الهند ظهير أمني لدولة المماليك
أحياناً
كثيرة نعتقـد أن حدود بلادنا العربيـة هي فقط حدود أمننا، ولكن أثبتت الأحداث
التاريخية أن حدود أمن آية دولة في وطننا العربي لا بد أن تمتد لآلاف الأميال
البرية والبحرية، وعندما نفتقد لهذه الإستراتيجية يسهل اختراقنا، وأكبر دليل على
ذلك دولة سلاطين المماليـك بمصر، وكيف ضاعـت سيطرتها التجارية على البحر الأحمر،
عندما انشغلت بمشاكها الداخلية عما يحدث في بلاد الهند وسيطرة البرتغاليين عليها،
ومِن ثَمَّ اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والسيطرة على مراكز التجارة، وضياع مورد
اقتصادي هام، وهو ما ساعد في انهيار الدولة مع قلة الموارد التجارية.
كان أول من أسس دولة إسلامية بهندستان في عام 603هـ/ 1206م هو قطب الدين أيبـك على
أثر وفاة محمد الغوري سلطان الدولة الغورية بأفغانستان وهندستان، وظلت سلالته
تتوارث عرش الدولة حتى عام 686هـ/ 1287م؛ حيث خَلَفتهم أسرة تركية تُعرَف باسم
الأسرة الخالجية، وقد شن المغول عدة غارات على هندستان في عهد الملك المسعود علاء
الدين سنجر الخالجي. وبعد وفاة الأخير عام 716هـ/ 1316م تولى العرش ملوك قصر،
ولكنهم انصرفوا إلى اللهو ووقعوا تحت تأثير الوزراء مثل كافور وخسرو خان الذي
استطاع أخذ العرش عام 721هـ/ 1321م وأساء السيرة في البلاد حتى لجأ المسلمون إلى
تغلق (أحد القواد الذين وقفوا في وجه المغول عهد علاء الدين)ونصبوه لحكم البلاد
وخلفه في الحكم ابنه محمد[1].
بدأت علاقة الهند مع مصر منذ عام 728هـ/ 1327م؛ إذ أرسل محمد بن تغلق إلى الخليفة
العباسي بالقاهرة (المستكفي بالله) يطلب منه أن يمنحه تفويضاً يجعل حكمه شرعياً
ليتمكن بذلك من تسكين الفتن الداخلية التي تقوم ضده من آن لآخر؛ فأجابه الخليفة إلى
طلبه وأمر أن يذكر ابنُ تغلق اسمَ الخليفة العباسي في الخطبة وينقش على السكة، وهو
ما ساعد على إيجاد علاقة ودية بين الدولتين، وكان عامل التجارة من العوامل التي
ساعدت على توثيق العلاقات؛ فكانت مصر تستورد من الهند جميع المنتجات اللازمة لها؛
كالحنطة والحمص والسمم وجوز الهند... بينما استوردت الهند من مصر الغلات لا سيما
الكتان، وبلغ اهتمام السلطان المملوكي الناصر محمد بهم أن ولَّى بعضَهم مناصب هامة
في الديوان، وكذلك أُسنِد إلى بعض المصريين مناصب في الهند، وفي عام 732هـ/ 1331م
بعث ابن تغلق رسولاً يحمل بعض الهدايا الثمينة إلى السلطان الناصر[2]
وهو ما يدل على توثيق أواصر الود بينهما.
وقد كانت علاقة حكام الهند بدولة المماليك الجراكسة على درجة عالية من الود؛ ومن
ذلك طلب جلال الدين أبي المظفر التقليد من الخليفة العباسي المستعين بالله، فجهز
مالاً للخليفة وهدية للسلطان الناصر فرج، وكان ذلك في عام 814هـ/ 1411م، وتكرر
إرسال الهدايا من ملوك الهند لسلاطين مصر بعد ذلك[3].
ودفع الضيق القوى التجـارية في غرب أوروبا إلى مضاعفة جهودها للوصول إلى الهند
وتجارة الشرق الأقصى عن طريق المحيط الأطلسي، وبعد اجتهاد تمكن الغرب الأوروبي من
الوصول إلى طـريق رأس الرجاء الصالح، وكان ذلك إعلاناً لضياع أهمية طريق مصر بوصفة
الطريق الأساسي للتجارة بين الشرق والغرب في تلك الفترة، ولم يلبث أن أدى تدهور
مركز مصر التجاري أواخر عصر المماليك إلى إضعافهم وحرمانهم من مورد أساسي أمدهم
بالمال والقوة[4].
وكان وصول البرتغاليين إلى بلاد الهند عن طريق مليبار عام 904هـ/ 1498م بالسيطرة
على بلاد التوابل والتجارة فيه دون وسائط، واجتهدوا في منع التجار المسلمين من
تجارتهم، ومن السفر للبلاد العربية، بل أقاموا المنازل وهدموا المساجد بالسيطرة على
البلاد، وكان ذلك في عام 906هـ/ 1500م[5].
وفي عام 908هـ/ 1502م تمكن فاسكو داجاما من إغراق إحدى السفن المحملة بالحجاج
والتجارة إلى السلطان الغوري، وفي عام 912هـ/ 1506م أصبحت شوكة البرتغاليين في
الهند من القوة بحيث أنزلوا أفدح الأضرار بحركة التجارة الإسلامية في المحيط
الهندي، واستولوا على سفن المسلمين غصباً واستحلُّوا أموالهم وصاروا يعبثون بتجارة
مراكب الهند ويأخذون ما معهم بالقوة[6]،
وعندما راسل حاكم الهند سلاطين المسلمين لم يتصدَّ لذلك الأمر إلا السلطان الغوري،
الذي أرسل الأمير حسين مع ثلاث عشرة سفينة بعد تحصين جدة إلى الهند، حيث أحرز نصراً
على البرتغاليين في عام 913هـ/ 1508م، ولم يدم النصر طويلاً؛ إذ اشتبك الفريقان،
وأنزلت الهزيمة بالأسطول المملوكي في موقعة ديو عام 914هـ/ 1509م. وفي العام نفسه
تمكن البوكرك من السيطرة على بعض جزر الهند التي تعتبر مصدر تمويل سلطنة المماليك
بالتوابل[7].
وفي عام 915هـ/ 1910م هاجم فرسان الأسبتارية خمس سفن فرنسية كانت قادمة من
الإسكندرية أثناء عبورها لميناء رودس تحمل عدداً من المغاربة بعائلاتهم إلى بلادهم؛
فأما السفن فقد أطلقوا سراحها بعد أسر مَن عليها بالبضائع، فأمر السلطان الغوري
بالقبض على قنصل الفرنسيين بالإسكندرية، وتجارهم مع مصادرة بضائعهم، وتكرر الأمر
نفسه مع الفرسان أنفسهم ضد ثماني عشرة سفينة مصرية، كانت محملة بأخشاب لبناء السفن
فأصدر الغوري أوامره في عام 916هـ/ 1510م بالقبض على جميع تجار الفرنج، ومصادرة
بضائعهم، والقبض على رهبان الفرنسيسكان المقيمين بدير صهيون، وبكنيسة القيامة، وهم
عشرون راهباً فطلب منهم الغوري مكاتبة ملوك الفرنج لإعادة السفن التي استولى عليها
الفرسان بمن كان عليها من رجال مهدداً إياهم بهدم كنيسة القيامة، وشنقهم. وفي العام
نفسه في ذي القعدة قبض على جماعة معهم كتب من الشاه إسماعيل إلى بعض ملوك الفرنج
بأن يكونوا معه على سلطان مصر، وأن يزحفوا بسفنهم من ناحية البحر في الوقت الذي
يتقدم هو فيه بجيوشه من ناحية البر[8].
وقد عمل السلطان الغوري على تشييد السفن الحربية عامي 916هـ/ 1511م، 918هـ/ 1512م؛
وذلك لتمكين المماليك من مواجهة الخطر البرتغالي في المياه الهندية، وعند مدخل
البحر الأحمر[9].
وفي محرم 920هـ/ مارس 1514م شيد الغوري عشرين سفينة لمواجهة خطر البرتغاليين في
المياه الهندية وقد أنفق عليها أكثر من 400.000 دينار، وفي جماد الأولى/ يونيو من
العام نفسه عين السلطان حملة نحو بلاد الهند لتعدِّي البرتغاليين على سفن المسلمين،
وزيادة خطرهم، وفي الوقت نفسه أرسل الأمير حسين نائب جدة يعلم السلطان بتمكن
البرتغاليين في سواحل الهند، ويخشى وصولهم إلى جدة، وفي أول عام 921هـ/ 1515م جهز
العسكر من أجل السفر إلى الهند، ولكن في شعبان/ سبتمبر جاء الخبر من السويس بغرق
أحد المراكب التي جهزت للسفر بكل ما فيها[10]
ولم يكن هناك وسيلة من أجل تلك الحملات للقضاء على البرتغاليين إلا بفرض مزيد من
الضرائب حتى يتم تجهيز أسطول، وجيش قادر على التصدي لهم، ومِن ثَمَّ في رمضان
922هـ/ سبتمبر 1516م عمل الأمير حسين نائب جدة بأخذ العشر من تجار الهند المثل عشر
أمثال؛ فامتنع التجار من دخول ميناء جدة وآل أمره إلى الخراب، وكذلك الإسكندرية،
ودمياط، وامتنع تجار الفرنج من الدخول إلى تلك الموانئ من كثرة الضرائب،
والمصادرات، وطرح البضائع على التجار[11].
وفي تلك الأثناء كان البرتغاليون يسعون لأخذ ميناء عدن باليمن لاستخدامه قاعدة
عسكرية؛ ومن خلالها يسقطون الأسطول المصري، ويمنعونه من الخروج إلى المحيط الهندي،
ومهاجمة سفنهم، وطردهم من الهند في وقت كان السلطان الغوري يسعى فيه جاهداً لمقاومة
نفوذهم، بينما قبض أمير الحجاز على الأمير حسين كردي، وأغرقه في البحر لِـمَا صدر
عنه من أفعال سابقة. وبعد ذلك جاء الخبر بوقوع الحرب بين الغوري، وسليم شاه ليُقتَل
الغوري في معركة مرج دابق الشهيرة بانتصار سليم شاه عليه في رجب 922هـ/ يوليو 1516م[12].
بينما قال زين الدين عن قوة البرتغاليين إنها بعد عام 915هـ/ 1509م صارت تزداد
عاماً بعد عام. وفي عام921هـ/ 1515م صار يصدر عنهم الإيذاء والظلم للمسلمين،
وتجارهم بسواحل الهند، وظل حكام تلك البلاد يراسلون ملوك المسلمين سراً لإغاثتهم
ليصل الأمر أنه في عام 923هـ/ 1517م خرجوا في ثمانية وعشرين مركباً قاصدين ميناء
جدة ليمتلكوها لكنهم رجعوا خائبين بعد ضربهم بالمدافع، وأسر مركب بمن فيه من
المحاربين[13].
ويرى أحد الباحثين أن احتكار المماليك لتجارة الشرق يمثل المورد الرئيسي لهم لتدعيم
قوَّتهم الحربية، وتحقيق البرتغال السيادة في الطريق التجاري البحري المؤدي للشرق
أدى لتعارض مصالحهم، وفَقْدِ جزءٍ رئيسي من قوَّتهم[14].
لقد استغل البرتغاليون ضعف المماليك من جهة، وقوَّتهم البحرية من جهة آخرى للسيطرة
على طرق التجارة عن طريق الهند؛ وهو ما كان له أثر على مصر بفقدانها لمورد اقتصادي
هام، وظهيرٍ أمني متميز وهو ما ساعد على انهيار دولة سلاطين المماليك في مصر.
[1] سرور، دولة بني قلاوون في مصر، (دار الفكر العربي، القاهرة، 1947م)، ص138، 139.
[2] القلقشندي، صبح الأعشى، (ط3، دار الكتب، القاهرة، 2010م)، 5/82 - 93. انظر
سرور، المرجع السابق، ص97 - 99 - 141. علي إبراهيم حسن، مصر في العصور الوسطى، (ط3،
النهضة العربية، القاهرة، 1951م)، ص315 - 316.
[3] ابن حجر، إنباء الغمر، (تحقيق حسن حبشي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية،
القاهرة، 1998م)، 2/496 - 497، 3/402. ابن إياس، بدائع الزهور، (تحقيق محمد مصطفى
العجمي، ط2، دار الكتب، القاهرة، 2008م)، 3/65 - 99.
[4] عاشور، العصـر المماليكي في مصر والشام، (ط2، النهضة العربية، القاهرة، 1976م)،
ص308.
[5] المليباري، تحفة المجاهدين في أحوال البرتغاليين، (تحقيق محمد سعيد الطريحي،
ط1، مؤسسة الوفاء، دائرة المعارف الهندية، ع1، بيروت، لبنان، 1985م)، ص245 - 250؛
مقدمة المحقق، ص149 - 167.
[6] ابن إياس، المصدر السابق، 4/109.
Kammerer , Kammerer. A, le met Bovge l’
Abyssine et l’
Arabie depvis l’
antiavite (memoires de la societe Royale de
Geographie j, Egyptye) tome2, Vol2, 1935.Vol,2 p.98 , 99
[7] المليباري، المصدر السابق، ص250 - 253. ابن إياس، المصدر السابق، 4/142.
Kammerer, loc. cit, Vol.2. P.117
[8] ابن إياس، المصدر السابق، 4/ 156 - 185 -190 - 192 - 195- 196- 199- 205. أحمد
دراج، المماليك والفرنج في القرن التاسع الهجري - الخامس عشر الميلادي، (دار الفكر
العربي، القاهرة، 1961م)، ص141 - 145.
[9] ابن إياس، المصدر السابق، 4/ 185- 196 - 201 - 285. المليباري، المصدر السابق،
ص169، مقدمة المحقق.
[10] ابن إياس، المصدر السابق، 4/362 - 365 - 366 - 381 - 383 - 436 - 472.
[11] مارينو سانوتو، كتاب الأسرار للمؤمنين بالصليب في استرجاع الأراضي المقدسة
والحفاظ عليها، (ترجمة سليم رزق الله، دار الريحاني، القاهرة، 1991م)، ص103. ابن
إياس، المصدر السابق، 5/90.
[12] المليباري، المصدر السابق، ص255 - 256.
[13] نفسه، ص262 - 264 - 266.
[14] شوقي عطا الله الجمل، البحر الأحمر طريق تجاري عالمي عبر العالم العربي، (ضمن
ندوة طرق التجارة العالمية عبر العالم، منشورات اتحاد المؤرخين العرب، القاهرة،
1996م)، ص612.