منذ اندلاع
الثورات العربية في تونس ثم مصر، وتبعتهما ليبيا واليمن وسورية، فإننا سنجد أن
الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص اتخذوا مواقف متباينة من كل ثورة، كما
تباين موقفهم من كل ثورة حسب تصاعد وتيرتها وقدرتها على الحسم.
فقد
وقف الغرب إلى جانب النظام التونسي إلى أن أوشك على الغرق فتنصَّل منه، ورفض حتى
مجرد تزوَّد طائرته بالوقود في الأجواء الفرنسية، وكذا تدرَّج موقفه من النظام
المصري: من دعم صريح إلى مطالبته بالرحيل و «الرحيل الآن».
وكان لافتاً
للنظر ذلك التغيُّر الحادث في الموقف الأوروبي والأمريكي من الثورات بالتدخل
العسكري المباشر في ليبيا بدعم أممي وعربي، بدعوى وَقْف الانتهاكات والمجازر
البشرية التي كان يزمع العقيد الليبي (معمر القذافي) ارتكابها في حق أبناء وطنه.
واختلف الأمر
جذرياً في ما يخص الموقف الغربي والأمريكي من ثورتَي ليبيا واليمن؛ حيث أظهروا
«رباطة جأش» منقطعة النظير إذا ما قارنا ذلك بموقفهم المتشدد من النظام في ليبيا،
وحسمهم للموقف مع نظامَي (مبارك وبن علي) ودعمه للثورتين (المصرية والتونسية)،
حينما أوشكتا على خلع الرئيسين.
محددات
التدخل الغربي:
إن
الموقف الغربي من الثورات تحكمه في النهاية المصلحة الغربية؛ فما تتدخل دعماً
للثوار إلا لمصلحة سياسية غربية، وما امتنع عن التدخل في سورية واليمن، إلا
لمصلحته السياسية البحتة، التي لا علاقة لها بالحرية والديمقراطية ودعم المدنية؛
وإلا ما تجزأت مواقفه واضطربت من ثورة لأخرى.
فالغرب
لا يتعامل بالقيم التي يدَّعيها ويصدِّع بها رؤوسنا؛ وإنما التفسير المنطقي الوحيد
الذي يتسق مع ما نراه من اختلاف وتباين في مواقفه رغم تشابة الظروف ووجود المبررات
نفسها يكمن في اختلاف مصلحته من هذا النظام أو ذاك، ورغبته في تثبُّت نظام أو
رحيله.
ومما
لا يغيب عن الأذهان أن أيَّ ثورة تطلب دعماً غربياً، تفقد كثيراً من نقائها، وتضع
اللبنة الأُولَى في بناء علاقة غير متزنة مع القوى الغربية؛ ربما تدفع لها أثماناً
باهظة في مسيرتها للتحرر من الأنظمة الفاسدة، وأثماناً أكبر حينما يستقر لها الأمر
وتبدأ مرحلة البناء.
فهذا
الدعم الذي يقدِّمه الغرب الآن لبعض الثورات، لم ولن يكون مجانياً، بل سيطلب الغرب
في مقابله مطالب باهظة من الثوار بعد ذلك؛ وهو الأمر الذي يثير مخاوف جمة من
ارتهان القرار السياسي لهذه الدول مستقبلاً بالمصالح الغربية، على نحو ما كنا نراه
من الأنظمة الراحلة وبعض الأنظمة التي أخذت طريقها للرحيل.
لماذا
التلكؤ الغربي في التعامل مع النظام السوري؟
وإذا
كنا قد أثبتنا أن الدوافع الغربية في التعامل مع الثورات هي المصلحة السياسية، ولا
اعتبار في ذلك للقيم الإنسانية، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن إنما هو عن تلك
المصالح التي يجنيها الغرب من بقاء النظام السوري وعن مبررات الرفق الشديد في
التعامل معه.
إننا
حتى هذه اللحظة نجد أن الولايات المتحدة، وعلى لسان وزيرة خارجيتها هيلاري
كلينتون، اعتبرت الرئيس السوري بشار الأسد «إصلاحياً»، ويمكنه أن يقوم بأمور
تعدِّل الأوضاع السياسية في سورية، وأن المستقبل ما زال أمامه للقيام بمهامَّ
إصلاحية، تؤمن بها الولايات المتحدة الأمريكية.
وبررت
عدم اتخاذ خطوات قاسية ضد النظام السوري رغم أن جرائمه فاقت بكثير ما كانت تقوم به
قوات الزعيم الليبي معمر القذافي بأنه «لا يوجد شهية لذلك... لا توجد إرادة... لم
نرَ أي نوع من الضغط مثل الذي رأيناه يتراكم من حلفائنا الأوروبيين في حلف شمال
الأطلسي والجامعة العربية وغيرها لفعل الأمر نفسه الذي فعلناه في ليبيا».
بل
ذهبت إلى حدِّ الدفاع عن نظام الرئيس بشار الأسد قائلة: «إن الأسد قال الكثير من
الأمور التي لم نسمعها من زعماء آخرين في المنطقة حول نوع التغييرات التي يريد
رؤيتها».
وحسب
ما نراه فإن هناك عدة مبررات لهذا الإعراض الغربي عن التعرض للنظام السوري،
والتوقف عند حد العقوبات اللينة التي أدمن النظام السوري التعامل معها، وهي:
أولاً:
هناك ما يمكن أن يقدمه النظام السوري خدمة للغرب والولايات المتحدة على وجه
الخصوص، في ثلاثة ملفات لها أهمية كبرى للدول الغربية، وهي:
1
- ملف المقاومة الفلسطينية وتطويع مواقفها من السلام مع
الاحتلال الإسرائيلي، ووَقْف أية عمليات مقاومة مسلحة داخل الأراضي المحتلة؛ حيث
يفرض النظام السوري الذي فتح أراضيه لقادة المقاومة الفلسطينية، نوعاً من السيطرة
على توجهات الفصائل المؤثِّرة.
2
- الملف الإيراني (الحليف الإستراتيجي للنظام السوري):
حيث تمتد الأذرع الإيرانية إلى ملفات حيوية شديدة الأهمية في المنطقة، منها:
العراق، وأمن الخليج العربي، والملف النووي، الذي لم يصل الغربي فيه لنتيجة
مُرْضية مع نظام (خامنئي - نجاد).
3
- الملف اللبناني: حيث يمتلك النظام السوري أوراق اللعب
المؤثرة في الساحة اللبنانية، ومن أهمها ورقة حزب الله، الذي يقوم بدور تعطيل
الحياة السياسية اللبنانية، بإملاء وإيعاز مباشر من القيادة السورية منذ خروجها
المهين من لبنان قبل عدة سنوات.
وقد
يسعى الغرب لنوع من المقايضة مع النظام السوري؛ بحيث يضمن بقاء هذا النظام، في
مقابل خدمات في أيٍّ من هذه الملفات الثلاثة أو أحدها.
ثانياً:
يخشى الغرب في حال سقوط نظام الأسد الابن وتولِّي نظامٍ وطني أن يعيد اللحمة مرة
أخرى مع المملكة العربية السعودية ومصر، ويعاد إنتاج مثلث المصالح العربية الذي
طالما أدار الملفات العربية وَفْقَ مصالح عربية بحتة؛ متصدياً في كثير من الأحيان
للإملاءات الغربية التي تصطدم مع المصالح العربية الإستراتيجية.
فالنظام
السوري الحالي - وللأسف - قد غادر الوطن العربي، ميمماً وجهه شطر إيران، التي عقد
معها اتفاقات إستراتيجية وشراكة على حساب القضايا والمصالح العربية، ولم يعد
معنياً بالقضايا العربية، إلا بما يخدم المصالح (السورية - الإيرانية) المشتركة.
ولعل
الثورة المصرية قد أخافت الغرب من حدوث تغيُّر مشابه في منظومة الحكم السوري، وهو
الأمر الذي يغير حقيقةً مِن شكل المنطقة العربية تماماً؛ فالتاريخ يؤكد على أن مصر
والشام تُعدَّان قاطرتَي العمل العربي والإسلامي، وأي تغيُّر فيهما ينتج معادلات
سياسية واجتماعية جديدة؛ لذا فإنه في حال سقطت ورقة بشار فإن المنطقة ستتحول إلى
شرق أوسط جديد غير الذي يريده الغرب ويسعى لصناعته.
ثالثاً:
الاستفادة الإسرائيلية من نظام الرئيس بشار الأسد، الذي ما زال يسم نفسه بسيد
«المقاومة والممانعة»، ويصطف في مواجهة إعلامية صارخة ضد إسرائيل، وهو النظام الذي
لم يطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان المحتل منذ عام 1967م، أو مواجهة الخروقات
المستمرة لدفاعاته وأراضيه، أو الدفاع عن أهل غزة، ونصرة قضايا الأمة.
فإسرائيل
تستغل الحملات الإعلامية التي يقوم بها النظام السوري دون ملل أو كلل منذ عشرات
السنين للهروب من استحقاقات السلام ورفض الانسحاب من الأراضي المحتلة بدعوى أن
أمنها الداخلي ما زال مهدَّداً بقوة من ذلك التحالف الذي يشكِّله محور (سورية -
إيران).
فالسعي
السوري لعقد صفقات صاروخية مع الاتحاد السوفييتي، وسعي إيران لحيازة التقنية
النووية، يدعمان بصورة مباشرة مطالب إسرائيل ببناء ترسانة عسكرية ضخمة وطلب المزيد
من المعدَّات العسكرية الحديثة بدعوى الحفاظ على أمنها المهدَّد.
رابعاً:
حماية حدود «إسرائيل»، ولجم الحركات المسلحة كحزب الله وغيره، وَفْقَ ضوابط وقواعد
اللعبة السياسية؛ حيث ترتبط توجهات تلك الحركات بالنظام السوري، الذي ما زال حتى
الآن صمام أمان لحدود إسرائيل، مجهضاً أي محاولات مسلحة حقيقة تنطلق لتنغِّص
الوجود الإسرائيلي في الجولان، أو ترهب جيش الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية
المحتلة.
وفي
حال سقوط نظام الرئيس بشار الأسد فإن إسرائيل (ربيبة الغرب)، تخشى من وجود نظام
وطني سُني يقود عملية تحرِّر للجولان، ويفتح على إسرائيل باباً جديداً للمقاومة
على تلك الحدود الآمنة تتلاقى مع حركات المقاومة الداخلية التي يتمركز زعماؤها في
دمشق أيضاً.
فـ «الأسد
ملك إسرائيل»، كما أشارت صحيفة «هآرتس» العبرية،
في تقرير نشر أخيراً؛ حيث أشارت إلى حالة من القلق تنتاب الأوساط الإسرائيلية من
احتمال سقوط نظام بشار الأسد في دمشق، مضيفة أن الكثيرين في تل أبيب يصلُّون من
قلوبهم للرب أن يحفظ سلامة النظام السوري الذي لم يحارب إسرائيل منذ عام 1973م
رغم شعاراته المستمرة وعدائه (الظاهر) لها.
خامساً
: على
خلاف الأوضاع في ليبيا فإن الجيش السوري ما زال يقف خلف مؤسسة الرئاسة لاعتبارات
طائفية؛ وهو ما يعني أن التدخل الغربي سيكون مكلفاً، من الناحية العسكرية؛ لأنه
سيواجه جيشاً متماسكاً خلف قيادته إلى حدٍّ ما.
كما
أن الجيش السوري، لا تعوزه المهنية، كما هو حال الجيش الليبي، وهو ما يعني أن
حرباً حقيقة قد تقع عندما يتدخل الغرب عسكرياً، ومن ثَمَّ يصبح حجم الخسائر في
صفوف القوات الغربية أكبر من قدرتها على التحمل، في ظل المناخ الغربي المناهض
للتدخل وبذل الدماء الغربية.