رأى القادة المسلمون النهوض لغزو هذه الجهات وضمها إلى دولة الإسلام لضمان حاضر الفتح الإسلامي ومستقبله بمجاهدة الأعداء الذين يحاولون التعرض بحدوده الشمالية، ويحرضون على إعادة الأندلس إلى حكامه القوط من جديد، ويحاولون أن يُرجعوا عقارب الساعة إلى الوراء، ويود
ما تزال الغزوات الإسلامية في فرنسا وما حولها التي انطلقت من الأندلس في عهد
الولاة (95 - 138هـ)، ما تزال حاضرة بقوة في ذاكرة الأوروبيين وبخاصة الفرنسيين حتى
اليوم، وكأنها حدثت بالأمس القريب، وقد ضربوا حولها ترسانة من الأساطير والخرافات
والأكاذيب والدعايات المغرضة، وتحاملوا عليها أقصى حدود التحامل، ووصفوا الفاتحين
المسلمين بكل صفة قبيحة وذميمة، ورسموا لهم صوراً مزرية وغاية في البشاعة والشناعة،
لدرجة تجعل القارئ أو السامع يشعر بأن هؤلاء المسلمين الفاتحين لم يكن لهم غرض من
غزو فرنسا سوى السلب والنهب، وتخريب الكنائس والمدن العامرة وحرقها، وتكديس الذهب
والأشياء الثمينة، وسفك دماء النصارى واسترقاقهم واغتصاب نسائهم. وقد لعب رجال
الدين النصارى دوراً بارزاً في كل هذا، ثم جاء المستشرقون فأصَّلوه تحت لافتة البحث
العلمي، وصارت هذه سياسة مرسومة لدى الحكومات الغربية، وخاصة فرنسا. وفي حقيقة
الأمر فإن هذه الغزوات كانت نابعة من مجموعة من الأسباب والعوامل المتداخلة، التي
لا تختلف كثيراً في هدفها العام عن أسباب وعوامل غزو الأندلس والبلدان الأخرى، ومن
تلك الأسباب والعوامل ما يلي:
أولاً: نشر الإسلام ومُثُله العليا
لقد كان السبب الأول والمباشر، والشغل الشاغل للمسلمين خلفاء وأمراء وقادة وجنداً
في تلك المرحلة المهمة من التاريخ الإسلامي، هو نشر الإسلام ومُثُله العليا، رجاء
ثواب هذا العمل المبرور عند الله. فإن الإسلام يحث على الجهاد، ويسمي كلَّ من يقتل
في سبيل الله شهيداً، والجهاد في سبيل الله - كما هو معلوم - ذروة سنام الإسلام،
وناشر لوائه، وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به. فبعد أن فتح
المسلمون بلاد الأندلس واستقرت أمورهم فيها، كان يتوجب عليهم النهوض بفريضة الجهاد
لنشر الإسلام بين الشعوب الأوروبية القاطنة فيما وراء جبال البرتات، على اعتبار أن
الإسلام رسالة عالمية موجهة للناس كافة، ودينُ عام يجب إفاضته على الإنسانية كلها
في جميع أقطارها، وأن تشملهم حضارته الراقية ذات الفكر الرشيد والمبادئ البناءة
والمثل والقيم السامية، لقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:
158].
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ:
28].
وقوله أيضاً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:
107].
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المسداة والنعمة المهداة، قد أُرسل إلى
الناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وكل تعاليمه
وإرشاداته لصالح البشر جميعاً {يَأْمُرُهُم بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْـمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْـخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:
157]،
وليس نذيراً لقوم بأعيانهم أو لأمةٍ بعينها. ولكن الإسلام - مع هذا - لا يقسر
الآخرين على اعتناقه: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ} [البقرة:
256]؛
بل يدع لهم أقصى الحرية والحماية في مزاولة شعائرهم الدينية[1].
وإذا كان الإكراه حدث في بعض الأحيان إلا أنه اقتصر على مشركي العرب عبدة الأصنام؛
أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن في حكمهم فكان لهم خيار ثالث وهو: أن يصبحوا
من أهل الذمة ويؤدوا الجزية للمسلمين فتُترَك لهم حرية تنظيم شؤونهم الخاصة فقط[2].
وليس صحيحاً أن المسلمين
«شجعوا
أهل الكتاب في أن يظلوا على أديانهم التي كانوا عليها قبل الفتح[3]»
كما يزعم المستشرقون. وعلى الرغم مما يظنه الكثيرون وخاصة ما يصر عليه المستشرقون
من أن الفتوحات كانت عشوائية ارتجالية؛ فالواقع أن العرب كانوا إنما يصدرون في
أعمال الفتح عن تخطيط مسبق وإستراتيجية منظمة[4].
ومن هنا: فإن انتقال ميدان الجهاد إلى الأرض الكبيرة (فرنسا) على سبيل الفتح الثابت
المستقر يشير إلى منهج مرسوم، وهي هناك خطوة جهادية أخرى جديدة[5].
ثانياً: شغف الجنود المسلمين بالجهاد
ذلك أن حماس هؤلاء الجند للجهاد في سبيل الله لم يكن قد فتر ولم تكن قوَّتهم قد
استُنفدت بعد، لأن إيمانهم بالقضية التي يجاهدون من أجلها وهي نشر الإسلام قد
زوَّدهم بطاقة معنوية لا حدود لها، تجلَّت واضحة في أخلاقهم وسلوكهم وشجاعتهم
وشغفهم بالاستشهاد. والمصادر التاريخية مليئة بالوقائع التي تؤكد على أن (فروسية)
العرب المسلمين لم تتجلَّ في إتقان القتال والمهارة في الخطط الحربية والتكيُّف مع
البيئات الجغرافية التي جاهدوا فيها والبراعة في استخدام الأسلحة فحسب؛ وإنما أيضاً
في القيم الأخلاقية التي صاغت سلوكهم مع أعدائهم وأصدقائهم على السواء، والتي كانت
تعبيراً عن روح الإسلام ورسالته[6]».
وكانت عملية فتح المغرب الطويلة والشاقة قد أفرزت جيلاً من المقاتلين الأشداء الذين
خبروا كل صنوف القتال وبخاصة البربر، وكان كثيرُ من هؤلاء يتطلعون إلى استئناف
الفتوحات تحدوهم دوافع الفتح المرتبطة بالإيمان بالله وحبِّ الموت في سبيله والرغبة
في نشر الإسلام ومقاتلة الواقفين حجرة عثرةً في طريقه خارج حدود الأندلس. وخاصة بعد
أن يسر الله لهم فتح الأندلس ففتحوه بأقل التضحيات والخسائر وفي فترة زمنية قياسية
لا تتعدى أربع سنوات. فقد
«بدأ
الفتح في رجب 92هـ وانتهى في أوائل 96هـ وقد فتح المسلمون خلال تلك السنوات القلائل
هذه الجزيرة الضخمة من أقصاها إلى أقصاها».
وقد جسَّد عبد الرحمن الغافقي هذا المعنى أحسن تجسيد عندما قال مفسراً الهدف من
وجوده بالأندلس:
«إنما
أنا رجل من عامة الناس ولقد وفدت إلى هذه الديار لأقف على ثغرٍ من ثُغُور المسلمين
ونذرت نفسي لمرضاة الله عز وجل وحملت سيفي لإعلاء كلمته في الأرض»[7].
كما جسَّد هذا المعنى أيضاً النعمان الحضرمي في موقفه لدى الخليفة سليمان بن عبد
الملك أثناء وفادته عليه من الأندلس، وهو الموقف الذي يؤكد بأن الموت في سبيل الله
كان هاجساً ملازماً له طوال حياته، ومن خبر هذا المجاهد أنه:
«دخل
الأندلس للجهاد ووفد منها إلى سليمان بن عبد الملك بخبر فتح هنالك ومعه محمد بن
حبيب المعافري فقال لهما سليمان بن عبدالملك: أرفعا حوائجكما. فأما المعافري فرفع
حوائجه فقُضيَت، وأما النعمان فقال: حاجتي أن تردني إلى ثغري ولا تسألني عن شيء
فأذن له فرجع واستشهد في أقصى الثغور بالأندلس[8]».
تلك بعض الأمثلة الجهادية التي تشير إلى جهود المسلمين المتواصلة والتي لا تعرف
الكلل بل كانت تجد في الجهاد الراحة والأُمنية. وكل ذلك كان داعياً بعد فتح الأندلس
لأن يتحرك الطموح مرة أخرى لنشر النور في بلاد جديدة على أيدي هؤلاء المجاهدين
الذين كانوا يتحرقون شوقاً لإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
ثالثاً: استكمال فتح المعاقل القوطية فيما وراء البرت
وفي مقدمتها مقاطعة سبتمانية في جنوبي فرنسا. ذلك أن هذه المقاطعة لم تكن فقط
المقاطعة الفرنسية الساحلية الأقرب إلى الأندلس؛ وإنما كانت أساساً من أملاك القوط
حكام إسبانيا رغم الحاجز الجبلي بينهما، ولم تكن تابعة للبلاد الفرنجية رغم أنها
جغرافياً وطبيعياً جزء منها. قال ابن عذاري:
«وكان
سلطان رذريق إلى أربونة ثغر الأندلس وهي إذ ذاك أقصى مملكة الأندلس مما يلي إفرنجة[9]».
ومن ثَمَّ كان لا بد للمسلمين والحال هذا من الاسترسال في الفتوح فيما وراء جبال
البرت لفتح هذه المقاطعة. وكانت تضم سبع وحدات إدارية هي: نربونة (وهي عاصمتها)،
نيم، آجد، بيزيه، لوديف، قرقشونة، ماقلونة. وبتعبير آخر: فإن هذه المقاطعة: كانت
جزءاً من الفراغ الذي أحدثه المسلمون بقضائهم على إدارة القوط المركزية في إسبانيا،
ومِن ثَمَّ كان من الطبيعي أن يفتتح العرب أيضاً هذا الجزء من المملكة التي
افتتحوها[10]
منطلقين - كما يعتقد مؤرخ غربي - من أنه حقهم الشرعي وقد حلوا في إسبانيا محل
السلطان القوطي المغلوب أن يضعوا يدهم على ممتلكاته القديمة ومن ضمنها سبتمانية
ومناطق أخرى[11].
ولم يكن الهدف من فتح هذه المقاطعة هو وضع اليد عليها وضمها إلى ما سبق أن فتحه
المسلمون في إسبانيا؛ وإنما الهدف هو نشر الإسلام وقيمه بين أهلها واتخاذها قاعدة
للفتوحات فيما يليها؛ ذلك أن الأمة الإسلامية مكلَّفة بتحقيق العدالة في الأرض وهذا
التكليف يوجب على المسلمين أن يكافحوا الظلم والبغي حيث كان ويزيلوا أسبابه؛ لا
ليملكوا الأرض ويستولوا على المرافق ويستذلوا الأنفس بل لتحقيق كلمة الله في الأرض
خالصة من كل غرض وهذا ما يطلق عليه في الإسلام
«الجهاد
في سبيل الله»[12].
وكانت سياسة الفتح الإسلامي منذ توطدت دولة الإسلام ترمي إلى غاية أبعد من امتلاك
الأقطار وبسط السلطان والملك. فقد كان الإسلام يواجه في الأقطار التي افتتحها من
العالم القديم أنظمة راسخة مدنية واجتماعية تقوم على أصول وثنية أو نصرانية... فكان
على الخلافة أن تهدم هذا الصرح القديم، وأن تقيم فوق انقاضه في الأمم المفتوحة
نُظُماً جديدة تستمد روحها من الإسلام، وأن تذلل النصرانية لصولة الإسلام سواء بنشر
الإسلام بين الشعوب المفتوحة أم بإخضاعها من الوجهتين المدنية والاجتماعية لنفوذ
الإسلام وسلطانه[13].
ويعترف المؤرخ الفرنسي المسيو كيزو (1787 - 1874م) بأن غارات المسلمين في فرنسا:
«جمعت
بين الفتوحات والاستمالة إلى الدين. فلم يكن القصد بها فقط افتتاح البلاد بل نشر
الدين الإسلامي أيضاً»[14].
رابعاً: تأمين حدود الأندلس الشمالية
وإلى جانب ذلك كانت هناك عوامل أخرى تدفع القادة المسلمين الفاتحين لمواصلة
الفتوحات فيما وراء جبال البرت. ومن تلك العوامل: العامل الأمني، الذي كان يفرض على
الولاة ليس فقط التخلص من فلول المقاومة القوطية والإجهاز عليها في داخل إمارة
الأندلس الجديدة والعمل على توطيد الأمور ونشر الأمن والاستقرار في ربوعها؛ وإنما
أيضاً تقوية الخطوط الدفاعية لها وتأمينها من الغوائل التي قد تأتيها من قبل
الأعداء في الشرق والشمال. ولا سيما أنه بعد عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى
المشرق ومن ثَمَّ توقف الفتوحات في الشمال الإسباني إلى حين قد
«أتاحت
المجال لتلك الفلول المناوئة للخلافة أن تتنفس»
كما قال الدكتور عبد الرحمن الحجي،
«وكان
من الأحسن أن تُطَهَّر المنطقة تطهيراً كاملاً وأن يتوجه الفاتحون إلى ما وراء جبال
البرت مجاهدين ومنتصرين»[15].
ولذلك فقد قام عدد من هؤلاء الولاة بجهاد كبير خلف جبال البرت[16]،
وتحديداً في جنوبي فرنسا الذي يتكون من ثلاث مقاطعات، هي: سبتمانيا في الجنوب
وأكيتانيا في الجنوب الغربي وبرفانس في الجنوب الشرقي. وأما المنطقة الواقعة في
الشمال بعد نهر اللوار فكانت خاضعة للدولة الميروفنجية وعاصمتها باريس. وغير بعيد
أن مجموعات كانت تَرِد إلى شمالي الأندلس من أي معبر في البُرت لمعاونة الفلول على
الوقوف والمحاربة. وقد قصد الولاة مع الفتح أيضاً وراء البرت قطع مصدر الإمداد[17]
الذي يمكن أن تعوِّل هذه الفلول على الحصول عليه من حكام تلك المقاطعات. ومن هنا
فقد رأى القادة المسلمون النهوض لغزو هذه الجهات وضمها إلى دولة الإسلام لضمان حاضر
الفتح الإسلامي ومستقبله بمجاهدة الأعداء الذين يحاولون التعرض بحدوده الشمالية،
ويحرضون على إعادة الأندلس إلى حكامه القوط من جديد، ويحاولون أن يُرجعوا عقارب
الساعة إلى الوراء، ويودُّون لو أوقفوا مسيرة التاريخ... وليؤمَن شر تلك الجهات
بإزالة قوتها المادية وإتاحة المجال للدعاة المسلمين للانتشار فيها، وحتى لا يُؤتى
المسلمون في ولاية الأندلس من قِبَلها في المستقبل، ولقطع الاتصال بين بقايا
المقاومة القوطية التي اعتصمت في المرتفعات الجبلية القاحلة والوعرة من إقليم
أشتوريش في الركن الشمالي الغربي واستحال القضاء عليها وبين نصارى غالة؛ فلا تأمل
هذه المقاومة بالحصول على مددٍ منهم... وهذا طبقاً للمنطق العسكري الحالي، وقد يكون
هذا الدافع قد خطر على بال رُواد الفتح الأوائل وقد لا يكون. ومع ذلك فإن الحقيقة
التاريخية تبقى، وهي أن سيطرة المسلمين على مواقع هامة هناك قد انتهت إلى نتيجة هي
تحقيق أغراض الدفاع: فظلت أربونة وبعض نواحي سبتمانية ثغراً إسلامياً يقوم للأندلس
الإسلامي كالدرع الحصين[18]
لفترة من الزمن تجاوزت أربعة عقود.
خامساً: رغبة الخلافة في استئناف الفتح
ويرى بعض الباحثين أن غزو جنوب فرنسا له علاقة بتغير سياسة الخلافة الأموية بعد
وفاة الخليفة عمر بن العزيز وتوليها من قبل يزيد بن عبد الملك (101 - 105هـ) الذي
أُثير كثير من الجدل حول شخصيته. والروايات المعادية للأمويين تصور يزيد الثاني كما
صورت سَميَّه (يزيداً الأول) من قبلُ رجلاً مستهتراً انغمس في اللهو والموسيقى
وشغلته القيان والمغنيات فترك شؤون الأمصار إلى أمرائه وعماله يصرِّفونها كيف
يشاؤون. والواقع أن عهده القصير ظل حافلاً بضروب النشاط الجدي حتى بعد القضاء على
الفتنة في العراق (فتنة يزيد بن المهلب)؛ فلقد وحَّد الإدارة في مكة والمدينة وأدخل
إصلاحات على ديوان القبائل في مصر وكان أساساً لأعطياتهم[19].
ما يهم أنه كانت له سياسته الخاصة التي اختلفت عن سياسة سلفه، ومنها سياسته
المتعلقة بالفتوحات فيذكر بعض المؤرخين أن الروم استغلوا حالة السكون على حدودهم في
عهد سلفه في إعادة ترتيب صفوفهم وتنظيم أمورهم الداخلية ومن ثَمَّ استئناف
محاولاتهم لغزو الشام، ومن ذلك إغارتهم البحرية على اللاذقية سنة 100هـ[20].
كما يذكر هؤلاء المؤرخون أن هدوء حركة الفتح في عهد عمر بن عبد العزيز أدى إلى ركون
القبائل إلى التوطن وهو ما يعني زيادة المشاكل الداخلية وتعقيدها، ومن ذلك
الاضطرابات التي حدثت في العراق وفي بلاد ما وراء النهر في مطلع عهد الخليفة يزيد
بن عبد الملك، وكذلك قيام الصغد بنقض العهد ومعاونتهم للترك في حربهم على المسلمين
سنة 102هـ. وكل هذا قد دفع الخليفة الجديد إلى إصدار توجيهاته باستئناف الفتوحات في
الشرق والغرب لكي تبقى دولته مرهوبة الجانب ومصانة خارجياً وداخلياً. ولعل هذا قد
يُفسِّر لنا أن عبور السمح بن مالك الخولاني لجبال البرتات لغزو جنوب فرنسا إنما
حدث في عهد يزيد وليس في عهد سلفه كما هو شائع، وأن ذلك العبور قد جاء متزامناً مع
غزوات أخرى مماثلة لها على مختلف الجبهات، مثل عبور سعيد بن عبد العزيز الأموي أمير
خراسان لنهر سيحون لغزو بلاد الصغد، وغزو عمر بن هبيرة أمير الجزيرة لأرمينية عام
102هـ، وحملة محمد بن أوس الأنصاري قائد البحر بتونس إلى صقلية عام 102هـ، وغزو
عبَّاس بن الوليد بن عبد الملك لبلاد الروم عام 103هـ. وقد صرَّح بذلك أحد المؤرخين
فقال: بعد أن اطمئن الوالي الخولاني إلى الأمور المالية والاجتماعية والعمرانية في
البلاد اتجهت أنظاره إلى نشر الدين الإسلامي خاصة بعد أن جاءته أوامر الخليفة يزيد
بن عبد الملك من دمشق بضرورة الخروج للجهاد. فخرج سنة 102هـ/721م بالصائفة ليغزو
مناطق جنوب فرنسا وعبر جبال البرتات وسيطر على مدينة أربونة عاصمة سبتمانية[21].
سادساً: فرنسا غداة عبور المسلمين إليها
في العصور القديمة كانت أوروبا الغربية عبارة عن مقاطعات تابعة للإمبراطورية
الرومانية وعلى رأسها البلاد التي عُرفت باسم (بلاد الغال) نسبة للغاليين، وهم قوم
من الكلت حكموا فرنسا والجزر البريطانية في القرون الخمسة السابقة للميلاد، قبل أن
تخضع غاليا وهي أصل فرنسا الحديثة للرومان في القرن الأول ق.م. وقد استمرت تحت
سيطرتهم حتى أواخر القرن الرابع عندما أغارت عليها القبائل الجرمانية وعاثت فيها
نهباً وتخريباً، ثم أقامت عليها فيما بعد ممالك جديدة ذات نظم مغايرة وتقاليد
مختلفة. وعندما سقطت روما عام 476م بأيدي هذه القبائل كانت غالة قد توزعت بين ثلاث
ممالك جرمانية، هي: مملكة القوط الغربيين في مقاطعة أكيتانية في الجنوب وقاعدتها
تولوز. ومملكة برغنديا في الشرق وقاعدتها ليون. ومملكة الفرنجة في الشمال من اللوار
حتى ألمانيا الحالية. وقد حقق الفرنج هذه السيطرة تحت حكم ملكهم المشهور كلوفيس بعد
اعتناقه النصرانية الكاثوليكية. ثم لم يلبث كلوفيس حتى طرد القوط الغربيين من
أكيتانية ودفع بهم جنوباً إلى إسبانيا. كما تمكن أحفاده في العقد الثالث من القرن
السادس من ضم مملكة برغنديا إلى إمبراطوريتهم القوية والشاسعة. ومات كلوفيس في عام
511م ودفن في عاصمة ملكه باريس الرومانية القديمة بعد أن كان قد وحَّد غاليا دينياً
وسياسياً لأول مرة في تاريخها باستثناء مقاطعة سبتمانيا الساحلية في الجنوب، التي
ظلت تابعة للقوط سادة إسبانيا. وظل أبناؤه وأحفاده يتوارثون هذه الدولة بطريقة
اقتسام الإرث بالتساوي؛ ولذلك فقد وهنت الدولة وتدهورت سلطتها المركزية وازدادت قوة
النبلاء واتسعت سلطة الكنيسة وكثرت ثروتها وانغماسها في السياسة الدنيوية واندلعت
الحروب الأهلية التي غدت قاعدة عامة وبخاصة بعد وفاة داجوبرت سنة 639م. وفي أوائل
القرن الثامن الميلادي حينما عبرت الجيوش الإسلامية جبال البرت تجاه جنوب فرنسا كان
الأمراء الأقوياء قد استقلوا كلٌّ بما تحت يده. فاستقلت مقاطعة أكيتانيا في غاليا
الجنوبية، واستقلت معظم الولايات الألمانية[22].
ولم تكن مقاطعات جنوبي فرنسا لتقدر أن تقف في وجه المسلمين المتدفقين عليها من جبال
البيرانة، وكان الحكم للدولة المعروفة إذ ذاك بدولة (الكسالى) نتيجة لضعفهم وكونهم
صاروا ألعوبة في أيدي رؤساء البلاط. وتاريخ الفرنجة من سنة 628 إلى سنة 719م يمثل
تاريخ النزاع بين العائلات الكبرى في نويستريا وأسترازيا للفوز بمركز رئيس البلاط.
وفي النهاية تمكن شارل رئيس بلاط ملك أسترازيا (بلجيكا حالياً) خلفاً لوالده من
إعادة الوحدة إلى قلب المملكة الفرنجية بعد انتصاره على نويستريا. واستبد بأمور
ملوكها ولم يترك لهم من الملك سوى الاسم. إلا أن المقاطعات الجنوبية والجنوبية
الشرقية (أكيتانية وبرغندية وبروفانس) ظلت خارجة عن سلطانه وخاضعة لسيطرة الأمراء
المحليين المناوئين له. والمهم أنه كانت هناك فرصة لمواصلة الفتوحات في غالة لنشر
الإسلام، وكان لا بد من اهتبالها... وقد كان.
[1] سيد قطب: العدالة الاجتماعية، ص79.
[2] مونتغمري وات: في تاريخ إسبانيا الإسلامية، ص23.
[3] المرجع السابق الصفحة نفسها.
[4] شاكر مصطفى: الأندلس في التاريخ، ص15.
[5] عبد الرحمن علي الحجي: التاريخ الأندلسي، ص134.
[6] عادل زيتون: الفتوحات العربية الإسلامية.
[7] عبد الرحمن الباشا: صور من حياة التابعين، ص390.
[8] الحميدي: جذوة المقتبس: (1/358)، ترجمة رقم846.
[9] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: (2/8).
[10] مونتغمري وات: مرجع السابق، ص37.
[11] بوجن أولسومر: أسلافنا العرب، ص54.
[12] عفيف طبارة: روح الدين الإسلامي، ص294.
[13] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ص93.
[14] فرنسوا غيزو: التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوروباوية، ص39.
[15] عبد الرحمن علي الحجي: التاريخ الأندلسي، ص125.
[16] المرجع السابق، ص181.
[17] المرجع السابق، الصفحة نفسها .
[18] حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص289.
[19] بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص152.
[20] إبراهيم زعرور وعلي أحمد: تاريخ العصر الأموي، ص86.
[21] خليل الجبوري: الأندلس في عهد السمح بن مالك الخولاني.
[22] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ص79 - 80.