كيف يمكن صد التمدد الإيراني؟
إن ما يجري في منطقة الشرق الأوسط يدعو كل صاحب عقل إلى تفكير عميق ووعي الوضع واستيعاب أسبابه، وإن الحريق الذي يشتعل في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر نذير شر للمنطقة. ويبدو أن الأوضاع السياسية في المنطقة بدأت تتغير بسرعة لم تخطر على بال أحد، ولا يختلف اثنان على أن أي فوضى في العالم العربي على سبيل العموم وفي منطقة الشرق الأوسط على سبيل الخصوص تصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني أولًا وفي مصلحة الولايات المتحدة ثانيًا، لأن أي ضعف لتلك الدول يكون سببًا لتقوية الولايات المتحدة وترسيخ أقدامها في المنطقة أكثر فأكثر، إذ إنها تبيع الأسلحة إلى جميع أطراف الصراع في المنطقة متذرعة بأسباب مختلفة، وذلك ما يساعدها على دعم اقتصادها وعمليات قواتها خارج أراضيها فهي تقوم بالمهام الخارجية العسكرية وتطلب فاتورتها من دول مختلفة.
وفي هذا الإطار برزت إيران كلاعب قوي آخر في المنطقة بعد الولايات المتحدة، وهي قاب قوسين أو أدنى من إبرام اتفاقية نووية مع القوى الغربية ومصالحة مع الولايات المتحدة التي كانت تصفها بـ«الشيطان الأكبر» منذ ثورة الخميني عام 1979م. وبذلك ستجد إيران سندًا لها في المنطقة لأن الغرب يرى في إيران حليفًا طبيعيًّا له، وقد أكد ذلك سفير أمريكي سابق في أحد مقالاته أيضًا، في حين يرى الغرب أنه لا يمكن الاعتماد الكلي على الدول السنية في المنطقة، بل يجب أن يكون لديه بديل عنها وهو بالطبع لن يكون إلا إيران.
ومن المعروف أن إيران منذ الثورة الخمينية تتابع أجندة فارسية شيعية، وهي تتلخص في الوصول إلى كل شيعي في أي مكان كان في العالم، إضافة إلى بذل جميع الجهود لترويج التشيع في الدول الإسلامية وإنشاء أصدقاء لإيران في كل مكان من العالم، ويبدو أن إيران قد تمكنت من إحراز هذا الهدف حيث أصبحت قبلة يولي جميع الشيعة في العالم وجوههم إليها، وليس أدل على ذلك من انتشار «التشادور الإيراني» بين الشيعة في كل مكان وأن الشيعة يفتخرون بالقيادة الإيرانية التي يعتبرونها رمزًا لنهوضهم من جديد.
وأصبحت الثورة الإيرانية رمزًا لـ«الثورة الإسلامية الناجحة» بين الشعوب التي لا تعرف حقيقة إيران وترنو إلى ثورة تنقذهم من جبروت الأنظمة السلطوية التي لا تلقي بالًا لرأي المواطن. وهذا ما يحدث في عدد من الدول وعلى رأسها البحرين ثم اليمن، بينما يبقى الشيعة في لبنان سهم إيران في خاصرة الدول العربية.
وتقوم إيران بمحاولات لتصدير ثورتها إلى الدول المختلفة، ومنها محاولات لتصدير الثورة الإيرانية إلى باكستان زمن الجنرال ضياء الحق خلال الثمانينات من القرن المنصرم إلا أن المؤامرة فُضحت قبل تطبيقها وتم اعتقال المتورطين فيها.
ويجدر بنا أن نلقي نظرة على الوسائل التي تستخدمها إيران للوصول إلى كل شيعي في أقاصي العالم ثم نقارنها بجهود الدول الإسلامية الأخرى لإنشاء وئام بين الأمة الإسلامية ينفع المسلمين جميعًا:
التعليم:
تستخدم إيران التعليم كأقوى وسيلة لاستقطاب الناس إليها، وتقدم مرافق التعليم ولاسيما تعليم العلوم الدينية مجانًا لأبناء الأقليات الشيعية من الدول الإسلامية السنية، بينما تقدمها حتى للسنة من الدول التي لا يوجد فيها الشيعة، ثم تنقل هؤلاء الطلاب إلى الحوزات العلمية في إيران على سبيل العموم وفي «قم» على سبيل الخصوص. والكثير من علماء الشيعة في باكستان من متخرجي تلك الحوزات وهم يلبسون زي الملالي الإيرانيين نفسه للإعراب عن ميلهم لإيران. كما أن إيران تقوم بتعيين وكيل للولي الفقيه في باكستان أيضًا.
ويعرف الجميع أن التعليم يشكل أساسًا لتأسيس الشخصية وهو وسيلة قوية لكسب الناس لأي أفكار أو أي نظام. والنظام التعليمي هو الكفيل بإقصاء السنة في إيران من الدوائر الرسمية والمناصب العليا؛ لأن الطالب السني لا يستطيع أن يتجاوز الاختبارات التي تمكنه من الالتحاق بالمدارس الثانوية والجامعات إذا بقي سنيًّا، لأن الأفكار والمعتقدات الشيعية تشكل أساسًا للمناهج التعليمية، فإذا أجاب بحسب معتقده يرسب، وإذا أجاب وفق المناهج ينجح. وهكذا لا يبقى أمامه خيار للوصول لأي منصب سوى أن يتشيع ولو على الظاهر، أو أن يبقى خارج حلبة السباق إذا بقي متشبثًا بأفكاره السنية.
ترويج اللغة الفارسية
من ضمن وسائل تقريب الناس إلى إيران ترويج اللغة الفارسية، لأن كل لغة تحمل في طياتها ثقافة بأكملها. وبناء على خطورة تلك الثقافة كان علماء بشبه القارة الهندية أصدروا فتوى بتحريم تعليم اللغة الإنجليزية لأبناء المسلمين عندما كان الإنجليز يحتلون الهند. كما أن اللغة تكشف خبايا كل قوم ينطقون بها، ومن هذا المنطلق تجتهد إيران لنشر اللغة الفارسية في كل مكان بوسائل مختلفة، وعلى سبيل المثال تقدم منحة دراسية لأي طالب باكستاني يدرس اللغة الفارسية بأي جامعة باكستانية في مرحلة الماجستير تشجيعًا له على تعلم لغة الفرس والاطلاع على الثقافة الإيرانية.
الملاحق الثقافية
يبقى الملحق الثقافي جزءًا من كل بعثة أجنبية في أي دولة أخرى إلا أن إيران تستغل ملاحقها الثقافية في الخارج أيما استغلال لنشر أفكارها وتقريب الشعوب إلى إيران. وهذه الملاحق تفتح أبوابها مشرعة أمام الجميع بدون أي تمييز، وتقوم بتنظيم نشاطات مختلفة من فينة لأخرى، وبينها معارض للصور العادية ومعارض لصور خاصة بالثورة الإيرانية ودورات لتعليم اللغة الفارسية وأخرى لتعليم الخط والرسم، إضافة إلى النشاطات الرسمية المنوطة بالملاحق الثقافية من تصديق الشهادات وتقديم التسهيلات لطلاب بلادها في الالتحاق بالمؤسسات التعليمية بالبلد المضيف أو العكس.
الملاحق الثقافية الإيرانية في باكستان
من الغريب أنه لا يوجد في إيران سوى نحو 20 ألف مواطن باكستاني لكن توجد لها ملاحق ثقافية في جميع العواصم الإقليمية الأربع، إضافة إلى مدينة ملتان وسكر وراولبندي، وكل تلك الملاحق تقوم بنشاطات ثقافية مختلفة على مدار السنة، بينما يقوم الدبلوماسيون الإيرانيون بزيارة الجامعات المختلفة بهدف تبادل ثقافي بين الجانبين وتنظم رحلات استكشافية مع إبرام اتفاقيات بينها وبين الجامعات الإيرانية لتعزيز التعاون الثنائي.
وكتب السفير الباكستاني السابق في عدة دول ظفر هلالي في أحد مقالاته أن بينظير بوتو عندما كانت رئيسة للوزراء استدعته ووجهته بأن يستدعي السفير الإيراني إلى الخارجية ليطلب منه وضع حد أمام النشاطات الثقافية الإيرانية في باكستان إذ إنها تتسبب في إنشاء مشاكل. ويضيف أنه استدعى السفير الإيراني وجلس معه ليوضح الأمر له، فإذا بالسفير يسأله: كم من الناس تتوقعون أن يرفعوا السلاح ضدكم على طلبنا؟ فيقول هلالي إنه قال إن هذا أمر لا يعرفه، فقال السفير: هناك خمسة وسبعون ألف شخص جاهزون لحمل السلاح ضد باكستان على طلبهم لكنهم يمنعونهم من ذلك.
ومن هذا الأمر يمكن تقدير مدى قوة الملاحق الثقافية الإيرانية في أي بقعة من بقاع العالم.
ولا ينبغي أن نفوت الإشارة إلى وجود حملات تشيع في دول إفريقية لم تعرف التشيع في تاريخها نتيجة لجهود الملاحق الثقافية الإيرانية، وقد نشرت تقارير عن التشيع في نيجيريا أخيرًا تقشعر لها الجلود.
المؤسسات الخيرية
إضافة إلى الملاحق الثقافية، هناك مؤسسات خيرية إيرانية تعمل في مناطق مختلفة ولاسيما مناطق الشيعة وبينها مؤسسة الإمام الخميني ومؤسسة الحسين ومؤسسات أخرى. وقد أكد لهذا الكاتب مصدر في مدينة مظفر آباد عاصمة كشمير الحرة بعد الزلزال المدمر لعام 2005م أن الجميع يعملون لصالحهم، موضحًا أن المؤسسات الخيرية الإيرانية لا تقوم بأي نشاط إلا في مناطق الشيعة والعمل نفسه تقوم بها المؤسسات السنية. وفي الوقت الراهن أيضًا توجد نشاطات واسعة لمؤسسات خيرية إيرانية في المناطق الشمالية الباكستانية التي تؤوي الشيعة.
حملات الزيارات
إن حملات زيارات «الأماكن المقدسة» جزء مهم من خدمات القنصلية الإيرانية في باكستان، حيث يتم تنظيم حملات زيارات إلى «الأماكن المقدسة» في إيران والعراق وسوريا. وتقتصر تلك الحملات على الشيعة، حيث يتم نقلهم إلى إيران في مجموعات على غرار حملات الحج والعمرة لفترات مختلفة. ويشك البعض أن تلك المجموعات لا تقوم فقط بزيارة إيران والتجول في الأماكن المقدسة فحسب، بل يتم تنظيم دروس فكرية لها إضافة إلى تدريب عسكري أيضًا.
وقد قام مسلحون باستهداف قافلة للزوار العائدين من إيران بمنطقة كوهستان الباكستانية قبل عامين، مبررين بأن معظمهم كانوا من الذين تم تدريبهم عسكريًّا في إيران، بينما تشير تقارير أخرى إلى أن فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يبقى على اتصال بجميع المجموعات الموالية لإيران في جميع أنحاء العالم. ويؤكد ذلك دور قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق واليمن وسوريا ولبنان.
النفوذ في وسائل الإعلام
تدرك إيران أهمية وسائل الإعلام، إذ إنها أصبحت وسيلة لتحويل الأسود إلى الأبيض والأبيض إلى الأسود وإحقاق الباطل وإبطال الحق. وتتبنى سياسة التأثير على وسائل الإعلام إلى أكبر قدر ممكن بإنشاء أواصر مع الصحافيين والإعلاميين والصحف والقنوات ودسّ موالين لها في المؤسسات الإعلامية. وقد لمسنا جيدًا أثر ذلك خلال الحملة الخليجية على اليمن، حيث ندر من يتحدث في وسائل الإعلام الباكستانية عن حق المملكة العربية السعودية ودول الخليج في التدخل في اليمن لوضع حد لنشاطات الحوثيين الموالين لإيران. وأن الضغط الإعلامي على الحكومة كان بين أهم الدوافع وراء نقل الحكومة قضية دعم المملكة العربية السعودية إلى قبة البرلمان بدلًا من اتخاذ قرار وكسب ثقة البرلمان حوله.
النفوذ في أروقة الحكم
وعلى غرار النفوذ في وسائل الإعلام، يقوم الدبلوماسيون الإيرانيون بإنشاء صداقات في أروقة الحكم أيضًا، لأنهم يعرفون جيدًا أن كسب «قائد فيلق إلى جانبك أفضل من كسب جميع جنود الفيلق» لأنهم لا يتحركون إلا بأمر قائدهم. والقاسم الطائفي يكون أقوى سبب لإنشاء الصداقة، كما أنهم لا يحجمون من محاولات كسب البعض الذين لا يوافقون آراءهم لكن لا توجد لديهم أفكار مضادة؛ وبالتالي يتمكنون من إنشاء «لوبي إيراني» يساعدهم تلقائيًّا كلما احتاجت إيران إلى دعمهم.
تهويل عدد الأقليات الشيعية
من بين أهداف وسائل الإعلام الإيرانية تهويل عدد الشيعة في المجتمعات الإسلامية وفي الدول الإسلامية والمبالغة فيها حتى يبدو للقارئ أن الشيعة يشكلون جزءًا كبيرًا من المجتمعات الإسلامية. ويتضح هذا الأمر بمقارنة الإحصائيات الإيرانية عن الشيعة في العالم وإحصائيات دول مختلفة عن سكانها.
وفي هذا الإطار، هناك حاجة ماسة إلى وضع خطة مدروسة لمجابهة النفوذ الإيراني الفارسي في الدول الإسلامية، بدلًا من وضع آليات آنية تهدف إلى إحراز مكاسب مؤقتة. وهناك أسئلة ملحة كثيرة عن أسلوب تعاون الدول الإسلامية فيما بينها في هذا الصدد أو جهودها لنشر الأفكار الصحيحة وكسب الدعم لقضاياها العادلة على مستويات مختلفة.
ولا يحتاج هذا الأمر إلقاء محاضرات طويلة، بل يكفي لذلك إلقاء نظرة على ما يجري في منطقة الشرق الأوسط مع التركيز على الدور الإيراني فيه والمواقف الدبلوماسية لدول الغرب. وإذا دل ذلك على شيء، فإنه لا يدل إلا على أن الدول الإسلامية ولاسيما العربية والخليجية في حاجة ماسة إلى إدراك الوضع من منظور ديني، وليس من منظور المصلحة، ومجابهة النفوذ الإيراني بالوسائل نفسها التي تستغلها إيران، لأن الحديد لا يفل إلا بالحديد. ولندرك أن معادلات القوة في منطقة الشرق الأوسط تتغير مع توقيع الغرب الاتفاقية النووية مع إيران.
:: مجلة البيان العدد 343 ربـيـع الأول 1437هـ، ديسمبر 2015م.