• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ابن تيمية ومصلحة الجماعة

ابن تيمية ومصلحة الجماعة

 «السعي في مصلحة الجماعة من أوجب الواجبات.. وهو من أقرب القربات إلى الله تعالى، وأفضل الحسنات؛ لما في ذلك من رضا الرحمن، وسرور الإخوان، وقمع الشيطان»[1].

هكذا استهل ابن تيمية رسالته مخاطباً أحد الولاة آنذاك. والذي يبهرك هاهنا أن ابن تيمية كلما تفاقم الانحراف والشبهات، وتكاثرت البدع والأهواء ازداد حرصاً على الاجتماع على الحق، وعلى الألفة والشفقة على الخلق.

ومن ذلك أن خصومه ومخالفيه لما تكالبوا عليه بشأن «العقيدة الواسطية» وشغبوا عليه، وعقدوا مجالس عديدة لمناظرته ومحاكمته، في هذا الوقت المشحون بالبغي والبهتان، وتأليب السلطان على شيخ الإسلام، نجد أن ابن تيمية يسمو عن ذلك التحزب والتحريش، فيحنو على خصومه، ويستفتح مجلس المناظرة بالدعوة إلى الاجتماع والائتلاف، فيقول:  «إن الله أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وربنا واحد، ورسولنا واحد، وكتابنا واحد، وديننا واحد، وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف، ولا يحل فيها الافتراق؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]»[2].

ولما وقعت نفرة وخصومة بين الحنابلة والأشاعرة، بادر ابن تيمية إلى الدعوة إلى الألفة، ولزوم الشرعة، فقال: «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة، ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين، وطلباً لاتفاق كلمتهم، واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامة ما كان في النفوس من الوحشة»[3].

والعجيب أن فئاماً من أفاضل العلماء والدعاة يظنون أن الاجتماع مع عموم أهل القبلة والإسلام يوجب التخفف من أصول وقواطع في الدلائل والمسائل، وأن الألفة تستلزم التنازل عن ثوابت ومحكمات، حتى صار دعاة الاجتماع يُتهمون بالمداهنة والتنازلات، وفي المقابل فإن دعاة الاتباع يُتهمون بالفرقة والشقاق! والحق أن هناك تلازماً بين الاتباع والاجتماع، كما أن هناك تلازماً بين الابتداع والنزاع كما حرره ابن تيمية في غير موطن.

فقد بيّن رحمه الله أنه متى تُرِك الاعتصام بالكتاب والسنة فلا بد من الاختلاف[4]، كما قرر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطناً وظاهراً، وأن سبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به والبغي بينهم، وأن نتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه، وأن نتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول # منهم[5].

وأكد على هذا التلازم في موضع ثالث فقال: «كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم، فالمعتزلة أكثر اختلافاً من متكلمة أهل الإثبات...»[6]. وقال أيضاً: «معلوم أن هؤلاء المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم من أعظم الناس تفرقاً واختلافاً، واعتبر في ذلك بكلامهم في: الجسم والجوهر، والعَرَض وأحكامه وغير ذلك، ففيه من الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله»[7].

وكما حرر أبو العباس هذا التلازم بين الاتباع والاجتماع تنظيراً وتأصيلاً، فقد حققه واقعاً وتنفيذاً، واعْتبِر بما صنعه تجاه ضلالات ابن عربي الطائي، حيث حضر عنده نخبة من العلماء والمشايخ العباد، وأُحضر كتاب «الفصوص» لابن عربي، فكشف أبو العباس طرفاً من زندقة ابن عربي، كقوله بالاتحاد ووحدة الوجود، واستبان للأشياخ حينئذ حقيقة مقالات ابن عربي.

يقول ابن تيمية عقب ذلك: «فلما وقفوا على ذلك، اجتمعتْ كلمتهم واتفقت قلوبهم على أن هذا كفر وإلحاد، وأنهم بُرآء إلى الله تعالى من أهل الحلول والاتحاد... ثم إنهم بعد ذلك حصل بينهم من الاتفاق والائتلاف، والطيب ومكارم الأخلاق، والتواصي بالحق والصبر»[8].

ثم كتب ابن تيمية محضراً لهذا المجلس الذي شهده هؤلاء المشايخ بشأن ضلالات ابن عربي وختمه بقوله: «وجمع الله قلوبهم على ذلك، وأنا موافق لهم على ذلك..»[9]، وأعقبه صورة خطوط المشايخ الحاضرين[10].

من تحريرات ابن تيمية العميقة التي تؤكد حرصه على الاجتماع والوئام، أنه قرر في غير موطن أن غالب الاختلاف الواقع في الأمة ناشئ عن البغي[11]، وهذا البغي باعثه الجهل والظلم، فإذا ظهر العلم وتحقق العدل ارتفعت تلك الاختلافات، وزالت هذه الضلالات، فقال - رحمه الله -: «وأنت إذا تأملتَ ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها، تجد أن أكثره بسبب البغي، إما بتأويل، أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المتسننة في محنة الصفات والقرآن، وكما بغت الرافضة على المتسننة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على عليّ رضي الله عنه، وكما يبغي بعض المتسننة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر الله به»[12].

وقد استصحب ابن تيمية عوارض الأهلية في شأن مسائل الخلاف والافتراق، وأن عموم الخلاف لا يوجب تضليلاً ولا تأثيماً، فقد يكون المخالف مجتهداً مخطئاً، أو متأولاً، فأبو العباس بسعة أفقه، وغزارة علمه، وظهور رحمته وعدله، يقرر الحق بالدليل والبرهان، لكنه يعذر خصمه لأجل تأويل أو شبهة ونحوها، ولا يخفى أن هذا الإعذار يقلل من حدة الخلاف ويردم فجوة الافتراق، فإن من استفرغ وسعه في ذلك الاجتهاد فإن خطأه مغفور كما دلت عليه الآية:

 {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286][13].

ومما قاله في هذا الشأن: «وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا معصية»[14].

وقد حرص ابن تيمية على تجلية أعظم أسباب الخلاف والافتراق، وسبيل دفعه ورفعه، ومن ذلك أن الطوائف المختلفة تضم إلى الحق الذي عندها ما ليس حقاً؛ لأجل اشتباه معنوي، أو اشتراك لفظي، فيقع حينئذ الخلاف والفرقة، والجهل والظلم، ولو زال الاشتباه وبُيّن الاشتراك لارتفع الخلاف، وتحقق الوئام. كما حرره ابن تيمية قائلاً: «الإجمال والاشتراك الذي يوجد في الأسماء نفياً وإثباتاً تجد طوائف من المسلمين يتباغضون، ويتعادون، أو يختصمون، أو يقتتلون على إثبات لفظ ونفيه، والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه، والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه؛ لأن اللفظ فيه إجمال واشتراك يحتمل معنى حقاً ومعنى باطلاً، فالمثبت ينكر على النافي بأنه جحد الحق، والنافي ينكر على المثبت أن قال على الله بالباطل»[15].

وأكد في موطن آخر أن أكثر اختلاف الناس من جهة اشتراك الأسماء، وأن كثيراً من النزاع سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة[16].

ومما يسترعي الانتباه أن ابن تيمية لم يقتصر على تقرير أن عموم المسائل العلمية الاعتقادية منصوصٌ عليه ومحل إجماع بين السلف، بل أكد في غير موطن أن عموم مسائل الفقه العملية منصوص عليها أيضاً، ومجمع عليها، وأن الفقه من باب العلوم وليس من باب الظنون كما زعمه المتكلمة، وأن النزاع والظن في مسائل الفقه قليل جداً[17]. ومن المعلوم أن الجزم بأن مسائل الفقه منصوصٌ عليها مما يحد من دائرة النزاع والافتراق[18].

وفي رسالة ابن تيمية لأهل البحرين معالم جليلة في تحقيق الاجتماع والوئام، منها التذكير بالبعثة المحمدية التي جمع الله بها الشمل، وألّف بها بين القلوب[19]، والتحذير من مجادلة تفضي إلى اختلاف وتفرقة[20].

ومن تحريراته في تلك الرسالة، قوله: «كانوا [أي السلف الصالح] يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع... ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة»[21].

وأخيراً فإن أبا العباس حريص على مصلحة اجتماع المسلمين، رحيم بجميع أهل الإسلام، وإن خاصمه كثيرون، وبغوا عليه، وكادوا له، ومكروا به، كما يتجلى في رسالته التالية: «تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}، وتعلمون أنا جميعاً متعاونون على البر والتقوى، واجب علينا نصر بعضنا بعضاً أعظم مما كان وأشد... إني قد حلّلتُ كل مسلم، وأنا أحبّ الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلّ من جهتي»[22].

والحاصل أن أنفاس أبي العباس مستغرقة في إقامة دين الله، وجمع الناس على طاعة الله، وتأليف القلوب، فتجردت تلك الأنفاس الزاكية من حظوظها، وتعالت عن حقوقها، والله المستعان.


 


[1] جامع المسائل 9/66، باختصار يسير.

[2] الفتاوى 3/205.

[3] الفتاوى 3/227.

[4] ينظر: الدرء 5/284.

[5] ينظر: الفتاوى 1/17.

[6] الدرء 1/157.

[7] بيان تلبيس الجهمية 5/160.

[8] جامع المسائل 7/248-250،  باختصار.

[9] جامع المسائل 7/257.

[10] ينظر: جامع المسائل 7/257-258.

[11] ينظر: الاستقامة 1/38، والفتاوى 3/378.

[12] الفتاوى 14/482، 483، باختصار يسير.

[13] ينظر: الاستقامة 1/39، والدرء 2/1031.

[14] الفتاوى 3/229، وينظر: الفتاوى 7/346.

[15] بيان تلبيس الجهمية 3/307- 308.

[16] ينظر: الفتاوى 12/113،114.

[17] ينظر: الاستقامة 1/75، الفرقان بين الحق والبطلان ص425-426.

[18] لم يكتف أبو العباس بذلك، بل جزم أن المنسوخ في شرائع الأنبياء السابقين قليل بالنسبة إلى المتفق عليه. ينظر: الجواب الصحيح 1/376، 4/33.

[19] ينظر: الفتاوى 24/170.

[20] ينظر: الفتاوى 24/171.

[21] الفتاوى 24/172-173.

[22] العقود الدرية ص322-326، باختصار.

أعلى