شرق المتوسط .. توازنات جديدة بعد حرب الطاقة
يشهد شرق البحر المتوسط حالةً صراعيةً صاخبةً بين تركيا واليونان، تجسد عنوانها
إعلامياً في قضية الطاقة ورسم الحدود البحرية. تلك الحالة امتدت من شرق المتوسط إلى
جنوبه لتشمل كلّاً من مصر وليبيا، بعدما وقَّعت تركيا اتفاقاً لترسيم الحدود
البحرية مع حكومة السرَّاج المعترَف بها دولياً في ليبيا، ووقَّعت اليونان،
بالمقابل، اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع مصر.
والأمر في اتساع، فبعد تأسيس منتدى للطاقة ضم كلّاً من مصر واليونان وإيطاليا
والكيان الصهيوني وقبرص الرومية والأردن والسلطة الفلسطينية، وبعدما تقدمت فرنسا
لطلب عضويته، وهو ما يجعل جنوب أوروبا - أو شمال المتوسط - في قلب معادلات الصراع
الجاري. وفي قادم الأيام سيصبح كلٌّ من لبنان وسوريا في قلب حالة الاشتباك تلك؛
خاصة أن لبنان في وضع صراعي فعلي مع الكيان الصهيوني بشأن ترسيم الحدود البحرية
والمنطقة الاقتصادية الغنية بالطاقة خاصة الحوض رقم 9.
ولقد تحولت الحالة اليونانية - التركية إلى نزاع سياسي أكبر، بعد تلميحات الاتحاد
الأوروبي بالانحياز لليونان، وانحياز فرنسا القاطع لها إلى درجة إرسال قوات عسكرية
لمساندة مواقفها. وفي ذلك تمدد الصراع التركي - الفرنسي من ليبيا إلى اليونان - وفي
الخلفية الصراع التركي - الفرنسي في دول إفريقية أخرى إلى شرق المتوسط، الذي اعتبره
الرئيس الفرنسي خطّاً أحمر لبلاده، وهو ما فتح آفاق الصراع اليوناني - التركي
ونتائجه على مساحات أوسع وأبعد.
وإذا كانت الأعين متجهـة بالتساؤلات لمعرفة الموقف الأمريكي، بحكم عضوية كلٍّ من
تركيا واليونان وفرنسا في حلف الأطلنطي الذي تقوده الولايات المتحدة، فلم يُبْدِ
الموقف الأمريكي تحيزاً واضحاً لأيٍّ من الطرفين رسمياً. لقد شاركت قطعة بحرية
أمريكية في مناورات عسكرية مع البحرية التركية في شرق المتوسط، وفي المقابل صدر
قرار أمريكي برفع حظر السلاح المفروض على قبرص اليونانية. غير أن محصلة الموقف
الأمريكي لا تُظهِر حياداً (وهو ما دفع تركيا للاحتجاج على قرار إلغاء حظر السلاح)،
والأغلب أن إدارة ترامب قد قررت اعتماد مبدئها السياسي الأشهر (الاحتواء المزدوج)
في التعامل مع تلك الأزمة لإنهاك تركيا وأوروبا معاً، وهو ما يشير لاحتمالات التمدد
الزمني للأزمة وتوسع نتائجها.
وفي المقابل، وإذ انتظرت روسيا وقتاً لتظهر موقفها، فلم يكن ذلك تعبيراً عن عدم
اهتمامها بما يجري، بل بحثاً عن شُبَّاك تقفز منه إلى داخل أروقة الأزمة، كما جرى
الحال في أزمات أخرى في الإقليم؛ ذلك أن إنتاج وتوزيع الطاقة في تلك المنطقة
الحيوية لروسيا لا يهم شركة غاز بروم الروسية بحثاً وتعاقداً وإنتاجاً فقط؛ بل هو
يؤثر على مصالحها وربما يضعف أوراق ضغطها على أوروبا عبر إمدادات الغاز؛ وخاصة أن
مدَّ خطٍّ للغاز من شرق المتوسط إلى جنوب أوروبا هو أحد مفاصل تلك الأزمة. وقد وجدت
روسيا الفرصة من الجانب التركي الذي أعلن عن إجراء روسيا مناورات بالذخيرة الحية في
المنطقة ذاتها التي تقوم فيها سفن البحث والتنقيب التركية بنشاطها المختَلَف عليه.
لقد استفادت تركيا من ذلك؛ إذ مثَّل سماحُها لروسيا بإجراء المناورات في تلك
المنطقة، أول إقرار من طرف دولي بأحقيتها في إجراء البحث والتنقيب هناك. كما
استفادت تركيا من الإعلان عن المناورات الروسية بإرسال رسالة إلى الاتحاد الأوروبي
بل أيضاً لدول حلف الأطلنطي بوجود أوراق وخيارات أخرى لديها.
وبينما لا تلتفت معظم الكتابات والتحليـلات للموقف الصيني من الأزمة بحكم اعتماد
الصين لغة باردة دوماً في التعليق على الأحداث البعيدة عن محيطها الجغرافي؛ فلا شك
أن أعين الصين ترصد وتحلل وتتابع ما يجري هناك؛ سواء لأن المنطقة تمثل محوراً هاماً
من محاور المشروع الإستراتيجي الدولي للصين (الحزام والطريق)، أم لأن الصين عيونها
مفتوحة على كل مناطق إنتاج الطاقة في العالم.
والأغلب أن كلّاً من روسيا والصين في انتظار تصاعد الصراع ووضوح مواقف الآخرين
لتحددا إستراتيجيتهما؛ خاصة بعدما بات الصراع يهدد باحتمالات اندلاع وقوع حرب.
وإذ يخطف اكتشاف الطاقة واحتمالات الحرب أبصـار المحللين؛ فالأغلـب أن تسوية هذا
الصراع - سلماً أو حرباً - سيُحدث تحولات وتغييرات على الدول المشتبكة بشكل مباشر
في تلك الأزمة (على قاعدة الصراع اليوناني التركي) وسيتوسع تأثيره ومِن قَبْلُ
دلالاته إلى آفاق إقليمية ودولية عميقة؛ إذ يمكن القول بأننا إزاء صراع سيعيد ترتيب
توازن القوى الإقليمية ويعيد ترتيب أهمية أقاليم الشرق الأوسط، امتداداً إلى
الأقاليم الأخرى في العالم.
هل تندلع حرب؟
ما يبدو لافتاً، هو ضآلة الجهود المبذولة دولياً لمنع الانزلاق نحو الحرب. وحتى
الآن، لم يتحرك حلف الأطلنطي على مستوى قادة دوله ووزراء دفاعه؛ بل اكتفى بالتفاوض
عبر أمينه العام بين كلٍّ من تركيا واليونان، حول الجوانب الفنية التي يمكنها منع
اندلاع الحرب وَفْقَ حالة سوء تقدير من قِبَل أي طرف تجاه الطرف الآخر. ووَفْقاً
لما هو جارٍ، فليس ثمة من وساطة بين الطرفين سوى تلك التي تقوم بها ألمانيا تحت ضغط
فرنسي من جهة، ورَفْضٍ من أطراف أوروبية أخرى للموقف الفرنسي الضاغط لتفعيل موقف
أوروبي مساند لليونان.
وواقع الحال أن سؤال الحرب ليس غريباً على الصراع التركي - اليوناني؛ إذ خاضت
البلدان ثلاث حروب منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، كان أولها عام 1974م،
وثانيها عام 1987م، وثالثها عام 1996م ولذلك فلا أحد يعتبر احتمال الحرب مستبعَداً
بسبب عضويتهما معاً في حلف الأطلنطي. وإذا كانت عضوية الأطلنطي لم تمنع نشوب الحرب
سابقاً دون أن يتأثر الحلف، فالأمر مختلف هذه المرة؛ فمثل هذه الحرب الآن ستترك
أثراً كبيراً قد يهدد تماسك الحلف وربما استمراره.
وللمقارنة، فإن حرب عام 1974م التي اندلعت حين غزت تركيا شمالي قبرص وسيطرت عليه،
لم تؤثر على حلف الأطلنطي بحكم وجود تهديد من العدو السوفييتي وقتها. لقد شكَّل
وجود التهديد السوفييتي غطاءً لا يمكن نزعه عن دول الحلف وخاصة عن الدولتين
المتحاربتين، وهو ما سمح باستيعاب الأزمة دون تفكك الحلف. لكن الوضع الآن مختلف؛ إذ
زال خطر الاتحاد السوفييتي، كما أن الحلف في وضعية مضطربة بسبب المواقف الأمريكية
منه أو من دول أوروبا الغربية، وقد وصل الحال إلى أن وصفه الرئيس الفرنسي بـ
«الميت
دماغياً».
وفي الحقيقة فإن أسباباً متعددة ومتنوعة تحتشد الآن للدفع بالبلدين نحو الحرب، وعلى
الأقل للدخول في صراع متمدد زمنياً ومتعدد الآليات، وإلى حالة اشتباك عميقة وذات
تأثيرات مرحلية بعيدة الأمد. كما أن قضية الصراع على الطاقة ليست إلا مفجراً آنياً
لصراعات قديمة بين تركيا واليونان، كما أن الصراع بينهما يقوم على تعارض إستراتيجي
لا يتعلق بهما فقط بل بأوروبا وتركيا الصاعدة التي تحاول تغيير أوضاع إستراتيجية
فُرضَت عليها منذ قرن... هذه الأزمة تظهر وكأنها عملية بعث للصراع الغائر في العمق.
وهذه الأزمة يجتمع فيها الحضاري والتاريخي والعقائدي، مع الإستراتيجي والاقتصادي
وإدارة العلاقات والتحالفات الدولية، تحت عنوان الطاقة وأهميتها.
وإذا كان التاريخ ومجرياته وملامحه الحضارية والصراعات والحروب السابقة حاضرةً الآن
وتدفع الصراع ليكون أقرب إلى الحرب؛ فالطاقة تمثل محفزاً قوياً للصراع، ودافعاً
مباشراً له، لِـمَا لها من تأثيرات كبرى؛ خاصة مع ضخامة كميات النفط والغاز
المتوقعة في تلك المنطقة؛ إذ يفيد تقرير صادر عن هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية
عام 2010م بأن حـوض بلاد الشام في شرق البحر المتوسط
يحتوي
على نحو 7.1 مليار برميل من احتياطي النفط ونحو 5.3 تريليون متر مكعب من الغاز
الطبيعي.
الأبعاد الإستراتيجية للصراع:
وفي متابعة ما جرى وما يزال يجري فنحن أمام صدام بين إستراتيجتين في الوقت الراهن.
فتركيا تبدو في وضعِ مَن يعمل وَفْقَ إستراتيجية تستهدف استعادة مكانتها ودورها
التاريخي في الإقليم وعلى الصعيد العالمي، وتحركاتها تُظهِر أنها تدرك أبعاد الصراع
الدولي الراهن سواء الدَّوْران الصيني والروسي الصاعدان بثبات، أم الدور الأمريكي
المتراجع، وهي تتحرك لاستثمار تناقضات وتضارب المصالح بين الأطراف الدولية لتحقق
أهدافها بحذر. وليس بعيداً عن ذلك ما يمكن استنتاجه من تحركات تركية مدركة لطبيعة
الصراع بين أمريكا وأوروبا، وثمة دلائل على أن تركيا تحاول جعل نفسها النموذج الآخر
للارتكاز الأمريكي في الصراع مع أوروبا الصاعدة، بعد بريطانيا... إلخ، كما أنه ليس
بعيداً عن ذلك ممارستها لنوع من التوافق والصراع مع روسيا هنا وهناك.
وعلى الصعيد الإستراتيجي المتعلق بالأزمة والصراع مع اليونان؛ فلتركيا مشروع
إستراتيجي مرحلي (الوطن الأزرق) ضمن إستراتيجتها الكبرى. هذا المشروع يقوم على
استغلال تركيا لموارد مياهها الإقليمية في بحر إيجة والمتوسط والأسود وبحر مرمرة،
لتطوير أوضاعها الإستراتيجية الأبعد. تركيا تنشد استغلال الموارد في تلك المساحة
التي تبلغ نصف مساحة أرض الدولة التركية، وهي تستعد لذلك منذ مدة، لكن إشكالية
إنفاذ تلك الإستراتيجية تتعلق بوجود المناطق المتنازع عليها مع اليونان، في بحإر
إيجة ومساحة كبيرة في شرق المتوسط التي تمتد إلى الشاطىء الشرقي لجزيرة كريت
اليونانية.
وقد صممت الخطة السياسية التركية في الصراع الجاري على فكرة أنها تطلب حقها
التاريخي ورفع الظلم الواقع عليها قبل 100 عام، حين فرضت عليها اتفاقيات وضعتها في
حالة حصار بحري على صعيد حقها في استغلال الموارد، ويضرب الأتراك مثلاً بإحدى الجزر
المعطاة لليونان بفعل معاهدة لوزان على بعد كيلو مترين اثنين من الحدود البرية
التركية، بينما تبعد أكثر من 580 كم عن الأرض اليونانية. تلك الجزيرة تنتزع وحدها
من تركيا نحو 50.000 كم2 من مياهها الاقتصادية.
وواقع الحال أن الموقف التركي الراهن لا يعود لقيادتها الحالية، وهو ليس مستجداً؛
إذ رفضت تركيا الانضمام إلى قانون البحار الدولي، تفادياً لمنح اليونان حقَّ
استغلال الثروات بفعل سيطرتها على تلك الجزر الواقعة قرب جغرافيتها البرية، بما
يحاصر تركيا فعلياً ويمنعها من استغلال ثروات البحر المتوسط.
والأمر في الجهة الأخرى يبدو واضحاً؛ فاليونان تحاول الحفاظ على ما تحقق لها - وإن
بيد غيرها - خلال الحرب العالمية الأولى.
وتظهر إدارة اليونان لتلك الأزمة مدى إدراكها أن موازين القوى تميل لمصلحة تركيا،
ومدى إدراكها أن لها جارةً قوية تشكو من المظالم الواقعة عليها منذ ترسيم الحدود
بينهما بموجب اتفاقية لوزان عام 1923م، وأن حالة السيولة الدولية الحالية قد تمكن
تركيا الآن من اتباع أقصى الأساليب لتحقيق أهدافها. كما هي صاحبة خبرة تاريخية في
الصراع مع تركيا وتعلم مدى صلابة مواقفها؛ إذ منذ غزوها لشمال قبرص عام 1984م لم
تسمح لقبرص بالاستفادة من احتياطي الغاز الطبيعي في مياهها دون نوع من المواجهة.
وهي تعلم أنها لا تستطيع مواجهة تركيا على قاعدة الحرب أو السلام والتسويات وحدها.
ولذلك بُنيَت الإستراتيجية اليونانية في إدارة الصراع على العمل للحصول على أكبر
دعم من الحلفاء، وعلى توسيع رقعة الصراع في شرق المتوسط، وربطه بالصراعات الأخرى
لحشد أوسع قدر من الشركاء والحلفاء ضد تركيا.
وفي ذلك تقدم اليونان معركتها مع تركيا باعتبارها عملية ومعركة هدفها التصدي
لمشاريع تركية تهدد المصالح والأمن الأوروبي، وأن القضية لا تتعلق باليونان وحدها
بل بمجمل مصالح دول القارة وأمنها الإستراتيجي.
إدارة الأزمة بالتصعيد (معادلة التفاوض - الحرب):
لمنع الوصول للحرب تحاول كلٌّ من اليونان وتركيا تحقيق أهدافهما عبر التهديد
والتلويح بالحرب، وخلال تصاعد الأزمة يحاول كل طرف حشد الحلفاء وإدارة الأعمال
السياسية والديبلوماسية والإعلامية الضاغطة على الطرف الآخر، وكثير مما يجري يعتمد
أساليب وطرق الحرب النفسية. ولكل منهما أوراقه.
وقاعدة الأساس في تقدير وضعية طرفي الأزمة؛ أن تركيا تحتاج إلى جهد أكبر باعتبارها
مَن يفتح باب الصراع لمنع الإقرار بحق اليونان في مياهها الإقليمية، بينما تعمل
اليونان على استثمار الوضع القائم وإظهار تركيا بمظهر الرافض للاستقرار والمعتدي
على القوانين الدولية.
وبحكم توازنات القوى المباشرة، تعمل تركيا وَفْقَ إستراتيجية هجومية وتحاول فرض أمر
واقع، كما حدث معها خلال معاهدة ترسيم الحدود. لقد أرسلت تركيا سفن التنقيب المحمية
بالسفن الحربية والطائرات، لتجلب اليونان تحت الضغط للتفاوض معها وهي في موقف أضعف.
وفي المقابل، وإذ تعمل اليونان على إحاطة نفسها بحلفاء أوسع، فهي ترفض الإقرار
لتركيا بحق التنقيب، كما ترفض التفاوض قبل إعادة تركيا الأوضاع إلى ما كانت عليه من
قبل.
وإذ نجحت تركيا في فرض أعمال البحث والتنقيب كأمر واقع، فقد نجحت اليونان بالمقابل
في تحشيد حلفاء كثر حول فكرة العداء لتركيا والتخويف منها، وهو ما دفع تركيا
لاستخدام الورقة الروسية من جهة، وإلى التفاوض وَفْقَ لغة المصالح مع كل دولة من
الدول التي حشدتها اليونان، لتفكيك هذا الاحتشاد ضدها.
وعلى أي الأحوال وسط تلك الدوامات، فالأمور والمصالح والصراع والقرار النهائي في
تسويات الأزمة؛ لا يتوقف على تركيا واليونان وحدهما؛ فأحد أبعاد الصراع تتعلق بقرار
الولايات المتحدة والكيان الصهيوني استبعاد الأراضي التركية كمسار لخط أنابيب الغاز
الذي سينقل غاز المتوسط إلى أوروبا، لصالح مسار آخر عبر الأراضي اليونانية، كما أن
شركات كبرى تعمل في تلك المنطقة لا شك سيكون لها تأثير على مواقف دولها وعلى مسار
الأزمة، مثل إكسون موبيل وايني الإيطالية وتوتال الفرنسية.
تغييرات إقليمية ودولية:
هذا الصراع وإن كان عنوانه الطاقة، إلا أنه يحمل معانيَ حضارية بفعل الصراع والعداء
التاريخي بين تركيا واليونان، وبمعنى آخر بين تركيا وأوروبا. كما يحمل في طياته
مغازيَ ومعانيَ تتعلق بتغيير التوازنات وإعادة رسم المعادلات الإقليمية وربما
الدولية أيضاً.
وعند النظرة المتفحصة وفق رؤيه إستراتيجية بعيدة الأمد، فإن العالم يعيش في تلك
المنطقة وقائع صراع لن تتوقف آثاره على تركيا واليونان أو تركيا وأوروبا، بل سيمتد
أثره على نحو كبير إلى مختلف أقاليم الشرق الأوسط.
هذا الصراع سيعيد ترتيب موازنات القوة في أوروبا بفعل صعود القوة التركية اقتصادياً
وعسكرياً كما أظهرت وقائع الأزمة، وستنال تغييراته العلاقات الروسية - الأوروبية،
والتركية - الأمريكية، وربما العلاقات بين تركيـا وإيران (خاصـة إذا اندلعت الحرب)،
وقد يصل الأمر حدَّ التأثير على حلف الناتو أيضاً.
وأول النتائج المتحققة الآن، هي ثبوت تراجع الولايات المتحدة أو ضعف قدرتها عن
قيادة العالم؛ إذ الصراع يجري بين حلفاء لها، وضمن المنظومة التي تهيمن عليها وتقود
من خلالها العالم. ومع ذلك، فإن أحد الأسباب الرئيسية لتمدد الصراع تتعلق بشعور
الأطراف المختلفة بغياب الموقف الأمريكي وحالة السيولة الإستراتيجية الناتجة عن
ذلك.
وهذا الصراع يشي بأن القادم دولياً هو عالم مختلف. فنحن أمام صراع سيُحدث تغييرات
كبرى ليس على صعيد شرق المتوسط، ولا حتى المتوسط فقط؛ بل على صعيد أهمية مناطق
إقليمية كاملة، وعلى صعيد عوامل الأهمية والقوة لدى أطراف إقليمية ودولية. فظهور
الطاقة في تلك المنطقة لا شك سيجعل من الدول التي ستحصل على نصيب منها في وضع مختلف
على صعيد قوَّتها وأهميتها الدولية. وهوما يجعل تلك المنطقة على درجة عالية من
الأهمية دولياً باعتبارها مصدراً للطاقة؛ وذلك على حساب أهمية مناطق إقليمية أخرى
كانت تتربع على عرش إنتاج الطاقة في العالم؛ خاصة وقد تعرَّض تميزها هذا للضعف من
قبل، بعد تمكن الولايات المتحدة من الدخول في مصاف الدول الأولى في إنتاج النفط.
والأغلب أن هذا الصراع سيفتح الباب أمام تسويات كبرى في مناطق متعددة في الإقليم من
اليونان وتركيا إلى ليبيا إلى سوريا ولبنان... إلخ. وسيعيد ترتيب التوازنات على
ضفاف المتوسط في شرقه وجنوبه، كما سيعيد ترتيب أولويات أوروبا في علاقاتها مع روسيا
كمصدر للطاقة فضلاً عن تغيير طبيعة وجودها وعلاقاتها مع دول شرق المتوسط... إلخ.