدن الذي كان لسنوات طويلة في هرم السلطة، وكان يومًا ما نائبًا للرئيس أيام أوباما، وأيام كان ذهنه حاضرًا قد اطلع على أو شارك في رسم الخطط للتخلُّص من نووي باكستان،


الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعدُ:

‏يُعَدّ الخرف حالةً مصاحِبة للتقدُّم في العمر على تفاوتٍ كبيرٍ بين البشر في الفترة العمرية التي يبدأ فيها، وكذلك في مظاهرها وأعراضها المُصاحِبَة. ويتمثّل أهمّ أعراضها في عدم القدرة على التعامل مع الحاضر نتيجة الضعف في تذكُّر الزمان والمكان والأشخاص.

والمُصاب بالخرف يَفقد القدرة على التركيز، وقد يبقى لديه القدرة على تذكُّر الماضي البعيد ولكن يُصاحَب بحالةٍ من الهذيان؛ بحيث يَفقد القدرة على التحكُّم بلسانه، ولذا فقد يذكر أحداثًا أو انطباعات وأفكارًا كانت مكتومة لسنوات طوال؛ وقد أشار الله -تعالى- إلى هذه المرحلة من الضعف؛ فقال -سبحانه-: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [سورة النحل: 70]، وروى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنَس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم  كان يدعو: «اللَّهُمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات».

ويشاهد جميع هذه التغييرات أو بعضها مَن لديهم شخص خَرِف في بيتهم أو قريتهم. ولكن الأدهى من تلك الحالات الفردية هو حال العالَم عندما يصل للسلطة في أقوى دولة في العالم رجل تكثر هفواته وتصرفاته الغريبة، ويتعرَّض لكَمٍّ هائلٍ من التندُّر والتساؤل عن قُدُرَاته الذهنية في مقاطع حقيقية، وأخرى تمثيلية فكاهية تَحكي واقعه!

والمثير هنا أن مقاطع أجنبية تتندر على الرئيس الأمريكي، وتجد تفاعلًا كبيرًا وقبولًا من ملايين الأمريكيين؛ مما يعني قبولهم حقيقة أن رأس الهرم مُصَاب بالخرف، وأنه يتصرَّف حسب التوجيه عن قرب، والأدهى أنه من شِبْه المؤكَّد تناوله مُنشِّطات للذهن؛ للحفاظ على التركيز قدر الإمكان وقت الاجتماعات والخُطَب.

ومع تطور الحالة كثرت العثرات الخطيرة التي ساهمت في إضعاف قدرة أمريكا على التعاطي مع الأحداث العالمية الخطيرة؛ فنحن في خِضَمّ صراع مصيريّ شامل يتحدّد على أساسه بقاء تربُّع أمريكا على القمة، أو تراجعها إلى الخلف؛ لتصبح مجرد قطب من أقطاب العالم المتعددة، وقد تدخل في صراع داخلي يُقزّمها أكثر، وكون الرئيس مشلول القدرات يثير تساؤلًا عمَّن يحكم أمريكا على الحقيقة، خاصةً مع غياب نائبة الرئيس وضعف أدائها، ونحن في هذا المقام، يهمّنا في المقام الأول تأثير هذه الحالة على العالم الإسلامي، وكيف تنظر أمريكا لأتباعها الذين تُظْهِر لهم الصداقة، وتتعهَّد لهم بالحماية، وتشكرهم أحيانًا على خدماتهم الجليلة.

ومن هذه الدول نختار باكستان كدولة سايرت الغرب منذ قيامها، ودخلت في مشاريعه أيام الحرب الباردة؛ فدخلت في حلف بغداد لحصار الاتحاد السوفييتي، وحرب أفغانستان الأولى وما تلاها من تفكيك للاتحاد السوفييتي. وهنا مفارقة غريبة، وهي تشابه الحالة التركية مع الباكستانية؛ فهناك هامش للعمل السياسي، وفي كلا البلدين كانت أمريكا تَستخدم الجيش في ضبط العمل السياسي؛ فمرَّ البلدان بفترات حُكم مدني يتخللها انقلابات عسكرية، ولمَّا كان آخر انقلاب عسكري في تركيا فاشلاً، وكان ثمنه غاليًا؛ فإن باكستان تمرّ الآن بمرحلة حَرِجَة؛ فالوضع السياسي الداخلي مع الأوضاع الجيوسياسية في المحيط مُعقَّدة، فوجود عمران خان الذي حاول التخلص من قيود أمريكا، وربط بلاده بشبكة علاقات مع القوى الإقليمية الإسلامية والقوى الدولية خاصةً روسيا والصين، وزيارته لموسكو ولقاء بوتين مع بداية الحرب مع أوكرانيا؛ أدخلتْ باكستان في بؤرة الاهتمام الأمريكي، ولما كان التخلُّص من عمران خان عن طريق الجيش غير مضمون العواقب؛ لاحتمال تضافر الرفض الشعبي مع التدخل الصيني، وهو ما يعني فقدان باكستان؛ فإن البديل هو الإزاحة الناعمة، ونحن الآن في المرحلة الثانية، وهي منع عمران من ممارسة العمل السياسي عن طريق القضاء واللجان الانتخابية، وفشل هذا المسار يقتضي تدخل الجيش بدعوى الحفاظ على السلم الأهلي؛ نتيجة افتعال اضطرابات قد يُصاحبها اغتيالات سياسية لزعماء سياسيين لمختلف الأحزاب، ومن بينهم بالطبع المقصود الأول وهو عمران خان.

وبالطبع فإن هذا المسار خطر وكارثيّ، وإذا كان ممكنًا تَطبيقه بنجاح قبل سنوات أيام التفرد الأمريكي؛ فإنه محكوم عليه بالفشل حاليًا مع التوتر الحادّ في العلاقات الدولية. ولا شك أن الصراع الدولي قد أنقذ باكستان من مخطط تدميري أمريكي قديم يهدف إلى استباق تحرُّر باكستان ونهوضها بإدخالها في مرحلة اضطراب داخليّ وتوتُّر مع الهند وإيران يُمهّد الطريق لتدخل أمريكي بغطاء دولي لنزع السلاح النووي الباكستاني بدعوى عدم القدرة على حمايته والتحكم فيه، والخوف من تسرُّبه لقُوًى خارجية، وهي قضية أُثِيرَتْ من سنوات طويلة باتهام باكستان بتسريب التقنية النووية للعراق أيام صدام، ولليبيا أيام القذافي، وكذلك صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك عام 2007م بأن حصول إيران على عدد من القنابل النووية لا يُشكِّل خطرًا وجوديًّا على إسرائيل في الوقت الحاضر، لكنَّ الخطر يتمثل في السلاح النووي الباكستاني، الذي يمكن أن يتسرَّب إلى دُوَل أخرى في حال تعرُّض استقرار باكستان للخطر.

وقبل أن نتطرّق إلى القنبلة التي ألقاها بايدن أخيرًا؛ فإنه يَحْسُن إلقاء الضوء على البرنامج النووي الباكستاني عن طريق عرض بعض المعلومات المنشورة حول مسيرة الشخصية الأبرز في هذا البرنامج السِّرّي: عبد القدير خان، فهو عالِم باكستاني في الفيزياء النووية، ومهندس بعلم الفلزات وعلم السبائك، سافر عبد القدير خان لاستكمال دراسته فالتحق بجامعة برلين التقنية؛ حيث أتم دورة تدريبية لمدة عامين في علوم المعادن. كما حصل على الماجستير عام 1967م من جامعة دلفت التكنولوجية في هولندا، وكان قد تزوج من امرأة هولندية؛ حيث تمت مراسم الزواج بالسفارة الباكستانية بهولندا! ونال درجة الدكتوراه عام 1972م من جامعة لوفين البلجيكية.

وبينما تقدَّم لعدة وظائف في باكستان، ولم يجد ردودًا إيجابية، تلقَّى عرضًا من شركة هندسية هولندية ليشغل وظيفة كبير خبراء المعادن؛ فوافق على عرضهم، وكانت الشركة على صلة وثيقة بأكبر منظمة بحثية في أوروبا ومدعومة من أمريكا، ومهتمَّة بتخصيب اليورانيوم، وكان تعرُّض البرنامج لمشكلات تتعلق بسلوك المعادن فرصةً لعبد القدير خان للدخول في عمق البرنامج، ومع مساهمته بحلّ المشكلات؛ فقد اكتسب خبرة كبيرة، وأصبح من أكبر العلماء في هذا المجال، وأيضًا كان له حق الامتياز في الدخول إلى أكثر المنشآت سرية في المنظمة البحثية (اليورنكو).

وفي عام 1974م فجَّرت الهند قنبلتها النووية الأولى بمساعدة غربية مباشرة ورسمية، وهنا أرسل الدكتور خان رسالة إلى رئيس وزراء باكستان «ذو الفقار علي بوتو» قائلاً فيها: «إنه حتى يتسنَّى لباكستان البقاء كدولة مستقلة؛ فإن عليها إنشاء برنامج نوويّ». دعاه الرئيس لزيارة باكستان بعد تلك الرسالة بعشرة أيام، ثم دعاه مرة أخرى في عام 1975م، وطلب منه عدم الرجوع لهولندا ليرأس برنامج باكستان النووي، وصُعِقَت الدوائر الغربية لبدء البرنامج الباكستاني بصورة جادة وسرية، وبدأت التحقيقات، ومنها التابعة للسلطات الهولندية التي أعلنت أنها توصلت إلى أن الدكتور عبد القدير خان قد نقل معلومات عالية السرية لوكالة الاستخبارات الباكستانية؛ إلا أنهم لم يتوصلوا إلى أيّ دليل يُثبت إن كان الدكتور قد أُرْسِلَ منذ البداية إلى هولندا كجاسوس، أو أنه هو الذي عرَض ذلك على السلطات الباكستانية فيما بعد، والمهم أنه أسَّس معامل هندسية للبحوث في مدينة كاهوتا القريبة من مدينة روالبندي، بعدما أخذ الموافقة من رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو بأن تكون له حرية التصرف من خلال هيئة مستقلة خاصة ببرنامجه النووي.

وفي عام 1981م، وتقديرًا لجهوده في مجال الأمن القومي الباكستاني غيَّر الرئيس الأسبق ضياء الحق اسم المعامل إلى معامل الدكتور عبد القدير خان للبحوث، وأصبحت المعامل بؤرة لتطوير تخصيب اليورانيوم؛ حيث عمل خان على العديد من المشاريع لتطوير الأسلحة الباكستانية النووية.

وحين علم العالَم بتمكُّن باكستان من صناعة القنبلة النووية؛ ثار على الحكومة الباكستانية، وبدأت الضغوط تُمارَس على الحكومة من جميع الجهات ما بين عقوبات اقتصادية، وحظر على التعامل التجاري، وهجوم وسائل الإعلام الشرس على الشخصيات الباكستانية. كما تم رَفْع قضية على الدكتور عبد القدير خان في هولندا بتهمة سرقة وثائق نووية سرية، وبعد هذا الهجوم بدأ المشروع في إنتاج جميع حاجياته؛ بحيث أصبح مستقلاً تمامًا عن العالَم الخارجي في صناعة جميع ما يلزم المفاعل النووي.

وبعد قيام الهند بتجارب نووية، ورغم الضغوط الهائلة قامت باكستان بإجراء ست تجارب نووية في مايو 1998م، ودخلت رسميًّا إلى النادي النووي، وأصبح عبد القدير خان بسببها بطل باكستان الثاني بعد محمد علي جناح -أول رئيس لباكستان-، كما أطلقت عليه الصحافة لقب «أبو القنبلة الذرية الإسلامية»، وسرعان ما بدأت الاتهامات تُوجَّه إلى الدكتور عبد القدير خان ببيع وتسريب معلومات ومواد تُستخدم في تصنيع القنبلة الذرية لعدة دول؛ مثل: إيران والعراق وليبيا وكوريا الشمالية وسوريا، مما اضطره لترك العمل في معامله البحثية، والعمل في منصب المستشار العلمي للحكومة بقرار من الرئيس الباكستاني برفيز مشرف، إلا أن هذا الإجراء لم يُوقف اتهامات المخابرات المركزية الأمريكية لخان، وتم وضع خان رهن الإقامة الجبرية لمدة خمس سنوات، ثم أُفرج عنه في يوم الجمعة 6 فبراير 2009م، في ظل قلق إسرائيلي أمريكي! والمطالبة بضمانات حول عدم تورطه في نشر الأسلحة النووية.

والحقيقة أن البرنامج النووي الباكستان مثَّل هاجسًا مقلقًا للغرب، وإذا كان عبد القدير خان قد طُورِدَ وسُجِنَ؛ فإن لنا الحق في الشك في ظروف إعدام ذو الفقار علي بوتو رئيس الوزراء الذي دعم المشروع، وجعله واقفًا على قدميه.

وبالطبع لا يُحتاج أن نقول: إنه لا أحدَ حقَّق في كيفية وصول التقنية النووية لا إلى إسرائيل ولا إلى الهند، وحتى بايدن لم يُشِر إليهما عندما تحدث عن باكستان بدون مقدمات خلال حفل استقباله للجنة حملة الحزب الديمقراطي لانتخابات التجديد النصفي في الكونغرس؛ فقد تكلم عن خطر الصين، ثم انزلق وتكلم عن باكستان؛ حيث قال: «أعتقد أن باكستان من أخطر الدول في العالم؛ دولة نووية لكنها غير متزنة»، وهو ما يعني أن باكستان يجب أن تفقد الاتزان حتى يصبح نوويها خطرًا على العالم.

ولا شك لدينا أن بايدن الذي كان لسنوات طويلة في هرم السلطة، وكان يومًا ما نائبًا للرئيس أيام أوباما، وأيام كان ذهنه حاضرًا قد اطلع على أو شارك في رسم الخطط للتخلُّص من نووي باكستان، وخرج منه الكلام لعدم القدرة على التحكم بسيل المعلومات التي يختزنها في الذاكرة البعيدة، وأخيرًا فإنه إذا كان السياسي بارعًا في صياغة الكلام وإخفاء الحقائق والكذب؛ فإن مَن يعاني مِن الخرف يكون صادقًا في التعبير عما يعرفه؛ فجملة «أعتقد أن باكستان من أخطر دول العالم»، مؤكَّد أنه قد سمعها يومًا ما في سنةٍ ما؛ فالحذر الحذر يا أهلنا في باكستان الحبيبة!!

 

أعلى