• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قاعدة تيمية: الإرادة الجازمة مع القدرة توجب الفعل

قاعدة تيمية: الإرادة الجازمة مع القدرة توجب الفعل


طالما حرر ابن تيمية القواعد الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وأظهر أنواعًا باهرة من التقريرات البديعة، والفتوحات العظيمة، ومن ذلك تلك القاعدة الجليلة: «الإرادة الجازمة مع القدرة توجب الفعل»، التي أحكمها واحتج لها بدلائل نقلية وعقلية وفطرية، واستصحبها في إثبات مسائل كبيرة، ونوازل هائلة، وصاغها بعبارات متعددة، وألفاظ متنوعة، كعادة ابن تيمية في تحريراته، فقد اتسعت مداركه وعظمت علومه ومعارفه، ومن ثم اتسعت تعبيراته، وتكاثرت ألفاظه.

وسيتضح شأن هذه القاعدة ومعناها من خلال تلك المسائل الكبيرة التي احتج لها ابن تيمية بهذه القاعدة العظيمة، كما في السطور التالية:

1- احتج ابن تيمية بهذه القاعدة في تقرير أصل مهم في مسائل الأسماء والأحكام، وهو إثبات التلازم بين الظاهر والباطن، والرد على المرجئة من خلال هذه القاعدة، كما في قوله: «فالقلب إذا كان فيه إرادة، سرى ذلك إلى البدن ضرورةً، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد»[1]، فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملًا قلبيًّا، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق»[2].

وقال في موطن آخر: «إن القلب إذا تحقق ما فيه [من الإيمان الباطن] أثّر ذلك في الظاهر ضرورةً، ولا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حبّ الله ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه»[3].

والحاصل أن القلب إذا كان فيه محبة الله تعالى وإرادته، فإن هذه المحبة التامة والإرادة الجازمة توجب مع القدرة وجود الفعل ضرورة، وتستلزم تحقق العمل الظاهر، ولذا قال - في موطن ثالث -: «من عرف الملازمات بين الظاهر والباطن زالت عنه شبهات كثيرة»[4].

2- استدل ابن تيمية بهذه القاعدة في تقرير الصفات الإلهية بلا تمثيل ولا تعطيل، وفي الرد على أهل التحريف والتأويل الفاسد، والرد على أهل التجهيل والتضليل، فإن التعرف على الله عز وجل، والإيمان بالله وما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا يعد أمرًا فطريًّا وجديًّا[5]، فالنفوس في غاية الشوق والوجد والحبّ لربها تعالى، والموصوف بصفات الكمال والجلال والجمال.

فقال - رحمه الله -: «فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا[6]، لا يسألون عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، وهم يتوجهون بقلوبهم إليه سبحانه، ويدعونه تضرعًا وخيفة، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم بهذا، ومعرفة الحق فيه، وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور، ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سألوا عما دون هذا»[7].

فإن المحبة الصادقة والإرادة الجازمة تقتضي مع القدرة أن يُتعرّف على الله عز وجل، وأن تُفهم أسماؤه وصفاته، ويتعبّد لله بها كما دلت النصوص الصحيحة والعقول الصريحة، ومجانبة سبيل التحريف والتفويض.

3- أورد ابن تيمية هذه القاعدة في الجواب عن إشكالات في القضاء والقدر، كما في مسائل الاستطاعة والقدرة، فإن مسألة: هل يقدر العبد أن يفعل الطاعة أم لا؟ جوابها مبني على هذا القاعدة، كما هو مبين في قوله: «نعم، إذا أراد العبد الطاعة التي أوجبها الله عليه إرادةً جازمةً كان قادرًا عليها، وكذلك إذا أراد ترك المعصية التي حرمت عليه إرادةً جازمةً كان قادرًا على ذلك»، إلى أن قال: «فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه إذا أرادوه إرادةً جازمة فقد كذب على الله ورسوله»[8].

فالاستطاعة المقارنة للفعل هي القدرة المحققة للفعل، فمن أراد الفعلَ إرادة جازمة وكان قادرًا عليه، فإن ذلك يوجب وجود الفعل وحصوله[9].

4- أزالت هذه القاعدة الإشكال في مسألة: من همّ بطاعة هل يثاب عليها؟ أو همّ بمعصية فهل يعاقب عليها؟ فإن ابن تيمية استهل جوابه وبناه على تلك القاعدة، حيث قال: «متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة. والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام»[10].

وبين ابن تيمية أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل[11].

وأوجز الجواب وأوضحه في موضع آخر فقال: «الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد، وبهذا يزول الاشتباه في هذا المقام، فإن الناس تنازعوا في الإرادة بلا عمل، هل يحصل بها عقاب؟ وكثر النزاع في ذلك، والفصل في ذلك أن يقال: فرق بين الهمّ والإرادة، فالهمّ قد لا يقترن به شيء من الأعمال الظاهرة، فهذا لا عقوبة فيه بحال، وأما الإرادة الجازمة فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور، ولو بنظرة، أو لفظة، أو خطوة»[12].

5- ثم إن هذه القاعدة تحل إشكالًا في مسائل مهمة تتعلق بالإكراه، كما أوضحه ابن تيمية، فقد بين أن من يُفعل به الفعل من غير قدرة له على الامتناع، كأن تُضجع المرأة ويُفعل بها الفاحشة بغير اختيارها، من غير قدرة على الامتناع، فليس لها فعل اختياري، ولا إرادة، فلا عقاب عليها اتفاقًا، وأما أن يكره الشخص على قتل أو فاحشة حتى يَفْعَل، فهذا يعدّ مريدًا مختارًا، فإن إرادته الأصلية أن لا يفعل هذا، بل هو مبغض له، فلما أُكره عليه صارت فيه إرادة ثانية تخالف الإرادة الأصلية، فصار فيه نوع إرادة وتمكين، ولم يستفرغ وسعه في الامتناع، فالإرادة الجازمة هي التي يقترن بها ما يقدر عليه من الامتناع، فإذا لم يوجد منه هذا النفور والامتناع كان مطاوعًا مختارًا للقتل أو الفاحشة[13].

6- ومن المسائل التي احتج لها ابن تيمية بتلك القاعدة: إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل القرآن الذي أعجز الأمم كلها، فقد عجزت جميع الأمم عن معارضته، مع كمال الرغبة والحرص على معارضته[14].

«ولم يأتوا بسورة من مثله، وذلك يدل على عجزهم عن معارضته، لأن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة. ومعلوم أن إرادتهم كانت من أشد الإرادات على تكذيبه وإبطال حجته» إلى أن قال: «وليس كما يظن بعض الناس أن معجزته من جهة صرف الدواعي عن معارضته»[15]. والمقصود أن القرآن آية معجزة وباقية إلى آخر الدهر، فإن مشركي العرب من أحرص الناس على تكذيبه، وأشد رغبةً وإرادةً لمعارضته، فلما كان الداعي تامًّا والإرادة جازمةً على ذلك، ولم يتحقق منهم فعل ولا معارضة، فدلّ على عجزهم، فليس إعجازه بدعوى «الصرفة» عن معارضته كما ظن بعضهم.

7- ويمكن الانتفاع بهذه القاعدة في معالجة حالة التشرذم والفرقة بين دعاة اليوم، وذلك بالتذكير بأمر فطري ضروري، كما عبّر عنه ابن تيمية بقوله: «إن جميع أمور بني آدم لا بد فيها من تعاون بينهم، ودفع ومنع لغيرهم، فلا بد لهم من عقد وقدرة، والعقد أصله الإرادة»[16].

إن الإرادة الجازمة والنية الصالحة بإحياء شعيرة التعاون بين الدعاة والسعي إلى فقه الوفاق بينهم تحتم ضرورةً حصول التعاون وتحققه، فإن تعذّر التعاون فإن الإرادة ليست صادقة ولا صالحة، أو أن القدرة منتفية أو قاصرة، والله المستعان.

وأخيرًا فإن استصحاب القواعد يحقق ضبطًا محكمًا للمسائل، وجوابًا سديدًا للنوازل، لاسيما إذا استوعبت تلك القواعد وأتقنت فإن ذلك يفتق الذهن ويحرك العقل في إعمال هذه القواعد فيما يلائمها من نوازل ومسائل.

:: مجلة البيان العدد  344 ربـيـع الثاني  1437هـ، يـنـايــر  2016م.


[1] رواه البخاري ح (52)، ومسلم ح (1599).

[2] الفتاوى 7/187، وينظر: 7/221، 541.

[3] الفتاوى 7/645.

[4] مختصر الفتاوى المصرية ص102.

[5] ينظر: مقدمة الفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية.

[6] أي معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته.

[7] القاعدة المراكشية ص48.

[8] الفتاوى 8/437، 440.

[9] ينظر: منهاج السنة 3/50، والفتاوى 8/441، والأصفهانية ص403.

[10] الفتاوى 10/722 = باختصار، وينظر: الفتاوى 14/122.

[11] ينظر: الفتاوى 10/735.

[12] ينظر: الإيمان الأوسط ص407-409 = باختصار.

[13] ينظر: الاستقامة 2/323- 327، الفتاوى 8/50٤-٥٠٢.

[14] ينظر: الجواب الصحيح 2/499 (ت: سفر الحوالي).

[15] شرح الأصفهانية ص715.

[16] جامع الرسائل 2/308.


googleplayappstore

أعلى