الإثنية في الخبرة الإفريقية
الإثنية ملف تم استغلاله بصفة مستمرة من قبل الداخل والخارج في غير صالح المجتمع
والدولة في إفريقيا منذ ما قبل الاستقلال الرسمي عن الاستعمار الغربي في عموم
القارة مع مطلع الستينات، واستمر في أعقابه لعقود، وما زال صالحاً للاستغلال
والتوظيف السياسي لعقود قادمة؛ ما لم تُفهم أسبابه، وتعالج حواضنه، وتواجه تبعاته.
التعدد الإثني في حد ذاته ليس مشكلة، فكثير من الدول في الخبرات المعاصرة خاصة
الغربية تعاطت معه ووظفته بما يخدم المصلحة العامة للدولة الحاضنة، فالتنوع سنة من
سنن الخالق سبحانه وتعالى، وإنما تحول التعدد الإثني إلى مشكلة في الخبرة الإفريقية
بسبب اتصاله في الأساس ببعد رئيس وهو إدارة هذا التعدد والتعاطي معه في إطار الدولة
المستوردة منذ الستينات،
والأسوأ من ذلك هو التعاطي مع ملف الإثنية كملف مستمر وجاهز للتوظيف في أي لحظة
يعجز فيها الحاكم عن الاستمرار في إدارة المشهد السياسي بما يخدم مصالحه، فتنهض
ورقة الإثنية كحائط لامتصاص الصدمات المتتالية للنظام، وإعادة توجيهها بعيداً عنه
في اتجاه بنية الدولة الإفريقية ذاتها كحالة إفريقيا الوسطى في السنوات الأخيرة.
إلا إن ذلك لا ينفي بحال وجود تجارب إفريقية ناجحة في إدارة هذا الملف وإن كانت
تكلفة إدارته - وبرغم نجاحه - لا تزال مرتفعة للغاية كتجارب رواندا بعد الحرب
الأهلية في منتصف التسعينات، وجنوب إفريقيا إبان سياسات الفصل العنصري.
وعليه تُعنى هذه السطور بإجمال عدة نقاط رئيسة لفهم الصورة الراهنة للإثنية في
إفريقيا، وهذه النقاط كالتالي:
أولاً: الاستعمار.. الفاعل الأصلي في إفساد
المشهد الإفريقي:
شهدت القارة الإفريقية تجمعات بشرية عديدة قبل الاستعمار، حيث طورت في بعض المناطق
الجغرافية منها حضارات عظيمة وممتدة كممالك الأشانتي في غرب إفريقيا، وسانغاي في
المنطقة التي كان يُطلق عليها تاريخياً السودان الغربي، وهي التي تشغلها حالياً دول
مالي وغانا، وقد طورت تلك الممالك حضارات مركزية كبري، وذلك بجوار تجمعات بشرية
أخرى في أشكال غير منتظمة تستند لروابط الدم كالعشائر والقبائل.
وقد استمر المشهد الإفريقي في حالته البسيطة تلك إلى أن التفت الاستعمار إليه عبر
البرتغاليين، لاعتبارات التجارة خاصة الذهب والعاج في البداية والعبيد في وقت لاحق،
مما فتح الباب لتكالب الأوربيين من ألمان ودانماركيين وهولنديين وبلجيكيين وفرنسيين
وإنجليز، وقد تم تنظيم هذه الجهود لهدر إفريقيا في مؤتمر برلين في
1884-1885م،
الذي تحين ذكراه في هذه الأيام في الفترة من
15
نوفمبر إلى
26
فبراير، فقد أسس المؤتمر للاستعمار الأوربي في إفريقيا، وكان بداية لخلق تشوهات
هيكلية في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية الإفريقية، استمرت
لمرحلة ما بعد ما يُعرف بالدولة الوطنية بعد الاستقلال في الستينات.
ولكن كيف أسهم الاستعمار في خلق النعرة الإثنية في إفريقيا؟
لقد تمثل ذلك في الأساس في السياسات الاستعمارية التي استهدفت استغلال مقدرات
القارة لأطول فترة ممكنة، حيث اعتمدت الدول الاستعمارية بصفة عامة وفرنسا وإنجلترا
بصفة خاصة التأسيس لهذا الخلل الإثني.
ففيما يخص السياسة الاستعمارية الفرنسية اعتمدت بالأساس على إحكام السيطرة المركزية
السياسية والاقتصادية والثقافية في المستعمرات الفرنسية في إفريقيا الاستوائية، وفي
مستعمراتها في غرب إفريقيا، فقد قصدت إبعاد القيادات التقليدية لتلك البلدان لصالح
الحاكم الفرنسي، وعملت على ربطها ثقافياً واقتصادياً بصورة وطيدة بالداخل الفرنسي
بهدف تنميط تلك المستعمرات مع فرنسا، وبالتالي ركزت فرنسا على التنميط الثقافي
الفرنسي للمستعمرات بما يفسر الارتباط الوثيق بين دول ما بعد الاستعمار وفرنسا
كحالة مالي وكوت دي فوار وغيرها من ناحية، وخلق تفاوت معتبر بين النخبة الإفريقية
العرقية التي استوعبت في الهوية الفرنسية وبين عموم النسيج الاجتماعي لتلك الدول.
أما السياسة الاستعمارية الإنجليزية فقد كانت أكثر حنكة ودهاءً من الفرنسية، حيث
عملت منذ البداية على النهب المنظم والواسع لمقدرات المستعمرات في إطار إدارة
استعمارية أقل مركزية وأكثر مرونة في تحقيق أهدافها بالصورة التي تعمل على خلق
وتأليب الأوضاع المحلية خاصة الإثنية لغير صالح الأفارقة، فاعتمدت على المبدأ
الشهير
«فرق
تسد»،
ولم تختلف السياسة الاستعمارية البلجيكية والبرتغالية في نهبها لإفريقيا عن سابقتها
إلا في كونها أكثر مركزية وأقل دهاءً ومما يدعم هذا الافتراض أنه بعد أكثر من
500
عام من حكم البرتغاليين لمستعمراتهم كانت نسبة الأمية
98%
بالمتوسط في معظم المستعمرات.
وعليه كان الواقع الإفريقي قبل الاستعمار أكثر سلاماً لا من حيث غياب الصراعات
والمعارك بين الأفارقة قبل هذا التاريخ؛ ولكن لكون تلك المعارك والحروب محدودة
النطاق من ناحية ولا تستند للبعد الإثني من ناحية ثانية، فقد كانت حروب
«كلأ»
و«كرامة»
في معظمها، وعليه فإن الملف الإثني أضحى مدخلاً سياسياً رئيساً على يد القوى
الاستعمارية في إفريقيا منذ مؤتمر برلين وحتى تاريخه.
ثانياً: الدولة الوطنية في إفريقيا منذ
الاستقلال.. نشأة مشوهة وإخفاقات متراكمة:
نشأت الدولة الوطنية في إفريقيا نشأة مشوهة ومتعجلة حالت دون تلافي الأخطاء
والممارسات المتراكمة للاستعمار، أو حتى التحكم في التكلفة المستقبلية لتلك
الممارسات، مما جعلها ترث تركة مسمومة من المستعمر، خاصة في ملفها الإثني لتنشئ ما
يقرب من
50
دولة في زمن قياسي على الحدود ذاتها التي رسمها المحتل؛ الأمر الذي مكن من تعميق
الملف الإثني الذي ينخر في بنية الدول الوليدة وألقى على كاهلها وظيفة إضافية ناء
عن حملها كثير من الدول وهي إدارة الملف الإثني برشادة تصب في الصالح الإفريقي.
فمن اللافت للنظر أن تلك الدول الوليدة في إفريقيا في أعقاب الاستقلال الرسمي عن
الاستعمار في بداية ستينات القرن العشرين اتسمت بعدة خصائص مميزة، أولها أن عدداً
معتبراً من تلك الدول الوليدة خاصة الخاضعة للاستعمار الفرنسي باستثناء الحالة
الجزائرية حصلت على استقلالها دون خوض حروب تحرر وطني، حيث حصلت معظمها على الحكم
الذاتي ثم الاستقلال بفضل القانون الإطاري الفرنسي عام
1956م.
السمة الثانية لتلك الدول هي افتقاد معظمها لمقومات الدولة خاصة الاقتصادية،
وارتباطها عضوياً باقتصاد وسياسة الدول الاستعمارية السابقة، عبر المعونات
الاقتصادية من ناحية، والنخب السياسية التي تم استيعابها في الثقافة الاستعمارية من
ناحية أخرى.
السمة الثالثة أن النخب التي تولت إدارة تلك الدول كانت في معظمها نخباً فاقدة
للخبرة العملية في إدارة النظم الحكومية على المستوى الوطني، بالإضافة إلى أن
مؤسسات تلك الدول الوليدة بطبيعتها كانت مؤسسات جديدة وغير راسخة أو متماسكة من
ناحية، وضعيفة من ناحية أخرى.
والسمة الرابعة أن تلك الدول الوليدة اتصفت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية بالفقر
الاقتصادي، وغير حضرية، ومعتمدة كليةً على السوق الدولية.
والسمة الخامسة أن تلك الدول اتبعت النظم السياسية التعددية إبان الاستقلال، وتحولت
في اتجاه الحزب الواحد في النصف الثاني من الستينات، ثم ظهور الانقلاب العسكري في
النصف الثاني من السبعينات كأداة وحيدة للتغيير.
وآخر سمات الدولة المسماة بـ«الوطنية»
أنها بالإضافة لاضطلاعها بالوظائف التقليدية لـ«الدولة القومية المعاصرة»
كوظائف الأمن والدفاع والتنمية، قيامها أيضاً بمهمة إدارة التعددية الإثنية المفرطة
والتي أسهم الاستعمار في تعميق فجواتها وإذكاء نعراتها، وعليه أضحى على الدول
الجديدة ابتداءً إدارة الخرائط الاجتماعية المعقدة والمركبة من أجل تحقيق وظائفها
التقليدية كالتنمية الاقتصادية والسياسية.
وعليه يتضح مما سبق أن الدولة المسماة بـ«الوطنية»
في إفريقيا واجهت تحديات إضافية غير تلك التي تواجهها الدول الوطنية في سياقات
مختلفة حيث أضحت مهمة إدارة التعددية إحدى أهم المهام الواجب على تلك الدول
مواجهتها قبل تحقيق أية تنمية، وهو ما فشلت فيه تلك الدول على نحو مفزع كلف
مجتمعاتها مئات الآلاف من القتلى، وأضعافها من الجرحى والمصابين والنازحين
واللاجئين.
ثالثاً: الإثنية.. إعادة توجيه الإخفاق السياسي
نحو المجتمع (حالة إفريقيا الوسطى):
تعد جمهورية إفريقيا الوسطى آخر الدول الإفريقية التي دفعت تكلفة الفشل المتراكم في
إدارة التعددية، ولكنها ليست الأخيرة.
وجمهورية إفريقيا الوسطى دولة حبيسه تقع في وسط إفريقيا ولديها حدود مع كل من
السودان وتشاد من الشمال، وجنوب السودان من الشرق، والكونغو الديمقراطية والكونغو
الشعبية من الجنوب، والكاميرون من الغرب، ويبلغ عدد سكانها حوالي
5.5
مليون نسمة وفقاً لتقديرات كتاب الحقائق الأمريكي التابع لوكالة الاستخبارات
الأمريكية في يوليو
2016،
على مساحة أرضية تبلغ
620
ألف كيلومتر مربع، أما عن تركيبتها الإثنية وفقاً للمصدر ذاته
-
والذي يجب أن ينظر في أرقامه بعين الحرص والحيطة وعدم التسليم بها لاعتبارات عدة
ليس موضعها هذا المقال
-
فتشكل قبائل البايا
33%،
والباندا
27%،
والماندجيا
13%،
وسارا
10%،
ودينياً
35%
معتقدات محلية، و25%
مسيحيون بروتستانت، و25%
رومان كاثوليك، و15%
مسلمون، ومن ثم فالمسلمون يمثلون أقلية في تلك الدولة، ويعيش معظم مسلموها في
الشمال بالقرب من حدودها مع دولة تشاد.
كما أن إفريقيا الوسطى تعد واحدة من ضمن أربع مستعمرات فرنسية في وسط إفريقيا في
إطار ما كان يُعرف فرنسياً بـ«المستعمرات
الفرنسية في إفريقيا الاستوائية»،
وعليه يُفهم من ذلك طبيعة النخبة المثقفة في تلك البلد، كما يُفهم شكل الهيكل
الاقتصادي والاجتماعي الموروث عن فرنسا كما سبق وأوضحنا في مقام سابق عن شكل
السياسة الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا.
وعليه ومع الإطاحة بـ«فرنسوا
بوزيزي»
رئيس الدولة السابق في عام
2013م
والذي حكم بعد سلسلة من الانقلابات ساهم فيها في السابق، دخلت البلاد في دائرة عنف
مركب سياسي طائفي ديني منذ رحيله.
وقد اشتعلت دائرة العنف السياسي الديني العرقي في إفريقيا الوسطى عندما قام
«ميشال
دجوتوديا»
وحركة ائتلاف سيليكا المتمردة بالإطاحة بالرئيس
«فرانسوا
بوزيزيه» في مارس
2013،
حيث تولى ميشال الحكم كأول رئيس مسلم يتولى الحكم بها منذ الاستقلال، وسرعان ما
انقسم نظام حكم ميشال على ذاته عندما اتهمته المعارضة بتهميشها من ناحية، وفشل
حكومته في السيطرة على الحالة الأمنية المتردية في البلاد من ناحية أخرى، وهو ما
أنتج حالة من الفوضى واسعة صاحبها قتل عشوائي لمسلمين على أيدي ملشيات مسلحة مسيحية
يدين بعضها بالتبعية للرئيس المخلوع، أهما حركة
«أنتي
بلاكا»
المسلحة حتى اضطر ميشال للتنحي بضغط من رؤساء دول وسط إفريقيا في مطلع يناير
2014م.
ومع تنحي ميشال استمرت دائرة العنف واتسعت الأعمال الانتقامية ضد مسلحي حركة سيليكا
بصفة خاصة والمدنيين المسلمين بصفة عامة، مما أدى لانسحاب مسلحي سيليكا من بعض
المدن كمدينة بودا في شمال غرب البلاد إلا إن تلك الانسحابات كانت تواجه بعمليات
قتل انتقامية واسعة ضد المسلمين، وقد أنتجت دوامة العنف في النهاية نزوح حوالي ربع
السكان خوفاً من الهجمات الانتقامية التي أسفرت عن مقتل أكثر من ألفي شخص، ولجأ
عشرات الآلاف من المسلمين إلى دولتي الكاميرون وتشاد، وهو ما حدا بـ«بيتر
بوكارت»
مدير الطوارئ بمنظمة هيومان رايتس ووتش لأن يقول: إنها مسألة أيام وسيغادر جميع
المسلمين إفريقيا الوسطى فراراً من العنف لأن عمليات التطهير العرقي ممنهجة.
ومع تثبيت الأوضاع الميدانية على الأرض والسيطرة الأمنية في ظل وجود قوات حفظ سلام
أممية التي تتواجد بالبلاد منذ أبريل
2014
والمعروفة اختصاراً بـ«مينوسكا»،
وعقد انتخابات رئاسية أجري دورها الثاني في
14
فبراير
2016
وانتهت بفوز
«فوستان
أركانج تواديرا»
الذي كان آخر رئيس وزراء للرئيس السابق
«فرنسوا
بوزيزي»،
حيث حصل على ما يربو على
62%
من الأصوات؛ تراجع الالتفات للملف الطائفي والتكلفة التي تحملها مسلمو تلك الدولة
في السنوات الثلاث الأخيرة، ناهيك عن معالجة المسببات المتراكمة التي أنتجت تلك
الحالة وأهمها التهميش السياسي والاقتصادي للمسلمين بها.
خاتمة: هل لا تزال مساحات النجاح محدودة؟
خاتمة القول، بعيداً عن إلصاق صفة المظلومية بالمسلمين في إفريقيا جنوب الصحراء، إن
إفشال الدول المسماة بالوطنية في إفريقيا منذ الاستقلال في إدارة ملف التعددية
بأبعاده الإثنية والدينية إنما يرجع في الأساس إلى السياسات الاستعمارية التي تعمدت
خلق تلك الحالة من التناحر الممتد والدفين والتي تظهر على السطح مع أية محاولة
للتغيير السياسي في إفريقيا بعيداً عن الرؤى والمصالح الغربية فيها، إلا إن استمرار
هذا الفشل في إدارة تلك التعددية يعزى في جزء كبير منه إلى النخب الموصوفة بالوطنية
في إفريقيا والتي ما زالت تصر على تبني نهج إقصائي أو تعتمد على الفساد كوقود
لاستمرارها في الحكم، وعليه فإن حالة إفريقيا الوسطى مرشحة للتصاعد والتفاقم مجدداً
مع أية محاولة للتغيير بعيداً عن المصالح الفرنسية والغربية فيها ما لم تُعالج
أسباب الإخفاق في إدارة التعددية وفي قلبها التهميش السياسي والاقتصادي الذي يتعرض
له مسلمو تلك البلدان وخاصة في إفريقيا الوسطى.