الرؤية.. مرة أخرى
لعل من أكثر موضوعات الإدارة والتخطيط طرقًا موضوع «الرؤية»، باعتبارها البداية
الصحيحة والمنطقية لأي أعمال تخطيطية تستمر في المستقبل.
وليس مقصود هذا المقال طرح شروط الرؤية أو أركانها أو مواصفاتها المهنية، التي
اجتهد الإداريون كثيرًا في توصيفها، وفي التفريق بينها وبين الرسالة والغايات
والأهداف وغيره مما تعج به النظريات الإدارية والممارسات، بقدر ما هو إشارات حول
مضامين الموضوع..
المسلم بطبيعته موجَّه بغايات سامية، توجِّه طريقه وتهديه عند ورود إشكال في اتخاذ
القرار أو تحديد أولوية ما، وتستحثه هذه الغاية على الانتهاض كلما اعتراه ركود، كما
تعطيه وزن الأولوية كلما احتار في تقديم أي الأعمال، وترتب له بدقة شديدة واجباته
في كل وقت، فيما اصطلح عليه أهل العلم «بواجب الوقت»، وإن هذا الكل المتكامل يوجه
المسلم في حياته بشكل دقيق، كما تعطيه مساحات النفحات فرصًا للمضاعفة والعودة إلى
المسار بقوة كلما اعتراه إظلام أو عمِيَ عليه السبيل.
يضع المسلم في تصوره «عمارة الأرض» ويعتبرها مرحلة مهمة في التمكين للدين، وتحقيق
مراد الله تعالى فيه، على التوازي مع تصوره للدار الآخرة وأنها الحياة الحقيقية
التي يجب بذل المجهود للوصول إليها، ويتمازج في دافعه نحو الإنجاز عاملان: حاثٌ
أخرويٌ للمكانة، ودافع دنيويٌ يريه الإنجاز حاضرًا؛
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْـحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ
بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ}
[التوبة: 52]
،
{نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}
[الصف: 13]
، ومن جميل التوافق أنه لا يشعر بأي ازدواج في سعيه لكليهما، بل يعد السعي للأولى
ضمن سعيه للآخرة فتتسق أعماله وتتناغم ولا يشعر فيها بفصام أو ارتكاس.
المسلم مطالب دومًا بهمة عالية، ويتعبد ربه برفع هذه الهمة ويعدها من محابه، لذا
تتسم أهدافه التي يضعها بكونها غير عادية، ومحفزة، وتكاد تجاوز الثريا من علوها،
فهو مفطور بتكوينه الشرعي على اختيار معالي الأمور وأشرفها، فتنحو اختياراته في
صياغة الرؤية إلى السمو والعلاء.
يَعتبر التكوين الشرعي للمسلم الكلمةَ ويعطيها وزنها؛ فإن معجزة نبيه صلى الله عليه
وسلم إنما كانت كلامًا، إن الحفزَ والتثوير نحو المعالي لا يرتهنان بعبارة ذات
كلمات محدودة يقرؤها العامل كلما دخل أو خرج، إن لحضور الرؤية مكتوبة في جنبات
المؤسسة دوره ولا شك؛ غير أن ما يحفز فعلًا أن تترجم هذه العبارات الخلابة إلى
أعمال وأفعال، فكلما عَبَرت كلمةٌ من الرؤية ببصر أحدهم تذكر أمامها حجمًا من العمل
يترجمها فعلًا، وينقلها من تجريدها النصي إلى بيانها العملي وبُعدها السلوكي الذي
يترجم الكلام إلى أعمال.
لأن مؤسسات العمل الخيري والمؤسسات العامة موجهة بالأساس إلى الخدمة بلا مقابل
تقريبًا؛ فإن التفكير في المستفيد هو ما يصبغ الرؤية في الغالب، على العكس من
المؤسسات الربحية التي تتوجه رؤيتها إلى ذاتها في الغالب «أن نحقق المركز كذا» أو
«أن نستحوذ على ما نسبته كذا من الحصة السوقية في كذا»، غير أن تفكيرًا مزيجًا بين
الاثنين يمكن أن يحل محل ما جرت العادة بكتابته. عندما تفكر المؤسسات العامة وغير
الربحية في نموها الذاتي؛ فهو ضروري لاستدامة نجاحها، وعندما تفكر المؤسسات الربحية
في مصلحة العملاء وتضع رضاهم نصب عينها في الرؤية فهم سبب ربحها!
تفشل الكثير من المنظمات في وضع الرؤية حينما تعتبر أنها فقط ما «تود أن تنجزه في
المستقبل»، بمعزل عما «تريد أن تكون عليه»؛ فالرؤية الجيدة لا تفصل بين القيم
الجوهرية للمنظمة وما تريد أن تكون عليه في المستقبل. إن الأطر المهنية التي تفصل
الرؤية عن المهمة والقيم ربما صارت تنزوي نوعًا ما مع التقدم السريع والتغير في
مجالات العمل وأولوياته؛ بما يجعلنا في حاجة إلى قراءة الرؤية في إطار مزيج يجمع
بين القيم والهدف الجوهري، وبين التصور المستقبلي.
الانتقال من «صياغة الرؤية» إلى «صناعة الرؤية» يغير في نظرنا العملية ويعطيها
وزنها الحقيقي، وينقلها من مجرد كلمات مكتوبة إلى بناء راسخ.
تنحو الرؤى كثيرًا إلى أن تكون عامة وتقليدية ومتشابهة العبارات، ويعول القادة على
الترميز المعنوي الذي تتضمنه الكلمات، ولعل من أكثر ما يعطي كلمات الرؤية معناها:
أن يشترك الجميع في صياغتها؛ فيتذاكرون عند النظر إليها الظروف التي أنشأتها، وتلك
المشاعر الرائعة التي كانوا عليها حينما اختار زميل لهم الألف واللام في هذه
العبارة، أو اقترح ذاك هذه الكلمة بدلًا من تلك.. إن صناعة الرؤية حدثٌ يجب على
القادة ألا يفوتوا ثمراته بإيكال الأمر إلى مستشار خارجي أو جهة مهنية.
لأن الرؤية تحدد اتجاه السير فإن جزءًا من معنى «التبصر» حاضرٌ فيها، ويدرج
المهنيون على تحليل بيئة المؤسسة في الداخل والخارج ليضعوا اتجاهًا موثوقًا يراعي
الإمكانات ويثير التحديات في الرؤية. ولأنها تُلهم وتكشف المستقبل فإن جزْءًا من
«الاستبصار» حاضرٌ فيها، ولعل هذا الجمع يحل إشكالًا لفظيًّا: أتكتبُ الرؤية بالتاء
المربوطة «رؤية» أم بالألف الممدودة «رؤيا»؟
بطبيعة النسق الذي تقوم عليه العلوم الإدارية فإن الخلاف بين المهنيين حاضرٌ حول:
أنبدأ بكتابة الرؤية أولًا أم الرسالة؟ إن اعتبار الرسالة هويةً ومعنى وجود؛ يعطي
المبرر للبدء بها، على اعتبار أن الرؤية صورة نهائية ترغب المؤسسة في الوصول إليها
وتراها رأي العين، وربما تجاوزتها إلى ما بعدها فتحتاج تجديدها بتجدد همتها
ومواردها، أما الهوية التي تظهر في الرسالة فنادرًا ما تتغير لذا فلنبدأ بالثابت ثم
المتغير. أما المدرسة الأخرى التي تعتبر الرؤية غاية نهائية تنقطع دونها الهمم،
والرسالة هي مهمة المؤسسة وتفاصيل تحقيق هذه الرؤية فإن لأصحابها أن يضعوا الرؤية
ويتبعوها بالرسالة، وفي الأمر سعةٌ كما ترى!
شأن الأرقام أن تقلل من القيم الكامنة في المعاني المجردة؛ بحصر المعاني التي
يمكنها التدفق والانسياب في وعاء رقمي محدود، ولكن: ربما كان التذكير بأرقام محددة
في الرؤية أو ما يطلق عليه المهنيون (تكميم الرؤية
Vision
Quantifying)
دافعًا للوضوح ومحفزًا على السعي المحدد بسقف. للخروج من هذه المعضلة تعمد المؤسسات
حديثًا إلى صياغة رؤية حافزة، خالية من الأرقام، ولكنها تفسرها بنص آخر كله أرقام!
لأن العادة أن يبدأ التخطيط بوضع الرؤية، والطريق بينها وبين ما يساعد على تحقيقها
طويلٌ وتتخلله عمليات كثيرة فإن جزءًا من مهنية المخططين يظهر في كمال الاتساق بين
الرؤية والأنشطة، فضلًا عن الأهداف والمؤشرات، وأحد مكامن تقييم الخطط: إذا قلبنا
الخطة وقرأنها من الأسفل إلى الأعلى فهل سنصل إلى تلك الرؤية؟ هل سنحتاج رؤيةً لكل
مشروع أو وحدة أعمال مثلًا؟
ثمت اتجاه مهني ينحو إلى هذا الأمر، لإعطاء المشروعات والأقسام مزيدًا من الوضوح
والتركيز، وهنا ستحتاج المؤسسة إلى ما يُعرف بالاصطفاف حتى لا تغرد مكونات المؤسسة
خارج السرب، ومن الطرق اليسيرة في ذلك أن تحدد المؤسسة مستفيديها؛ ثم تحدد أيٍ
المستفيدين يخدمهم أي مشروع أو وحدة وتفرد لها رؤية.. فلا بأس!
أخيرًا: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْـمُهْتَدِ
وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17].
:: مجلة البيان العدد 336 شعبان 1436هـ، مايو - يونيو 2015م.