مرحباً بالقوة فقط!
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه، وبعدُ:
فمنذُ نشأةِ الحياةِ على هذه الأرضِ، كانتِ القوةُ عاملاً حاسماً فيها، فبالقوةِ أخضعَ الإنسانُ كلَّ ما حولَه من مخلوقاتٍ وجماداتٍ لخدمتِه والانتفاعِ منها، أو اتقاءِ شرِّها على أقلِ تقديرٍ، ولم يكتفِ بنو آدمَ بهذا المستوى من استثمارِ القوةِ حتى جعلوها حاضرةً في تعاملِ الإنسانِ مع بني جلدتِه، وأصبح القويُ عزيزاً مطاعاً، لا يكادُ يجرؤُ أحدٌ على إغضابِه.
وحفظَ التاريخُ تجبرَ كثيرٍ من الأقوياءِ على دعواتِ الأنبياءِ - عليهم السلامُ -، وشواهدُ القرآنِ العزيزِ كثيرةٌ في حكايةِ مواقفِ الأقوياءِ والملأِ من الرسلِ - عليهم الصلاةُ والسلامُ - وأتباعِهم. ومما حفظَه سجلُ الأممِ سيرورةُ الجيوشِ مسافاتٍ طويلةً، لاستخدامِ قوتِها، أو تأكيدِها، وما أخبارُ الحروبِ والملاحمِ الكبرى إلا شاهدٌ على أهميةِ القوةِ وأثرِها.
وإذا كان الفردُ عدوَ ما يجهلُ، فإن الأممَ تعادي ما تفقدُ، ولذلك يكثرُ في أدبياتِ الأممِ الضعيفةِ وخطابِها المعلنِ كلماتٌ رخوةٌ، وعباراتٌ مستكينةٌ؛ لأنه لا قبلَ لها بمنازلةِ الكبارِ والأقوياءِ، فتظلُ عالقةً في وحلِ التعايشِ، غارقةً في حلمِ السلامِ، وليس في لغةِ الأقوياءِ وعقولِهم شيءٌ غيرُ الحربِ، وفرضُ الأمرِ على الأرضِ أو في السماءِ بالقوةِ وليس بمعسولِ الكلامِ والوعودِ.
ولأن حياةَ الأممِ طويلةٌ جداً، كان لزاماً عليها أن تبحثَ لنفسِها عن سبلِ تجميعِ القوةِ بأصنافِها، اللينِ منها والصلبِ، وخشنِها قبل ناعمِها، حتى لو لم يدركْ بعضَ أجيالِها تمكنُها من صنوفِ القوةِ، فأعمارُ الأفرادِ قصيرةٌ في الغالبِ، ويكفي بعضَهم أن يشاركَ في الحثِ والبثِ، والتفكيرِ والتخطيطِ، وشيءٍ من العملِ، وإذا فاتته الثمرةُ فلن يفوتَه الأجرُ بإذنِ اللهِ، وحسنُ الأحدوثةِ، وصوابُ الجوابِ يومِ الحسابِ؛ فعلى كل إنسانٍ مسؤوليةٌ دنيويةٌ وأخرويةٌ، وليس الأمرُ مقصوراً على فئاتٍ دون غيرها، وإنما التفاوتُ بين المكلفين بحسب قدرةِ كلِّ واحدٍ، وما جعلَ اللهُ له وبين يديه.
ومع أن المعنى ينصرفُ أولَ ما ينصرفُ حين تُذكرُ القوةُ إلى القوةِ العسكريةِ، وهو تفسيرٌ صحيحٌ صائبٌ كما سيأتي، بيد أنه ليس الوحيدَ، فالقوةُ الاقتصاديةُ مؤثرة جداً في مكانةِ الأممِ وتأثيرِها، وقوةُ الإعلامِ لها من الحضورِ ما لا يخفى حتى أنها تصنعُ ساحاتٍ للنزالِ بالكلمةِ، والصورةِ، والخبرِ، وغيرِها من التطوراتِ المذهلةِ في محيطِ الإعلامِ، وفي عالمِ التقنيةِ والاتصالاتِ قوةٌ بارزةٌ مستقلةٌ بذاتِها، وتسندُ غيرها من مجالاتِ القوةِ الأخرى.
ومن القوةِ التي لا ينكرُها إلا جاهلٌ، قوةُ العلمِ بمعناه الشاملِ، فالعلومُ الشرعيةُ، والعربيةُ، والتاريخيةُ، أساسيةٌ في حضارةِ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولأهلِ العلمِ مكانةٌ ساميةٌ، وتأثيرٌ كبيرٌ؛ بشرطِ صيانةِ العلمِ عما يدنسُه من تحريفٍ، أو تأويلٍ، أو مزايداتٍ على لعاعاتٍ فانيةٍ، وعرضٍ من الدنيا قليلٍ!
ومن القوةِ المنشودةِ، قوةُ الإيمانِ باللهِ سبحانه وتعالى، وحسنُ الظنِ به عز وجل، وتعظيمُ شأنِ العباداتِ القلبيةِ، والبدنيةِ، والماليةِ، وعلى رأسِها عبادةُ اليقين باللهِ، والفرحِ بدينِه، وعبادةُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وعبادةُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ بالمالِ، والنفسِ، وكلِّ غالٍ ثمينٍ.
ومن القوةِ العنايةُ الفائقةُ بالمهاراتِ والمواهبِ المتوافرةِ في أفرادِ الأمةِ أياً وأينما كانوا، فمجموعُ المواهبِ والقدراتِ والمهاراتِ، يجعلُ البلادَ قويةً، منتجةً، متفاعلةً مع حاضرِها باعتزازٍ، ومتهيئةً لمستقبلِها بنظرةٍ راشدةٍ، وكم تضيعُ الكفاءاتُ في متاهاتِ الإهمالِ! وكم يشيخُ من الشبانِ جموعٌ لم يخدموا أمتَهم وديارَهم بشيءٍ يستحقُ التخليدَ أو الإشارةَ! ويالها من حسرةٍ يجدُها المرءُ حين يقفُ بين يدي مولاه فيسألُه عن شبابِه فيما أفناه؟
ومما يُغفلُ عنه من مكامنِ القوةِ، قوةُ الموقعِ والموضعِ، وقد حبا اللهُ الأمةَ الإسلاميةَ وبلدانَها مواقعَ عظيمةً في البرِ والبحرِ والجوِ، فلديها مساحاتٌ شاسعةٌ، وحدودٌ متراميةٌ، وثرواتٌ كامنةٌ، وأنهارٌ عذبةٌ، وأراضٍ خصبةٌ، وبحارٌ ومضائقُ وقنواتٌ وممراتٌ مائيةٌ تعبرُ منها سفنُ التجارةِ العالميةِ، وأجواءٌ لا تقفُ عنها حركةُ الطيرانِ إن ليلاً أو نهاراً، حتى إن السماءَ في بعضِ المدنِ الإسلاميةِ تضاءُ ليلاً بالطائراتِ المدنيةِ العابرةِ، ولو وجدت محطةٌ أرضيةٌ لهبطت إليها، وكم في ذلك من فوائدَ.
ومن القوةِ المتعلقةِ بذلك، كثرةُ الأماكنِ السياحيةِ التي تطيرُ ألبابِ الشرقيين والغربيين شوقاً لزيارتِها، ورؤيةِ إرثِها الحضاريِّ، والاستمتاعِ بشمسِنا في النهارِ، وصحارينا في الليلِ، فكيف يغيبُ عن فكرِ الأمةِ الاستعدادُ لهؤلاء السياحِ المقبلين بالدعوةِ، وتصحيحِ النظرةِ عن مقدساتِ الأمةِ، وتاريخِها، وقضاياها، وحقوقِها؟ وفي هذا الاستعدادِ استجلابٌ للقوةِ بكسبِ المواقفِ والقلوبِ، وفي هؤلاءِ الزوارِ أهلُ رأيٍ وأصحابُ قرارٍ.
ولم يغبِ موضوعُ القوةِ عن القرآنِ الحكيمِ، والسنةِ المشرفةِ، والسيرةِ العطرةِ، ومن سبرَ هذه المصادرَ الساميةَ سيجدُ شأنَ القوةِ فيها حاضراً بوضوحٍ، بالتصريحِ كما يأتي، أو بالإشارةِ واللازمِ، كما في نصوصِ الجهادِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وفروضِ الكفاياتِ، وغيرِها مما لا يصعبُ ملاحظتُه.
فقد أمرنا ربُّنا سبحانه بإعدادِ القوةِ لأعدائنا الذين نعرفهم، والذين لا نعرفهم، وحثنا على أن يكونَ الإعدادُ عظيماً حتى يُنزلَ الرهبةَ في قلوبِ الأعادي، وإذا كان منظرُ القوةِ سيرهبُهم فكيف سيكونُ وقعُها عليهم؟ وهذا لعمرُ اللهِ من الإرهابِ الشرعيِّ المحمودِ، وكلُّ أممِ الدنيا ودولِ العالمِ تبني جيوشاً ضخمةً، وتمدُها بترسانةٍ متطورةٍ من الأسلحةِ والعتادِ، ولا تلتفتُ لنكيرٍ من أحدٍ أو استغرابٍ.
وفي هذا السياقِ يردُ قولُ القويِّ سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وهذه الآيةُ الكريمةُ أمرٌ صريحٌ بإعدادِ العدةِ الحربيةِ اللازمةِ للقوةِ العسكريةِ؛ لإرهابِ عدوِ اللهِ وعدوِ المؤمنين الظاهرِ منهم والخفيِّ، وجاءت القوةُ بصيغةِ النكرةِ لتفيدَ العمومَ، بينما أكد الرسولُ صلى الله عليه وسلم على قوةِ الرمي في تفسيرِه لهذه الآيةِ الكريمةِ، وفي تفسيرِه إلجامٌ لمن يريدُ حرفَ المعنى عن القوةِ العسكريةِ القتاليةِ الحربيةِ.
وفي قولِه سبحانه وتعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْـحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، أمرٌ إلهيٌّ لنبيِّ اللهِ يحيى - عليه السلام - بأخذِ الكتابِ بجديةٍ لا تهاونَ فيها، وأن يفعلَ الأوامرَ، ويجتنبَ النواهيَ، ولعل معنى الآيةِ أن يعمَّ كلَّ شأنٍ ذي بالٍ، فعلى كلِّ صاحبِ علمٍ، أو حرفةٍ، أو مهنةٍ، أو مهارةٍ، أو تجارةٍ، أو أي عملٍ نافعٍ، أن يعطي من نفسِه الجهدَ والإخلاصَ كلَّه؛ كي يعظمَ أثرُه، ويزيدَ نفعُه.
وروى الإمامُ مسلمٌ - رحمه اللهُ - في صحيحِه عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قولَه: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَني فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشيْطَانِ»، وهذا النصُ من أصولِ الترغيبِ بتحصيلِ القوةِ.
قال الإمامُ النووي - رحمه الله - في شرحِه على صحيحِ مسلمٍ: «والمرادُ بالقوةِ هنا: عزيمةُ النفسِ والقريحةِ في أمورِ الآخرةِ، فيكونُ صاحبُ هذا الوصفِ أكثرَ إقداماً على العدوِ في الجهادِ، وأسرعَ خروجاً إليه وذهاباً في طلبِه، وأشدَ عزيمةً في الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ والصبرِ على الأذى في كلِّ ذلك، واحتمالِ المشاقِ في ذاتِ اللهِ تعالى، وأرغبَ في الصلاةِ والصومِ والأذكارِ وسائرِ العباداتِ، وأنشطَ طلباً لها ومحافظةً عليها».
ولعل معنى القوةِ في هذا الحديثِ الصحيحِ أن يتسعَ ليشملَ قوةَ الإيمانِ، والعلمِ، والصبرِ، والطاعاتِ، والرأيِ، والعزيمةِ، وقوةَ البدنِ والحواسِ المعينةِ على العملِ الصالحِ، وكلَّ قوةٍ لا بغيَ فيها ولا عدوانَ، وتحفظُ على الناسِ دينَهم ودنياهم وديارَهم، وتحمي أعراضَهم وأبدانَهم وأموالَهم وعقولَهم، وما أعظمَ التفريطَ في قوةٍ هذا هو خيرُها وبركتُها في الحالِ والمآلِ.
وبعد أن تحوزَ الأمةُ القوةَ من أطرافِها، فحينها وحينها فقط، يجوزُ لها أن تتحدثَ بالألفاظِ والتعابيرِ كلِّها، سواءٌ ألفاظُ التسامحِ والتعايشِ والتعاونِ، لأنها إن لم تُجدِ نفعاً مع الآخرين، فيمكنُ أن نستخدمَ ألفاظَ القوةِ، والتلويحِ باستخدامِ قوتِنا، فتصيرُ أمتُنا مهابةً مرهوبةَ الجانبِ، وتنصرُ بالرعبِ على أعاديها.
وإن نفاقَ عالمِ اليومِ ليتضحَ في البونِ الشاسعِ بين مبادئه الدوليةِ، وإعلاناتِه العالميةِ، وبين تصرفاتِ أممِ الكفرِ تجاهَ عالمِنا أو نحوَ مصالحِنا، فهذه البلادُ القويةُ تعلنُ حمايةَ الحقوقِ والمبادئَ والسلمَ الدوليَّ، بيد أنها تنسفُ ذلك كلَّه بالفعلِ، أو بمساندةِ الغاشمِ الباغي، أو بالسكوتِ عن العدوانِ والإبادةِ، ونواحُنا لن يردعَهم كما يفعلُ سلاحُنا! وتمنعُ الدولُ الكبرى التسلحَ النوويَّ وغيرَه، بينما لا تكفُ عن تطويرِ قدراتِها في السلاحِ غير التقليديِّ المحرمِ علينا!
ومهما قلنا، ومهما أثبتنا حقوقَنا وجناياتهم، فلا أنجعَ من القوةِ؛ فبها تُسترجعُ المغتصباتُ، وبها تفرضُ الحقوقُ والواجباتُ، وبها تُحمى الثغورُ والأعراضُ والثرواتُ والمقدساتُ، وبها سيترددُ أيُّ كافرٍ أو ضالٍ أو منافقٍ قبلَ أن يقدمَ على حماقةٍ تجاهَ المسلمين وبلادِهم، وبها نشاركُ في توجيهِ المزاجِ السياسيِّ أو صناعتِه، ولن يكونَ ذلك إلا بوجودِ جيشٍ قويٍّ لجبٍ، وصناعةٍ عسكريةٍ متطورةٍ، وقادةٍ أشداءَ على الكفارِ، رحماءٍ بالمؤمنين، ومن خلفهم أمةٌ متينةٌ، متماسكةٌ، وعلى أهبةِ الاستعدادِ؛ كي لا نستجديَ الحمايةَ والتدخلَ السريعَ من غيرِنا!