صور الإصلاح في القرآن الكريم
الصلاح ضد الفساد، وهو استقامة الأشياء وقيامها وَفْقَ مصلحة
العباد.
ومما لا شك فيه، أن أهل الخير والصلاح حين يقومون بواجب النهي عن
الفساد في الأرض بصدق وإخلاص وشجاعة في الحق وللحق، بإبعاد حظوظ النفس والهوى
والشهوة والشبهة عن أعمالهم، آنئذٍ ينجو المجتمع المسلم، ويسلم من انتقام الله عز
وجل وبطشه[1].
ومن الملاحظ باستقراء القرآن الكريم، أنه يقرر بصورة حاسمة أن عوامل
بقاء الأمم واستمرارها بصورة قوية ممكنة في الأرض، تصب في بحر واحد وتجتمع لتحقق
هدف كليٍّ وهو: الإصلاح في الأرض ودفع الفساد عنها. وهذا الهدف الكلي هو نفسه الهدف
والغاية المراد تحققها من وراء تمكين الأمم واستخلافها. وكيف لا يكون ذلك والأمم
إنما مُكِّنت في الأرض أخذاً بهذا الاعتبار[2]؟
والكتاب العزيز حينما جعل ممارسة الصلاح، والعمل على دفع ما يضاده
قاعدةَ النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، إنما نظر إلى هذا المعنى بواقعية
وشمولية، فلم يغفل شيئاً من صور الإصلاح وألوانه أيّاً كانت.
ومن صور الإصلاح التي أمر الله تعالى بها في كتابه الكريم: الإيمان
بالله تعالى، واتباع أمره، وترك ما نهى عنه، وأداء حقوقه، وطاعته سبحانه بإقامة
حدوده، والتقرب إليه بما يرضيه، والثبات على دينه.
وكذلك من صـور الإصـلاح التي ندب إليها اللـه جل ذكره ودعا إليها:
الأمر بالمعروف، والعدل في الوصية، وبر الوالدين، وتنمية مال اليتيم، والإنفاق في
سبيل الله تعالى وصلة الرحم، وحسن الصحبة، والوفاء بالعهد، والدعاء إلى الحكم بكتاب
الله تعالى؛ لأن أساس صلاح المجتمعات: تعاطي الحقوق وعدم التظالم، وحمل النفس على
الطاعة لله تعالى، والتوبة إليه، وتأليف القلوب وجمع الكلمة، ولمُّ شمل الأسرة،
والدعوة للذرية بالهداية، والعدل في القسمة بين الزوجات، وترك بعض الحق لاستدامة
العلاقة بين الزوجين.
وانطلاقاً من هذه الأوامر والتوجيهات الإلهية، فإن كل صور الصلاح
التي يمكن أن تخطر في حس البشر، إن في شؤون دينهم وإن في شؤون دنياهم، إنها كلها
محسوب حسابها ومقدر أثرها في واقع الأمم ونهضتها وقوتها وعزتها. وبقاء هذه الأمم
واستمرارها أو زوالها واضمحلالها مرتبط بذلك متسبب عنه. كما أن صلاح النفوس
والأوضاع أصل الأصول وغايتها في الشرائع الإلهية، لأنها أهم العوامل المؤهلة للحياة
الكريمة السعيدة.
فمن سنة الله تعالى التي لا تحيد ولا تميل: ألا يهلك الناس هلاك
استئصال بكفرهم وشركهم ما داموا صالحين متناصفين متعاونين؛ ذلك أن جزاء الكفر يقبل
التأجيل إلى الدار الآخرة، ولكن جزاء البغي والظلم والفساد في الأرض معجـل فـي هـذه
الحيـاة الدنيـا، موفـور فـي الآخـرة. فاللـه - عز وجل - جعل من سنته في المجتمعات
الإنسانية ألا يترك الظالمين المفسدين دون عقاب وعذاب معجَّل، فقال عز شأنه:
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِـمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: ١٠٢]. كما قضى على الظالمين المفسدين في الأرض بالخسران
وعدم الفلاح في العاجلة والآجلة: {إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِـمُونَ} [الأنعام:
٢١][3].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله
تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم»[4].
وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧]، يلوح من إشراقة هذه الآية الكريمة
أن الله جل ذكره جعل من سنته أن يأخذ بالإفساد الاجتماعي وإشاعة الفواحش والشرور
أسرع مما يأخذ بالكفر والإشراك به.
فلو أن قوماً غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر
الله جل ثناؤه به المسلمين من الصالحات، بحيث لم يعزهم إلا الإيمان بالله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لاجتنوا من سيرتهم صوراً تشبه الحقائق التي يجتنيها
المسلمون؛ لأن تلك الأعمال صارت أسباباً وسنناً تترتب عليها آثارها التي جعلها الله
تعالى سنناً وقوانين عمرانية، سوى أنهم في معاملتهم ربهم بجحوده أو الإشراك به، أو
بعدم تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع
العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهدهم حسب المعتاد[5].
فليس من سنة الله تعالى أن يهلك الأمم بالكفر وأهلها مصلحون في
أعمالهم الاجتماعية والعمرانية، وأحكامهم المدنية والتأديبية[6]،
قائمين بالعدل والإنصاف في مؤسساتهم السياسية والمالية، متعاطين الحقوق في ما
بينهم.
ذلك أن تطبيق القـوانين علـى الجميـع بالسوية دون محاباة، يبعث
الطمأنينة في النفوس ويجعل الضعيف المحقَّ يوقن بأنه في مأمن من ظلم القوي؛ لأن
الدولة أو الحكومة معه ممثلة بقانونها الذي تطبقه محاكمها بعدل وبجدية مع الجميع،
ودون محاباة لأحد[7].
ولا شك أن هذه الأوضاع تترك أثراً بليغاً في نفوس الأفراد وتقديرهم
لجهود الإصلاح المبذولة، وتسلمهم هذه الحالة إلى الاهتمام بالدولة ومنح الولاء لها،
والحرص على بقائها والدفاع عنها. وتسلمهم هذه الحالة - هي الأخرى - إلى رغبتهـم في
البناء ودعـم جهـود الإصـلاح والعمارة عن طـريق المثـابرة والعمل والإنتاج، وهو ما
يمدد عمر الأمة ويبعد أَجَل سقوطها وانهيارها، فيوفيها الله عز وجل جزاءها في
الحياة الدنيا.
لكن إذا اجتمع الصلاح في الأنفس وَفْقَ الشريعة الإسلامية، وإصلاح
المجتمعات وإبعادها عن الفساد، فذلك هو المطلوب شرعاً. وانطلاقاً من هذا التصور
ندرك خير وبركة الصالحين المصلحين على مجتمعاتهم، وكيف أنهم صمام الأمان لها من
العطب والهلاك ما داموا يطاعون فيها، ويؤخذ بآرائهم ونصائحهم في مختلف مجلات
الحياة.
ولابن تيمية - رحمه الله تعالى - كلام نفيس له علاقة بهذا الموضوع،
قال: «وأمور الناس تستقيم في الدنيا على العدل (الإصلاح) الذي فيه الاشتراك في
أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل:
إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام... وذلك أن العدل
نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من
خلاق. ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة»[8].
إن الإسلام الذي أعاد صياغة عرب الجاهلية، فبنوا أسس عمارة صالحة في
عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين، وأخرج من بني أمية رجلاً صالحاً مصلحاً، وبنى
شخصية نورالدين محمود زنكي وشخصية صلاح الدين الأيوبي وجيليهما وَفْق المعايير
الدينية الحقة، قادر على إعادة صياغة الأفراد والجماعات في عالمنا الإسلامي المعاصر
إذا خلصت النوايا، وإذا وجدت الإرادات الصلبة، وبرزت المؤسسات العلمية والتربوية
الحكيمة في ربوع بلاد الإسلام التي يديرها علماء ربانيون يفقهون تزكية النفوس،
ويُحكِمون صياغة السلوك والتفكير، ويبذرون بذور الإصلاح المادي والمعنوي في
مجتمعاتهم لتؤتي ثمارها بعد حين: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: ٢١].
والشيء الذي يعطي ميزة خاصة للمجتمعات الإسلامية على المجتمعات
الكافرة في هذا الشأن؛ أن الإصلاح الإلهي في الأولى يشمل الجانبين المعنوي والمادي،
بينما الإصلاح في الثانية هو إصلاح مادي محض يليه بعد ذلك الخراب والدمار، سنة الله
تعالى في الكافرين.
[1]
محمد صادق عرجون:
سنن الله في المجتمع، ص
39.
[2]
حسن الحميد:
سنن الله في الأمم، ص
303.
[3]
محمد صادق عرجون:
سنن الله في المجتمع، ص
39.
[4]
أخرجه أبو داود في الأدب، ح
4902.
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،
3/ 202.
[5]
الطاهر بن عاشور:
تفسير التحرير والتنوير،
18/ 283.
[6]
رشيد رضا:
تفسير المنار،
12/ 150.
[7]
عبد الكريم زيدان:
السنن الإلهية، ص
123.
[8]
ابن تيمية:
الحسبة في الإسلام، ص
147- 148.