• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
(البوكايية) والإعجاز العلمي في القرآن الكريم

هذه قصة حياة واحد من أشهر المستشرقين الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام وأنصفوه في مؤلفاتهم وأعطوه قدره أمام الغرب، وأثبت أنه لا انفصال بين الدين والعلم وأن بينهما توأمة كاملة وأن كلاهما وجهان لعملةٍ واحدة


لقد كانت العلاقة بين العلم والدين موضوعاً شائكاً منذ القدم، واهتم الفلاسفة والعلماء ورجال الدين بتفسير هذه العلاقة، وفي الحقيقة اختلفت وجهات النظر في ذلك وفْقاً للمناطق الجغرافية، والثقافات والحقب التاريخية؛ فبعض الباحثين يصف هذه العلاقة بأنها نوع من الصراع، وبعض آخر يصفها بالانسجام والتوافق. ويُعدُّ الطبيب والجراح الفرنسي المسلم موريس بوكاي صاحب الحركة البوكايية من أشهر العلماء الذين ناقشوا بموضوعية العلاقة بين العلوم الحديثة والدين وتوصل إلى أن العلم لا يتناقض أبداً مع الدين، وأن القرآن الكريم وضَّح العديد من الحقائق العلمية قبل وصول المعارف المكتسبة إليها بعدة قرون وهو ما أسماه بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

مفهوم البوكايية:

هو مصطلح يستخدم بواسطة الأكاديميين للدلالة على حركة المتدينين في ربط العلم الحديث بالدين وخصوصاً الإسلام، واشتق مصطلح البوكايية نسبة إلى الطبيب الفرنسي موريس بوكاي، وقد ظهرت هذه الحركة بعد تأليف بوكاي كتابه الشهير (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث)، إذ خرج العلماء الذين توصلوا إلى الإيمان بالله عن طريق النظر المباشر في الكون، واستدلوا عليه بالوقوف على عددٍ من الإشارات العلمية الصادقة في آيات القرآن الكريم بنتيجةٍ مهمة وهي أن الدين لا يتناقض مع العلم لأنه من العليم الخبير الذي وضع نظام كل شيء؛ بل على العكس فقد أيَّد الدينُ العلمَ في كل مناحيه[1]، والآيات القرآنية شاهدة على ذلك؛ فهي تحض على تدعيم الملاحظة والمشاهدة والتجربة العلمية وتشجع النفس المؤمنة على البحث والدرس والتأمل، وتطلق العنان لتقبل العلم من ناحية ولتبليغه وتطبيقه من ناحيةٍ أخرى، فهناك انسجام بين الإيمان والعلم فكلٌّ يدعم الآخر ويؤيده، وما يمكن أنْ يقع من اختلافات بين العلم والدين ما هو إلا فهم خاطئ أو سطحي للعلم لأنه في تجديد وتغيير مستمر[2].

الجراح الفرنسي موريس بوكاي Maurice Bucaille (1920/1988م):

ولد موريس بوكاي لأبوين فرنسيين، وكان يعتنق النصرانية الكاثوليكية، ولما أنهى تعليمه الثانوي انتظم في دراسة الطب في جامعة فرنسا فكان من الأوائل حتى نال شهادة الطب، وأصبح من أشهر الجراحين الذين عرفتهم فرنسا الحديثة، وكان الطبيبَ الشخصيَّ لملك السعودية الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1906 - 1975م)، وكان لبوكاي اهتمامٌ كبير بدراسة الكتب الدينية المقدسة دراسة نقدية في ضوء المعارف الحديثة، وتولدت لديه نزعة البحث حول التوافق بين الدين من خلال نصوصه المقدسة وبين العلم الحديث، وقد درس اللغة العربية وتعلمها في معهد اللغات الشرقية بجامعة السوربون، واطلع على ترجمة للقرآن الكريم للمستشرق الفرنسي غاستون بلاشير Gaston Bachelard وهي التي فتحت له آفاقاً جديدة. لقد شكلت كل هذه العوامل شخصية بوكاي وتفكيره وأدت إلى اعتناقه الإسلام عام 1982م، وتوفي في 17 فبراير 1998م بعد ما خلف وراءه إرثاً من المؤلفات العظيمة.

إسلام موريس بوكاي ورحلته من الشك إلى الإيمان:

تعدُّ قصة إسلام بوكاي من القصص العجيبة والجديرة بالذكر. إذ كان رئيس لجنة الجراحة والتشريح المسؤولة عن فحص ودراسة مومياء فرعون مصر رمسيس الثاني التي أصابتها عدوى فطرية ونقلت إلى فرنسا لإجراء الفحوصات الطبية الحديثة لها في سبتمبر 1976م، وبعد دراسة علمية رصينه للمومياء أعد بوكاي تقريراً نهائياً عن حالتها خلاصته أن فرعون مات غرقاً في البحر؛ إذ توجد بقايا ملح عالق في الجسد، كما أظهرت أشعة إكس أن عظامه مكسورة بدون تمزق الجلد، واستنتج أن ذلك بسبب قوة ضغط ماء البحر، كما استطاع تفسير الوضعية الغريبة ليده اليسرى؛ فقد استنتج أنه كان يمسك لجام فرسه أو السيف بيده اليمنى ودرعه باليد اليسرى، وأنه في وقت الغرق ونتيجة لشدة المفاجأة وبلوغ حالاته العصبية ذروتها ساعة الموت ودفعه الماء بدرعه، فقد تشنجت يده اليسرى وتيبست على هذا الوضع، فاستحالت عودتها بعد ذلك لمكانها مرة أخرى كما هو معروف طبياً. وكان يعتقد بوكاي أن ذلك اكتشاف جديد، وكانت المفاجأة عندما أخبره أحد زملائه أن المسلمين يتحدثون عن غرق هذه المومياء وهو ما أصابه بالدهشة الكبيرة؛ فمثل هذا الاكتشاف لا يمكن معرفته إلا بتطور العلم الحديث عبر أجهزة حديثة بالغة الدقة، وزاد اندهاشه عندما علم أن القرآن الكريم يروي قصة غرقه وسلامة جثته بعد الغرق، فازداد ذهولاً؛ فالمومياء لم تكتشَف أصلاً إلا عام 1898م، أي قبل مائة عام تقريباً، بينما القرآن الكريم موجود قبل أكثر من 1400 عام! وكيف يستقيم في العقل هذا والبشرية لم تكن تعلم شيئاً عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث فراعنتهم إلا قبل عقودٍ قليلة من الزمان؟

سافر إلى المملكة العربية السعودية عام 1982م لحضور مؤتمر طبي يحضره جمعٌ من علماء التشريح المسلمين وعندما عرض ما اكتشفه عن مومياء فرعون مصر، قام أحدهم وفتح له القرآن وأخذ يقرأ له قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِـمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]، ولقد كان وقْع الآية عليه شديداً فأعلن بأعلى صوته اعتناقه الإسلام قائلاً: «لقد دخلت الإسلام، وآمنت بهذا القرآن»[3].

دراسته للقرآن الكريم:

بدأ بوكاي بدراسة القرآن الكريم، ومكث عشر سنوات ليس لديه شغل يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والطبيعية مع القرآن الكريم، والبحث عن تناقض علمي واحد مما يتحدث به القرآن ليخرج بعدها بنتيجة مضمونها {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وأن القرآن يتميز بالشمولية والصدق ودقة منهج معالجة الموضوعات التي تخص الإنسان والكون واتفاقها مع العلوم الحديثة، وأن القرآن صالحٌ لكل زمان، وأن لغة القرآن تعلو على أي مقارنة، ويؤكد بوكاي على دقة التعابير المستخدمة في القرآن الكريم بالرغم من بساطتها، وأن كمّاً كبيراً من الآيات محمل بالإشارات العلمية، ومن أشهر مقولات بوكاي عن القرآن: «القرآن فوق المستوى العلمي للعرب، وفوق المستوى العلمي للعالم، وفوق المستوى العلمي للعلماء في العصور اللاحقة، وفوق مستوانا العلمي المتقدم في عصر العلم والمعرفة في القرن العشرين، ولا يمكن أنْ يصدر هذا عن أُمِّي»[4].

وقد زار الطبيب بوكاي عدة بلدان إسلامية وألقى عدداً من المحاضرات العلمية القيمة حول الإعجاز العلمي في القرآن، وأقر أن الآيات القرآنية تمثل نسيجاً متكاملاً ينظم العلاقة بين الفرد وخالقه وبين الفرد والمجتمع، وأن القرآن منهج حياة وليس فقط تعاليم روحانية، وأنه لا يوجد أدنى تعارض بين الآيات القرآنية والحقائق العلمية التي يتوصل إليها الإنسان[5]، وهذا ما يؤكده أيضاً الفيلسوف الفرنسي ريني گنون René Guénon واصفاً القرآن بالمعجز فيقول: «لقد تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم والطبيعة، فوجدت أن هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، لأني أيقنت أن محمداً أتى بالحق الصريح من قبل أكثر من ألف سنة، من قبل أنْ يكون هناك معلم أو مدرس من البشر، ولو أن كل صاحب علم من العلوم أو فن من الفنون قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيداً كما قارنت؛ لأذعن للقرآن بلا شك إنْ كان عاقلاً خالياً من الأغراض»[6].

إسهامات موريس بوكاي:

ترك بوكاي العديد من المؤلفات التي ضمت بين صفحاتها دفاعاً عن الإسلام وعن أهمية القرآن الكريم والعلوم الحديثة والعلاقة الوطيدة بينهما، ومن أشهرها كتابه الموسوم بـ (التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث) المنشور عام 1976م، والذي تُرجم لسبع عشرة لغة منها العربية، ويشتمل الكتاب على عدة فصول ناقش في بدايتها حقيقة نسبة نسخ التوراة والإنجيل الحالية وتناقضها ومصادمتها للعقل والعلم، ثم يتناول بعد ذلك القرآن الكريم وأنه منزَّل كاملاً من عند الله، ثم يتناول بعض الحقائق العلمية فيه ودقة مطابقتها لما توصل إليه العلم من حقائق مثل: خلق السموات والأرض، وعلم النبات والحيوان، وعلم الأرض والجبال، وعلم الأجنة وتطور الجنين وَفْقَ ماجاء في القرآن، ثم ناقش قضية فرعون موسى في ضوء الرويات المختلفة للكتب المقدسة وما جاء في القرآن الكريم.

ومن كتبه التي تُرجمت للعربية أيضاً كتاب (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)، وكتاب (أصل الإنسان بين العلم والكتب السماوية)، وكتاب (القرآن والعالم الحديث) وغيرها.

خلاصة القول:  

هذه قصة حياة واحد من أشهر المستشرقين الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام وأنصفوه في مؤلفاتهم وأعطوه قدره أمام الغرب، وأثبت أنه لا انفصال بين الدين والعلم وأن بينهما توأمة كاملة وأن كلاهما وجهان لعملةٍ واحدة، وهناك آيات كثيرة تحث على طلب العلم والتعلم ومعرفة الحق والحقيقة، وربما لم يأتِ القرآن الكريم بكل العلوم الحديثة إلا أنه أتى بالمناخ العقلي الجديد الذي أتاح للعلم أنْ يتطور وحث على طلب العلم والتعلم ومعرفة الحق والحقيقة، ودعا إلى التأمل والتجريب والقياس واستخدام الإنسان أدوات المعرفة التي وُهِبت له من عقل وحواس، ولقد وردت كلمة (علم) ومشتقاتها في القرآن الكريم ما يزيد على 780 مرة وهذا يدل على الاهتمام الكبير بالعلم.


 


[1] سليم ناصر بركات: مفهوم الحرية في الفكر العربي الحديث، ص273.

[2] حسن الشرقاوي: المسلمون علماء وحكماء، القاهرة، 1987م، ص19 - 20. مصطفى محمود: رحلتي من الشك إلى الإيمان، زغلول النجار، مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ص131 - 132 - 133.

[3] لقاء تلفزيوني مع الجراح الفرنسي موريس بوكاي.

https://www.youtube.com/watch?v=tvUZI_n3iUw&ab_channel=AlfarouqChannel

[4] حازم عوض: لماذا أسلمنا؟، وكالة الصحافة العربية، ناشرون. عبد الله عمر: ظاهرة العلم الحديث: دراسة تحليلية وتاريخية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983م.

[5] أحمد السيد نجار: دولة الرفاهية الاجتماعية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، ‏مركز دراسات الوحدة العربية، 2006م،  ص546.

[6] إحسان هنداوي: القرآن وحقائق علم الحياة المعاصرة، مجلة الفيصل، ع160، ص42 - 43.


أعلى