بينما يترقب السودانيون
والعرب والعالم بأَسرِه تبعات قيام دولة جديدة في خاصرة السودان الجنوبية، وكلٌّ
منهم تنتابه مشاعر ترقُّب وحذر وَفْقاً لتوجهاته السياسية وأصوله القومية وولاءاته
الفكرية والأيديولوجية، تبدو «إسرائيل» من بعيد تغمرها سعادة لا توصف، وهي تشهد
ميلاد دولة أعدت لها العدة والدعم منذ سنوات بعيدة، ومن المتوقع بين الحين والآخر
أن يعلن الكيان الصهيوني اعترافه بدولة جنوب السودان كدولة سيادية، بعد اعتراف
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ لأنه يرى فيها «خطوة مهمة»؛ حيث يُجري
اتصالات سرية مع القيادة هناك منذ فترة طويلة.
يأتي ذلك في ضوء أن لدى تل
أبيب مصالح كثيرة في تلك المنطقة، منها: أن آلاف اللاجئين السودانيين يعملون فيها،
إضافة للمصالح الأمنية، خصوصاً في ما يتعلق بنقل الأسلحة لقطاع غزة، فضلاً عن أن السودان
بموارده ومساحته الشاسعة يمكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لمصر والعراق
والسعودية، كما يشكل عمقاً إستراتيجياً لمصر، وهو ما يعني عدم السماح له بأن يصبح
قوة مضافة إلى العالم العربي، وهو ما يتطلب العمل على إضعافه، وانتزاع المبادرة
منه لبناء دولة قوية موحدة؛ لأن «سوداناً ضعيفاً ومجزأً وهشاً، أفضل من سودان قوي
وموحَّد وفاعل، وهو ما يمثل من المنظور الإستراتيجي ضرورة من ضرورات الأمن القومي
الصهيوني».
تقديرات
صهيونية:
أكد وزير الأمن الداخلي
السابق «آفي ديختر» أن انفصال جنوب السودان يشكل مصلحة صهيونية بالدرجة الأولى؛
لأن كل الزعماء الصهاينة بدءاً بـ «بن غوريون، ثم ليفي أشكول، وغولدا مائير،
وإسحاق رابين، ومناحيم بيغين، وإسحاق شامير، وأريئيل شارون، وإيهود أولمرت»، تبنوا
خطاً إستراتيجياً واحداً في التعامل مع السودان يقضي بالعمل على تفجير أزمات مزمنة
ومستعصية، وقد حان الوقت للتدخل في غرب السودان، وبالآلية والوسائل نفسها لتكرار
ما حصل في جنوبه، معلناً النجاح الصهيوني في تغيير مجرى الأوضاع فيه باتجاه التأزم
والتدهور والانقسام، وهو ما سينتهي عاجلاً أم آجلاً إلى تقسيمه لعدة كيانات ودول
كيوغوسلافيا، التي انقسمت إلى عدة دول، هي: البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو
ومقدونيا وصربيا؛ بحيث لا يعود دولة إقليمية كبرى قادرة على دعم الدول العربية
المواجِهة لـ «إسرائيل».
ومن جهة أخرى قالت مجلة
«كيفونيم»: إن انفصال جنوب السودان شكَّل نتيجة طبيعية لتفكُّك هذه الدولة التي
تتكون من 4 مجموعات سكانية غريبة عن الأخرى، بدءاً بأقلية عربية مسلمة سُنية تسيطر
على أغلبية غير عربية إفريقية، تنقسم إلى وثنيين ومسيحيين، كاشفة النقاب عن الدور
الصهيوني في إشعال الصراع جنوب السودان انطلاقاً من مرتكزات أقيمت في أثيوبيا
وأوغنـدا وكينيـا والكونغـو، وهو ما نجح في إعاقـة قيام دولة سودانية متجانسة قوية
عسكرياً واقتصادياً، قادرة على تبوء موقع صدارة في البيئتين (العربية والأفريقية).
وقال «تسفي بارئيل» المعلق
الصهيوني في الشؤون العربية: إن «إسرائيل» تستعد لتطبيع العلاقات مع جنوب السودان؛
زاعماً أن التقديرات تشير إلى أن جنوب السودان سيصبح دولة صديقة مقرَّبة للصهاينة
بالفعل، وكاشفاً عن أن اتصالات الجانبين بدأت من القنصلية الصهيونية في أديس أبابا
منذ سنوات عديدة، وكانت شركاتها (أي الدولة الصهيونية) «واجهة» استُخدِمت
للاتصالات، ووقع الاختيار على قبيلة «الدينكا» أقوى قبائل المنطقة لتكون الباب
الذي تتسلل منه «إسرائيل» إلى جنوب السودان، وتتغلغل فيه.
أدوار
استخبارية:
وأضاف: مرت العلاقات
الصهيونية مع جنوب السودان بعدة مراحل، أهمها:
1 - تقديم المساعدات الإنسانية:
كالأدوية والمواد الغذائية والأطباء والدعم الإغاثي.
2 - استثمار التباين القبلي بين
الجنوبيين أنفسهم، وتعميق هوة الصراع مع الشماليين.
3 - تدفُّق صفقات الأسلحة
الصهيونية على جنوب السودان، واتساع نطاق تدريب المليشيات الجنوبية في أوغندا
وإثيوبيا وكينيا.
4 - استئناف دعم التمرد المسلح،
وتزويد الحركات الانفصالية الجنوبية بأسلحة متقدمة، وتدريب العشرات من طياريها على
قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، وتوفير صور عن مواقع
القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية.
5 - إيفاد بعض الخبراء الصهاينة
لوضع الخطط والقتال بجانب الانفصاليين، ومشاركة بعضهم في العمليات التي أدت
لاحتلال بعض مدن الجنوب السوداني.
6 - استقبال حزمة جديدة من
الأسلحة شملت صواريخ ومضادات طائرات وعربات مدرعة وصواريخ (أرض - جو)، وتدريب
طيارين من عناصرها تحت إشراف صهيوني.
ويكشف «بارئيل» عن ملاحظة
ذات أهمية فائقة تتعلق بأن جملة من قام بهذه الاتصالات والتدريب من طرف «إسرائيل»
هم رجال الموساد والاستخبارات العسكرية، بمعنى أن الدعم السياسي الذي حصل عليه
الجنوبيون كان بالأساس استخبارياً أمنياً، وهي حقيقة تكشف المرامي الصهيونية من
تحقيق الانفصال.
كما يتم الحديث حالياً عن
فتح مطار «جوبا» أمام طيران شركة «العال» الصهيونية، وقد افتتحت مجموعة «شالوم
المتحدة» شركة صيرفة هناك، وتوسَّعت أنشطتها، وتولَّت إقامة فندق خمس نجوم في
عاصمة الجنوب؛ وخاصة أن قطاع الفنادق من أكثر القطاعات ربحية في جنوب السودان، مع
العلم أن هذه المصالح الاقتصادية الصهيونية في جنوب السودان لا تتغلب إطلاقاً على
المصالح السياسية والأمنية الكبرى؛ لا سيما في مواجهة احتمال عودة مصر للاضطلاع
بدورها العربي الفعلي.
استهداف
النيل:
وتعتقد «إسرائيل» أن مراميها
السياسية والإستراتيجية في تشجيعها لانفصال جنوب السودان، تتجاوز كثيراً هذه
البقعة الجغرافية لتصل إلى عواصم عربية مجاورة، ترى أنه لا بد من بقائها تحت
مجهرها؛ تخوفاً من أي تغير قد يطرأ على أوضاعها الداخلية، وهو ما قد يُحدِث
منعطفاً كبيراً ليس في صالحها، وربما تبدو مصر - دولة ودوراً وتاريخياً، وليس
نظاماً بالضرورة - الأكثر استهدافاً في ذلك. لا سيما إذا كان المدخل الأكثر خطورة
لـ «إسرائيل» يتمثل في مياه نهر النيل، فليس من شكٍّ أن أهميته لمصر تصل درجة أن
يكون شريانها الحيوي الذي إذا انقطع فقد فُصل (الأوكسجين) عنها، وإذا كانت كينيا
وإثيوبيا وأوغندا تشكل دول المنبع فإن السودان هي دولة الممر الرئيسية، وهنا يأتي
العبث الصهيوني؛ حيث تشير معلومات إلى أنَّ هناك مشروعاً صهيونياً غربياً لبناء
سدٍّ جنوباً في إثيوبيا، بوساطة شركة إيطالية؛ وذلك بهدف تحديد موارد مصر من
المياه بشكل يرغمها مستقبلاً على قبول شروط لتزويد «إسرائيل» بالمياه، ناهيك عن
بيع مياه النيل لاحقاً إلى مصر في حال احتاجت مصر إلى ما هو أزيد من حصتها وهو أمر
محتَّم بحلول عام 2016م.
أخيراً فإن مصالح «إسرائيل» في المفهوم الإستراتيجي لدولة جنوب
السودان، أنها لن تكون إلا شوكة أخرى في خاصرة دولة عربية؛ لا سيما أن حقيقة
انفصال الجنوب تجد مساندة قوية من اليمين المسيحي المتصهين في الولايات المتحدة
للحدِّ من المد العربي والإسلامي داخل القارة الإفريقية، وهو ما يعني أن القادم
بعد الانفصال سيكون لصالح «إسرائيل» بصورة أكثر خطراً وأبعد أثراً، لدرجة أن دولة
الجنوب ستتحول إلى «قاعدة عسكرية» إسرائيلية في نهاية المطاف.