لقد أظلنا
شهر عظيم مبارك نزلت فيه آيات القرآن الكريم، شهر ارتفعت فيه رايات المسلمين عالية
خفاقة، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر؛ فما أعظمه من شهر! وما أعظم فضله! شهر
انتصارات المسلمين التي ما زالوا يفاخرون بها، ويمنون أنفسهم بالرجوع إلى زمنها،
ليس فقط في شهر رمضان بل في الشهور كلها. ولم تأت هذه الانتصارات إلا بعد أن
تمسكوا بشرع الله القويم، وبكتابه الحكيم، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
أول حلقة في
سلسلة الانتصارات الرمضانية وأول معركة وقعت بين المسلمين والمشركين، هي معركة
الفرقان بين الحق والباطل بدر الكبرى، وقعت بالقرب من ماء بدر صبيحة يوم الجمعة 17
رمضان 2هـ (13 مارس 624م). ورغم قلة عدد المسلمين مقابل المشركين فقد كان النصر
حليفاً لهم، وخرج المسـلمون من هذه الموقعـة بكثيـر من المغانم. وقـد قال الله - تعالى
- في شأنها: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
وكان من خبر
هذه الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من
الشام في قافلة عظيمة لقريش فيها أموالهم وتجارتهم، وفيها ثلاثون أو أربعون رجلاً
من قريش، ولو أن أهل مكة فقدوا هذه الثروة لكانت ضربة مؤلمة لهم، وفيها عِوَض عمَّ
لحق بالمسلمين من خسائر أثناء هجرتهم إلى المدينة، كما أنها فرصة للنَّيل من هيبة
قريش وصَلَفها، وكان الأمر الإلهي {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ
اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ
قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة:
14].
لذلك ندب
رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، وأمر من كان حاضراً بالنهوض
قائلاً: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله ينفلكموها»؛ أي يجعلها غنيمة
لكم. فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركبَ الذي معه ولا يرون قافلته إلا غنيمة
لهم، ولا يظنون أن يكون قتال كبير إذا لقوهم، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في
قوله - تعالى -: {وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْـحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ
دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:
٧].
ولم يَدُر
بخلد أحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام، ولو علموا لاتخذوا أهبتهم
كاملة ولما سُمِح لمسلم أن يبقى في المدينة. واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً: 82 أو 83 أو 86 رجلاً من المهاجرين، و61 من
الأوس و170 من الخزرج. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى
الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردَّ أبا لبابة ابن المنذر واستعمله على
المدينة.
ولم يتخذ
المسلمون أهبتهم كاملة؛ فلم يكن معهم إلا فرسان (فرس للزبير بن العوام، وثانية
للمقداد بن الأسود الكندي)، وكان معهم سبعون بعيراً يتعاقب الرجلان والثلاثة على
بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد
- رضي الله عنهم - يتعاقبون بعيراً واحداً، فإذا ما كانت عُقْبة النبي صلى الله
عليه وسلم قالا: اركب حتى نمشي عنك فيقول: «ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى من
الأجر منكما».
وكان الخروج
من المدينة يوم الإثنين لثمانٍ أو تسعٍ أو لاثني عشر خلون من رمضان، ودفع الرسول
صلى الله عليه وسلم اللواء إلى مصعب بن عمير وراية المهاجرين إلى علي بن أبي طالب،
وراية الأنصار إلى سعد بن معاذ.
وبلغ أبا
سفيان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم بمقصده فأرسل إلى مكة ضمضم بن عمرو
الغفاري مستصرخاً قريش ليمنعوه من المسلمين، وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فجدَّ جدُّهم
ونهضوا مسرعين فكانوا بين خيارين: إما خارج الرجل بنفسه، وإما باعث مكانه رجلاً،
لأن معظمهم كان له في القافلة نصيب، وخرجوا من ديارهم كما وصفهم الله - تعالى - {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].
ولما سمع أبو
سفيان بخروج المسلمين غيَّر طريقه المعتاد ولحق بساحل البحر الأحمر فنجا وسلمت
العير، وأرسل إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم
وأموالكم، وقد رجعت سالمة فارجعوا. وبينما همُّوا بالرجوع إذا بأبي جهل يأبى إلا
القتال، وقال: والله! لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليها ثلاثاً ننحر الجذور،
ونَطْعَم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا
فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها فامضوا.
وعلى
الرغم من قول أبي جهل فقد رجع بنو زهرة وبنو عدي بن كعب، ولولا سلاطة لسان أبي جهل
ورميه المترددين بالجبن والضعف لأنسحب عدد كبير، ووقف عتبة بن ربيعة في معسكر
المشركين يدعوهم إلى الرجوع؛ إلا أن صوت عتبة وغيره من عقلاء قريش ضاع بين صرخات
الحرب وشهوة الانتقام من جانب أبي جهل ومن انضم إليه. ولجأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى الله - تعالى - داعياً: «اللهم! هذه قريش قد
أقبلت بخيلائها وفخرها تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم! فَنصْرَك
الذي وعدتني، اللهم!
إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبَد».
وقاتل
المسلمون في معركة بدر قتالاً يميزه الصدق والإخلاص والحرص على الشهادة في سبيل
الله تعالى، ولقد علم الله منهم هذا فساندهم وثبتهم وشد عزائمهم وأمدهم بملائكته {إذْ
يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْـمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. وكانت هزيمة
القرشيين نذيراً بنزول غضب الله على الكافرين؛ إذ بدأ المسلمون يهاجمونهم في كل
أنحاء الجزيرة العربية، وترتب على هذه المعركة انهيار قوى الشرك وأسطورة قريش
القوية.
وبعـــد ستة
أعــوام من الحلقة الرمضانية الأولى والانتصار الرمضاني الأول، كانت الحلقة
الثانية، وهي فتح مكة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فبعد أن غدرت قريش ونكثت
العهد الذي أبرمته في صلح الحديبية بمساعدتها قبيلة بكر على قبيلة خزاعة حليفــة
المسلمين كان لا بــد من نجــدة خزاعة وإذلال الشــرك والمشـركين في العام الذي
سُمِّي بعام الفتح.
وسار النبي
صلى الله عليه وسلم على رأس جيش المسلمين إلى مكة، وتحت قيادته عشرة آلاف مقاتل من
المسلمين، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى فرق، ورسم لكل فرقة خطة
دخول مكة، ولم يلقَ جيش المسلمين أي مقاومة، ونجح في الاستيلاء عليها دون قتال
يُذكَر في
20 رمضان 8
هـ
(11 يناير630م)، ودخل
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة منتصراً ومطهراً لبيت الله الحرام من الأوثان،
ورفع بلال من فوق الكعبة نداء الحق: الله أكبر الله أكبر... وتم بذلك
تطهير مكة من الأصنام وتم القضاء على الوثنية وأعلن فيها وحدانية الله، وأعز الله
دينه ورسوله وجنده وأنقذ بلده الأمين، وطهر بيته الحرام الذي جعله هدى للعالمين من
دنس الكفار والمشركين، وكان هذا الفتح تتويجاً لجهود النبي صلى الله عليه وسلم في
الدعوة، وإيذاناً بسيادة الإسلام في شبه الجزيرة العربية وارتفاع كلمة الحق
والإيمان، ونزل فيه قول الحق - عز وجل -: {إذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ١ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ أَفْوَاجاً ٢ فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: ١ - ٣]. وكان فتح مكة
بمثابة اللبنة الأولى في بناء الدولة الإسلامية التي وضع أسسها المصطفى صلى الله
عليه وسلم بالمدينة قبل ذلك بما يزيد على ثمانية أعوام.
وفيها قال
الرسول صلى الله عليه وسلم مقولته المشهورة لمشركي قريش: «ما تظنون أني
فاعل بكم؟»، قالوا: أخ كريم وابن
أخ كريم، فقال:
«اذهبوا فأنتم الطلقاء» كلمات تتجلى فيه عزة الإسلام في هذا
الموقف العظيم، وكرم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العصيب.
أما أبرز
المعارك التي انتصر فيها المسلمون إبَّان عصر الخلفاء الراشدين، فهي معركة
القادسية على الضفة الغربية لنهر الفرات التي وقعت في شعبان واستمرت إلى رمضان 16هـ (637م) بين المسلمين
والفرس، وكان قائد المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، وبلغ عدد
جيش المسلمين فيها نحو عشرة آلاف، وكان قائد الفرس رستم ذو الحاجب، ويتكون جيشه من
مائة وعشرين ألف مقاتل، وقد مات المثنى بن حارثة الذي جرح في موقعة الجسر قبل
المعركة، ومن الصحابة الذين كانوا يساعدون سعد بن أبي وقاص: المغيرة بن
شعبة، وقيس بن هبيرة، وطليحة بن خويلد الذي كان قد ادَّعى النبوة ثم تاب وأناب،
وقبيل المعركة تم الاتصال بين المسلمين والفرس بُغيَة الوصول إلى اتفاق يمنع
الحرب، ولكن هذا الاتصال لم يسفر عن نتيجة فقامت المعركة، وهي من المعارك الهامة
في تاريخ الصراع بين المسلمين والفرس؛ إذ فرَّ فيها رستم وعشرات الآلاف من جنوده
إلى المدائن عاصمة الساسانيين، وغنم فيها المسلمون مغانم كثيرة.
وكانت موقعة
القادسية المعركة الحربية الحاسمة التي ساعدت الأمة الإسلامية الفتية على أن تنعطف
انعطافة جديدة في مسيرتها التاريخية؛ وكان ذلك انعكاس طبيعي لانتصارها الظافر على الفرس،
الذين كانوا يهيمنون هيمنة كاملة على الجناح الشرقي للوجود البشري آنذاك، ومن
ثَمَّ تسنَّى للأمة الإسلامية في هذه الموقعة الحاسمة تغيير ملامح التاريخ البشري؛
وذلك بعد أن استطاع المسلمون أن ينهوا الوجود الفارسي وسيطرته على تلك المناطق
الهامة من العالم حينئذٍ، وفي موقعة القادسية تبلوَر أيضاً مدى الإعجاز الفريد
للجانب العقدي الذي فجَّر ينابيعه الإيثار الفيَّاض والإيمان الصادق في نفسيات
المسلمين؛ وذلك عبر الحوار الذي دار بين واحد من أبناء الحضارة الإسلامية البازغة،
وبين ممثل لتلك الحضارة الفارسية الغاربة، وهذان المتحاوران هما: الصحابي ربعي
بن عامر -
رضي الله عنه
- ورستم قائد الفرس، وذلك عندما دخل ربعي بن عامر على رستم، فقال رستم له: ما الذي جاء
بكم إلى هنا؟ قال:
جئنا لنُخرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَوْر
الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
وفي 28 رمضان سنة 92هـ (18 يوليو 711م) نشبت معركة
شذونة أو (وادي لكَّة) بين المسلمين
بقيادة طارق بن زياد والقوط بقيادة لذريق، وكان النصر حليف المسلمين، وقد هيأ ذلك
النصر أن يدخل الإسلام إلى أسبانيا، التي كانت تسمى بشبه الجزيرة الأيبيرية، وأن
تُفتَح الأندلس وتُضَم إلى كيان الدولة الإسلامية، وأن تظل دولة مسلمة ثمانية قرون.
وتم التقدم
في فتح الأندلس بهذا النوع المتميز من أجناد العقيدة الإسلامية في أجواء رمضان
المعطرة بشذا الإيمان وبندى الإسلام. فبدا ذلك سهلاً أمام هذا النوع من
الجند، فقد استهانوا بالصعاب وبذلوا النفوس رخيصة من أجل رفع شأن الإسلام وحضارته
الحقة؛ فأمام هذا النوع من الجند كانت التضحيات كثيرة والجهد كبير، والدروب شاقة،
والمناخ شديد، والجو غريب، والأرض صخرية عنيفة، وكان مستوى العقيدة أعلى من ذلك
وأكبر، فانساب الفاتحون بهذه السرعة، فبدت لهم كأنها نزهة روحية من أجل إعلاء كلمة
الله في الأرض، وهي سبب راحة المؤمن وفرحته بنصر الله إن عاش، وبجنته إن استشهد. وفي هذا يقول
الحق -
سبحانه
-: {قُلْ
هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إحْدَى الْـحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]. ولقد نتج عن
هذا الفتح المبين أن انطلقت الأمة الإسلامية انطلاقتها الحضارية، ووصل إشعاعها إلى
أوروبا المظلمة آنذاك.
ومن أعظم
المعارك الإسلامية الرمضانية تلك التي تسببت فيها امرأة صرخت: وامعتصماه! فحركت نخوة
الخليفة العباسي المعتصم بالله فحرك جيشاً عرمرماً من قصر الخلافة إلى مدينة
عمورية -
التي هي إحدى مدن الدولة البيزنطية - وحاصرها
استجابة لنداء المرأة المسلمة التي استغاثت به، إنها معركة فتح عمورية.
حيث اقتحم
المعتصم بالله العباسي حصون عمورية في مائة وخمسين ألفاً من جنوده ليجعل من غزوته
غرة في جبين الدهر، ودرة وتاجاً في تاريخ الإسلام، وتعود أسباب تلك المعركة إلى
أنه قد نقل إلى الخليفة المعتصم أن امرأة مسلمة حرة قد وقعت في يد جند الروم، فلما
همُّوا بسبيها نادت:
وامعتصماه!
وامعتصماه!
فهز النداء نخوته وأثار رجولته، وقال: لبيك، لبيك،
فنهض المعتصم ولبس لأمته وتقلد سلاحه ثم ركب حصانه وصاح بالنفير وهو على أبواب
قصره، وأقسم ألا يعود إليه إلا شهيداً محمولاً على الأعناق، أو ظافراً منتقماً
للمدينة الغالية المنكوبة والمرأة المسلمة المغصوبة، وفي أرض المعركة قاتل الجيش
المسلم الرومَ، ولم تغب شمس يوم 17 رمضان 223هـ (12 أغسطس 838م) إلا والمدينة
العريقة العتيدة بأيدي المسلمين، وشوهد المعتصم بن هارون الرشيد يدخلها على صهوة
جواده الأصهب، وقد نكس رأسه خضوعاً لله وشكراً على نعمائه؛ فأين من يسمع صرخات
النساء المستغيثات؟ وأين من يسمع استغاثات الأطفال والعجائز؟
ثم كانت
المعركة التي أنقذت الإسلام والمسلمين، تلك المعركة التي قامت أمة الإسلام بعدها
من غفلتها واختلافها، وقامت تحت قيادة واحدة، هذه المعركة هي معركة عين جالوت في 25 رمضان 658هـ (3 سبتمبر 1260م) واحدة من
أكثر المعارك حسماً في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجَه
بمثله من قَبْل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضاً
من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذٍ أن يدفعه.
فقد ظهر
جنكيز خان في شمال الصين ومن ورائه جاء هولاكو يقود جيوشاً جرارة من المغول تلك
التي تقدمت في البلاد تقتل وتخرب وتدمر كل شيء؛ دمرت الحضارة ودور العبادة وأصبحت
خطراً على البشرية جمعاء، واندفعت هذه الجيوش الهمجية عبر إيران إلى العراق وجاءت
بغدادَ فهدمت القصور وسفكت الدماء وأحرقت الكتب ودمرت كل شيء، وبدأت مدن الشام
تتساقط في أيديهم حتى وصلوا إلى غزة، وازداد غرور المغول وتوحشهم. ولكن الله
جنَّد من يتصدى لهم، وهو القائد (سيف الدين قطز). زحف جيش
المسلمين إلى عين جالوت في المنطقة التي تقع بين بيسان ونابلس بفلسطين، وقاد
المظفر قطز المسلمين، وكان المغول بقيادة (كتبغا)، ووجه الجيش
الإسلامي هجوماً قوياً شديداً على جموع التتار، وكسر شوكتهم، وعلت راية الإسلام،
وانتهى اليوم الخالد بانتصار المسلمين نصراً هائلاً أوقف زحف المغول، بعدما لم يكن
يظن أحد في تلك الأيام أنه ستقوم للإسلام قائمة؛ فقد رثا الشعراء والأدباء
والخطباء الإسلام والمسلمين، ولم يَدُر في خلد أحدمنهم أن عبداً مملوكاً سيعيد
للإسلام والمسلمين هيبتهم ومجدهم الغابر.
وفـي 10 رمضان 1363هـ (6 أكتـوبر 1973م) عبـر الجيش
المصري قناة السويس وحطم خط بارليف وألحق الهزيمة بالقوات الصهيونية، في يوم من
الأيام الخالدة التي سطرها التاريخ في أنصع صفحاته بأحرف من نور؛ ففي هذا اليوم
وقف التاريخ يسجل مواقف أبطال حرب أكتوبر الذين تدفقوا كالسيل العرم يستردوا
أراضيهم، ويستعيدوا كرامتهم ومجدهم؛ فهم الذين دافعوا عن أرضهم وكافحوا في سبيل
تطهيرها وإعزازها فضربوا بدمائهم المثل، وحفظوا لأنفسهم ذكراً حسناً لا ينقطع،
وأثراً مجيداً لا يمحى. فبعد أن احتل اليهود سيناء الحبيبة
والجولان والضفة الغربية والقدس وغزة في 5 يونيو 1967م أخذوا
يتغنون بأسطورة جيشهم الذي لا يقهر، لكن مصر نجحت في أعادة بناء جيشها وجهزته
بالعتاد وخيرة جنود الأرض، وبالتخطيط الجيد مع أشقائها العرب وبإرادة صلبة قوية
وإيمان قوي عظيم، وبخطة دقيقة محكمة فاجأت إسرائيل والعالم كله الساعة الثانية بعد
الظهر، وانطلقت أكثر من 220 طائرة تدك خط بارليف الحصين ومطارات
العدو ومراكز سيطرته، وفي الوقت نفسه سقطت أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة فوهة مدفعية
وتعالت صيحات: الله أكبر،
وتم عبور القناة واقتحام حصون العدو وتحطيمها واندحر العدو وهُزِم شر هزيمة، ورجعت
أرض سيناء كاملة بعد ذلك نتيجة لهذه الحرب المجيدة، في هذا الشهر العظيم، شهر عزة
المسلمين والذلة لأعداء الحق أعداء الدين.
وبعد: فهذه انتصارات رفعت من قدر الأمة الإسلامية على بقية
الشعوب ومكَّن الله لها في الأرض؛ وما ذلك إلا لتوحُّدهم وجلوسهم تحت مظلة واحدة
وخلافة واحدة، فامتدت تلك الانتصارات منذ بزوغ نور النبوة بإنزال الله - تعالى - على رسوله القرآن الكريم في غار حراء يوم 17
رمضان، عندما بلغ النبي صلى الله
عليه وسلم أربعين عاماً، مروراً بعهد الدعوة السرية والهجرة، ثم الخلافة الراشدة
إلى نهاية خلافة الدولة العثمانية التي انهارت بسبب اتحاد القوى الأوروبية ضدها. وهذه ليست كل الانتصارات؛ بل إن القارئ في التاريخ
الإسلامي سيجد غيرها كثيراً مما لا تتسع لاستيعابه هذه الصفحات القليلة؛ فهو بحاجة
إلى مجلدات كثيرة لنستفيد من نتائجه في حاضرنا ونستشرف به مستقبلنا.
إن من ينظر إلى هذه الانتصارات سينتابه العجب؛ كيف
استطاع هؤلاء القيام بمثل هذه الانتصارات في وقت الصيام، وقد تكون في أيام صيف حار!
إن ذلك ليس بعجيب ولاغريب من أناس جعلوا الإسلام همَّهم
وقدَّموا إعلاء رايته على كل شيء؛ فهو شهر عظيم جعله الله شهر انتصارات وعزة
للإسلام والمسلمين. وها
نحن اليوم نذكر تاريخاً كان بالأمس ليكون عبرة لنا نستفيد منه في حياتنا؛
بالتزامنا الحق وما يدعو إليه الدين من العلم والعمل.
نسأل الله - تعالى - أن ينصرنا على أعدائنا إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة
جدير.