من أجَلِّ العمل فضح مخططات تبديل الدين وتحريفه وتأويله تأويلاً فاسداً، ومحاولة جمع الناس تحت ملة مصطنعة تُنسَب زوراً لإبراهيم عليه السلام وإن الخليل لبريء من الإبراهيمية وإفكها
الحمد
لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
اعتاد
الناس تقدير المحافظة على إرث الآباء والأجداد والأسلاف، وعَدُّوا ذلكم الصنيع من
العَراقة المحمودة التي يُثنى على أهلها بها ولأجلها، وعابوا خلافها وما يخرمها من
سوء قول أو خطل فعل أو فساد رأي. ومن اللافت أن هذه الخصيصة البشرية في تقدير
العراقة تكاد أن تكون حاضرة بغضِّ النظر عن السلوك الشخصي للأفراد، ذلك أن في جلِّ
البشر بقيَّة من معروف تنزع إلى محبة الحق والصواب والأعمال القيمية، وتأنف من
الباطل، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة.
ولقد
جعل الله من الإيمان به وبوحدانيته وربوبيته وألوهيته وما تقتضيه من لوازمَ فطرةً
مركوزةً في نفوس بني آدم، وهي الدين الذي آمن به أبوهم الأول آدم عليه السلام ودعا
إليه، ثمَّ آمن به ودعا الناس إليه قريباً من ألف عام أبوهم الثاني نوح عليه
السلام. وعلى تلك الفطرة السليمة سار الأنبياء أولوا العزم من الرسل ابتداءً من
أبيهم وإمامهم إبراهيم عليه السلام مروراً بالكليم شيخ أنبياء بني إسرائيل موسى
عليه السلام، ثمَّ الكلمة المعجزة عيسى عليه السلام، وصولاً إلى خاتمهم وخيرهم
محمد صلى الله عليه وسلم .
فمما
نزل إلى النبي الخاتم في القرآن الكريم قول ربنا عز وجل: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ
ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]،
وهي آية صريحة في اعتراف ذرية بني آدم بربوبية الله سبحانه وتعالى؛ كي لا يحتجوا بشيء
خلاف ذلك يوم القيامة يسوِّغون به المعاصي والكفر، أو يحاولون الاعتذار عن عنادهم
ومحادتهم لأمر الله وشرعه.
ثمَّ
أكد رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا المعنى
بحديث واضح مروي عنه في الصحيحين إذ يقول: «كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، وهذه الفطرة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
الحراني رحمه الله من كلام طويل مختصره: «فطرةُ
اللَّه التي فطر الناس عليها هي فطرة الإسلام التي فطرهم عليها، وهي السلامة من
الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة»،
وإلى هذه الفطرة يستند تفسير الخيرية في الناس على تباين مستوياتها.
كما
وردت نصوص أخرى لتثبيت هذا المعنى، من جنس قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. وروى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول
الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرَّمت عليهم
ما أحللت لهم»، وهذه الحنيفية هي دين
إبراهيم عليه السلام الذي تمسك به قلة قليلة من الناس قبيل مبعث النبي عليه الصلاة
والسلام، وإليها تنتسب بعض أفعال أهل الجاهلية القريبة من المناسك مثل الحج وغيره.
وبما
أن الفطرة مغروسة في نفوس الناس وهم في ظهور آبائهم، ثمَّ ولِدُوا بها وعاشوا
سنوات حياتهم الأولى وهي معهم، فيمكن - بناءً على ذلك - السعي للحفاظ على بقايا
هذه الفطرة، وزيادة الموجود منها، واسترجاع الضائع والمحرَّف، وليس بعسير على ذوي
الألباب معرفة السبيل إلى ذلك بعد دراسة الوحي الشريف والسيرة العطرة من مصادرها
دراسة فاحصة بصيرة، وفهم النفس البشرية ودوافعها ونوازعها، والوقوف على طبائع
المجتمعات ومحركاتها، ووعي التاريخ بحوادثه وتقلباته.
وإنه
لأمر من الأهمية بمكان، ذلك أن استحثاث هذه الفطرة سيبعثها من مكامنها، ويعيد لها
الحياة بعد ركود أو خمول أو حتى رقاد، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الرجل الذي يعبد آلهة متعددة بيْد
أنه اعترف بأنه يلجأ لربه الذي في السماء خلال أحوال مخصوصة من الضرورة والبأساء.
وهكذا أقرَّ الشاب المستأذِن بالزنا بخطئه وفحشِ مطلبِه، وأذعن للحق المبين
واستسلم للرشد حينما استنهض النبي الكريم غيرته وأحيا فطرته بالمقارنة.
ثمَّ
إن هذه الفطرة المرتبطة بالإيمان والتوحيد ظلَّت حاضرة مع الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، وأساسية في دعوتهم وحرصهم على أهلهم الأقربين وعلى باقي الأمم التي بعثوا
إليها. فهذا نبي الله الخليل عليه السلام يبتهل لمولاه ويتضرع لربه بقوله: {رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ
35 رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ
مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 35 - 36]، ومن دعائه
بعد طلب الأمن للبلد سؤالٌ صريح بأن يجنبَه اللهُ ويجنِّبَ بنيه ويعيذَهم من عبادة
الأصنام، وفي الآية ملمح تربوي لافت؛ فمن ذا يضمنُ ويأمَنُ إذا خاف الأصنامَ على
نفسه إمامُ الحنفاء؟!
وعلى
منواله سار حفيده يعقوب بن إسحاق عليهما السلام، فاستمهل إجابة داعي الله حين جاءه
الموت حسبما نقل في بعض التفاسير حتى يستوثق من بنيه كما ذكر القرآن العزيز عنه
فيما قاله الله سبحانه وتعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْـمَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ
إلَهَكَ وَإلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ إلَهاً وَاحِداً
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، وإن سؤاله لهم أتى على وجه الاختبار،
ولتقرَّ عينُه في حياته بامتثالهم ما أوصاهم به، فكان جوابهم له مطمئِناً
ومتوافِقاً مع ما رباهم عليه وما يأمله منهم.
أما
نجله النبي الكريم صاحب خير معدن يوسف عليه السلام ففعل الشيء نفسه وهو في محبسه
يقضي زمناً في السجن مظلوماً منسياً، ووردت في القرآن الكريم قصته كاملة في سورة
واحدة ومنها هذا المشهد العابق بعراقة الإيمان في أجواء التساؤل وتعبير الرؤى
وحياة المعتقل؛ إذ يخبرنا القرآن الكريم أن يوسف عليه السلام قال للشابين معه في
السجن بعد أن قصَّا عليه رؤاهما: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا
ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكـْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ 37 وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ
آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ
بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 37 - 38].
وفي
هذه الآيات يتجلى لنا استثمار يوسف عليه السلام لثقة الفتيين به، وحاجتهما لتأويله
الصادق للرؤيا حين استعبراه وربما بإلحاح وحرص، فآثر أن يدعوهما إلى دينه الحق
الذي كان عليه الآباء والأجداد الكرام ذوو العراقة الإيمانية عليهم الصلاة والسلام،
كي يستنقذهما من ظلام الكفر والمعصية، خاصة أنه فهم من رموز الرؤيا بأن أحدهما
سيغادر الحياة الدنيا قريباً، والآخر سيصبح من ندماء الملك وخاصته، فسعى لإصلاح آخرتهما
ودنياهما.
عقب
ذلك فَلِسائل أن يسأل: كيف يمكن لنا المحافظة على الفطرة، وإبقاء جذوة الإيمان وعراقته
في النفوس وفي المجتمعات؟ وكيف نحمي الإيمان والعقيدة الإسلامية مما يحيط بهما من
شبهات وشهوات؟ وإنه لسؤال عظيم خطير خاصة في أزمنة تعاظمت فيها الشرور، وازدادت
فيها الفتن، وضاقت الأرض بما رحبت على عباد الله إلَّا قليلاً قليلاً، وكادت
الغربة أن تصبح هي الأصل، والفطرة هي الاستثناء!
والحمد
لله أن جعل السبيل واضحاً، والطريق لاحباً، والحجة مستبينة، وهي الاستمساك بكتاب
الله وحبله المتين، والاهتداء بسُنة النبي الأكرم والدفاع عنها وصد المرجفين
المجرمين عن سياجها من رجال وكتب وأسانيد ومتون وأفهام، فأولئك النكرات أقلُّ من
أن يحكموا على إرث النبوة الباقي. ومن هذا الباب الاقتراب لدرجة المعايشة من سيرة
النبي عليه الصلاة والسلام، فما لاقاه من كفار مكة، ومشركي العرب، ومنافقي
المدينة، وأهل الكتاب المحيطين به، أمر يتكرر في مفاهيمه وإن تطورت صوره وتباينت
أشكاله.
وإن
إحياء سنن الهدى، وتعظيم شعائر الدين، وإقامة شرائعه، وتوقير المفاهيم الدينية،
وتقدير المواقف الأخلاقية، لَـمِمَا يحافظ على الفطرة الأصلية، ويُبقي على عراقة
الإيمان في النفوس والمجتمعات، ويتأتى ذلك من خلال كلمة، أو فعل، أو شعار، أو
مقالة، أو كتاب، أو مشروع، وكم من عمل يسير تعظِّمه النية الصالحة، وتبقيه، وتطيل
عمره، وتكثر نفعه، وتضمن بأمر الله خلوده وانتشاره.
ومن
أجَلِّ العمل فضح مخططات تبديل الدين وتحريفه وتأويله تأويلاً فاسداً، ومحاولة جمع
الناس تحت ملة مصطنعة تُنسَب زوراً لإبراهيم عليه السلام وإن الخليل لبريء من الإبراهيمية
وإفكها. ولا يمكن كشف هذا البهتان بدون رفع الوعي، وإكساب الناشئة مهارات التفكير
والتحليل، حتى لا يقعوا في شراك مصيدة القوم، فبالعلم ذي الأساس المتين، وبالقدرة
على التفكير والتفسير، يحمي الإنسان إيمانه ودينه، ويقي نفسه وأهله ناراً وقودها
الناس والحجارة، وإنها لتضرم بأموال وسياسات وإعلام وقوى، والله فوقهم يسمع ويرى
وسيبطل كيدهم ويرد غيهم.
فيا عباد الله اثبتوا، ولا تركنوا
للذين ظلموا، ولا تيأسوا من روح الله؛ فكم من ظلمة وظلام أتى بعدها فجر منبلج بنور
وضياء، وليس على أهل الديانة والغيرة إلَّا أن يصبروا، ويصابروا، ويعملوا،
ويتواصوا بالحق والصبر وهما وصية الصالحين، ثم يورثوا الحق الذي حملوه وحافظوا
عليه إلى أجيال قادمة لعلها أن تأخذه بحقه وأن يكونوا أقوى وأثبت وأصلب؛ فإن
منتجات الخوف والقهر تغدو أشد إحكاماً، وأكبر إصراراً على الظفر وتحطيم الباطل
الزهوق.