حينما نتحدث عن مجتمع (عصر الرسالة) الذي هو أفضل مجتمعات
البشرية (لأنه عاش فيه سيد البشر صلى الله عليه وسلم) فقد يرى بعض الناس أن هذا
المجتمع حلم طائر لا يتحقق، وإن سلمنا أن الرجال الذين حول الرسول صلى الله عليه
وسلم كانوا نموذجاً للكمال في الأداء العمراني، فإنهم تركوا لنا هذا العطاء لسعادة
الآخرين المقتدين بهم، ولو تصفحنا أحوالهم فسنجد أن أكبر أسباب نجاحهم هو يقينهم
وإيمانهم بالله والوضوح الشديد بين المنهج الذي يعتقدونه ويؤمنون به وبين المصلحة
الشخصية وعدم الخلط بينهما، مع اعتبار الالتزام بالدستور الرباني (القرآن الكريم)
الذي أرسى هذه القواعد البشرية للنهوض بالمجتمعات؛ فكان القرآن ينزل موجِّهاً لما
يعتور هذا المجتمع من عثرات في الطريق، فالقرآن كان موجوداً بينهم كما هو موجود
بيننا وسيظل كذلك، ولكن الفارق في الهبوط والصعود، هو الأداء.
والمجتمع مرهون بذلك؛ فحينما يخطئ
المسلمون في سرية نخلة ينزل القرآن مصححاً للمسار وإرساء القواعد وقد عقب الإمام
ابن القيم على هذه الحادثة فقال: (إن الله - سبحانه - حكم بين أوليائه وأعدائه
بالعدل والإنصاف. ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام بل
أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر
الحرام)[1].
فقدسية المنهج في الشرع أسمى بكثير من
المصالح الشخصية، بل سُمُو الرجال منوط باتباع قدسية المنهج، وقد علمنا الرسول صلى
الله عليه وسلم تقديس المنهج دون الالتفات إلى الذات؛ حتى ولو كانت ذاته الشريفة صلى
الله عليه وسلم؛ فحينما أشرف أبو سفيان في غزوة أُحد ونادى بأعلى صوته: أفيكم
محمد؟ فلم يجيبوه، أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم
يجيبوه، ثم قال أعْلُ هُبَل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبون؟» وقالوا:
وما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجلُّ». ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم . فقال:
«ألا تجيبون؟» قالوا: وما نقول قال؟ «قولوا الله مولانا ولا مولا لكم» فأمرهم صلى
الله عليه وسلم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشركه تعظيماً للتوحيد وإعلاماً بعزة
من عَبَدَه المسلمون وقوة جانبه وأنه لا يُغلَب، ونحن حزبه وجنده ولم يأمرهم
بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل قد روي أنه
نهاهم عن الإجابة...[2].
فإذا كانت قدسية المنهج والمصلحة
الشخصية هما كفَّتا الميزان للمجتمع بين الصعود والهبوط، فإن قيمة الرجال تظهر في
ترجيح كفة الصعود على الأخرى؛ فإننا نستطيع أن نقول: إن أكبر ما يكون هذا الأمر في
المراحل الانتقالية؛ وذلك لما يعتور هذه المراحل من اضطرابات وقلاقلَ وإرجاف
ونزعات شخصية؛ فيظهر الضمير ومكارم الأخلاق لتُبرِز الرجال المصلحين المخلصين.
وأعني بفترة الانتقال ما يكون دائماً بين مرحلتي الاستقرار والاضطراب، وقد يكون
هذا الاضطراب كلِّي أو جزئي.
فحينما يغلِّب الشخص المصلحة العامة
على مصلحته الشخصية وقدسية المنهج على الذات، يبرز الإيمان الحقيقي والتجرد الناصع
والضمير الأخلاقي والمعنوي الذي يكشف السموَّ الكبير لمن كانت هذه خِلالُه،
وتطالعنا كتب التواريخ بهذا الموقف الرائع لهذا الصحابي الجليل الذي لو لم يكن له
إلا هذا الموقف لكفاه في مرحلة انتقالية من أكبر مراحل الانتقال، وهو الصحابي عبد
الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - حينما كان من ضمن ستة نفر مرشحين لأكبر منصب (وهو
الخلافة الراشدة)، حينما عزل نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة مَن أشار
به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان
محابياً فيها لأخذها لنفسه أو لولاَّها ابنَ عمه وأقرب الجماعة إليه (سعد بن أبي
وقاص)[3]، وعلى هذا
فليكن العمل لله.
إنني أكتب هذه السطور لَـمَا تمرُّ به
أوطاننا العربية من التغيير بعد الكبت والتغريب، وإذا كان هناك نجاح لبعض الثورات
في إسقاط صخرات الجمود، فإن تمام نجاحها في هذه المراحل الانتقالية هو الوعي
الكافي والمثابرة في توضيح المنهج، والسموُّ فوق المصلحة الشخصية والذات ظاهراً
وباطناً، والاهتمام بالجوهر دون الشكليات التي تعوق عجلة المسير.
فحينما يطلب ملك الروم من الصحابي عبد
الله بن حذافة أن يقبِّل رأسَه مقابل إطلاق أسرى المسلمين فلم يتردد في ذلك وقال:
إنما قبَّلت التاج. وهذا الفهم العميق هو ما دفع العبقري الملهَم عمر بن الخطاب أن
يقول: «كان حقاً على كل مسلم أن يقبِّل رأس ابن حذافة وأنا أبدأ»[4].
إن الاهتمام بالشكليات خطير وهو أشد
خطورة في مثل هذه المراحل؛ بل ربما تنازل الشخص عن حقوقه مقابل الحق الأعظم وهو
بناء وإصلاح الوطن.
لعله يكون جلياً أيضاً في مراحل
الانتقال عدم التميُّع في إبراز الصلاح والفساد، وخاصة ما يكون فساداً مقنَّعاً
ليس معلوماً لدى الجميع فقد ذكر ابن الجوزي في سيرته لأمير المؤمنين عمر بن عبد
العزيز حينما تولى الخلافة أنه أبى أن يتولاها وهو في مرحلة انتقالية إلا بعد
تنفيذ شروطه الثلاثة التي كان أحدها: عزل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج لأنه كان
غشوماً يتألَّه (أي: يظهر العبادة والشك) وهو من أكبر العوامل التي تعرقل حركة
الإصلاح وتفسد المنهج وتعلي الذات، حينما يظهر الشخص حَسَن الدين والسمت وهو في
الباطن ليس له همٌّ إلا سموَّ نفسه دون الالتفات إلى قدسية منهج ولا ضمير أخلاقي.
ولعل الإنسان يعجب من أحد قادة الغرب
المشهورين في العصر الحديث (وهو نابليون بونابرت) حينما استخلف كليبر قائداً لحملة
فرنسا الاستعمارية على مصر على الرغم مما كتبه نابليون في مذكراته بعد ذلك في
منفاه بعد مقتل كليبر بخمس عشرة سنة من أن كليبر لم يقلع عن التصريح بتخطئة
نابليون في بعض تصرفاته أثناء تلك الحملة، لكنَّ اختيارنا له ليَخلُفنا في القيادة
العامة عمل منطوٍ على صدق الوطنية. إنه ضحى بالاعتبارات الشخصية في سبيل مصلحة
فرنسا وأسند إلى كليبر هذا المركز الخطير مع ما كان بينهما؛ لأنه رأى فيه أليق
القواد للاضطلاع بهذه المهمة[5].
يبقى لنا أن نقول: إن صعود المجتمع هو
بقدر إنجاح المجتمع لمنهجه ودستوره، وإن الأشخاص الوصوليين مهما كان دهاؤهم إذا
نظروا إلى الذات فالنهاية معلومة وهي الفشل؛ فحينما عرض النبي صلى الله عليه وسلم
الإسلام على وفد عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم يقال له بحيرى بن فراس: لو أني
أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم
أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال له: «الأمر لله يضعه حيث
يشاء»[6]. فرغم إعجابه
بفكرة الإسلام نظر إلى الرئاسة والملك، فكانت النهاية هي إقصاؤه الكامل وفوز
الأنصار باحتضان هذه الفكرة؛ لأنهم نظروا إلى المنهج وهو النبوة دون النظر إلى
الرئاسة والملك.
فعند نجاح
الفكرة تجد كثيرين يريدون احتضانها ولكن بشروط وأهواء شخصية، فيزولون وتبقى
الفكرة، يبقى المنهج ويذهب الجاه، ويصعد المجتمع بالمخلصين.
[1] ابن القيم، زاد
المعاد: 2/141، المكتبة التوفيقية.
[2] المصدر السابق، ص 155.
[3] الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 288، مكتبة الصفا.
[4] المصدر السابق: 3/5.
[5] عبد الرحمن الرافعي: تاريخ الحركة القومية: 2/ 93 مكتبة الأسرة.
[6] السهيلي: الروض الأُنُف: 2/264 دار الحديث.