ايها الامريكان .. لاتذهبو بعيدا
عندما
اتخذ جورج بوش قرار غزو العراق أرسل وزير دفاعه دونالد رامسفيلد 150 ألف جندي
أمريكي لتنفيذ خطة الغزو، في تلك الأثناء قدم عدد من الخبراء نصيحة مهمة للبيت
الأبيض: إذا أردتم تحقيق «نصر سريع» فلا بد من حشد 350 ألف جندي على الأقل، لكن
رامسفيلد وديك تشيني نائب الرئيس كانا يرغبان في «نصر بطيء»؛ لأنه في عالم السياسة
يمكن أن يؤدي تحقيق الأهداف بسرعة أكثر من اللازم إلى نتائج سلبية مماثلة لخسارة
عدم تحقيقها.
تدبرت
إدارة بوش - تشيني أمرها جيداً مع الرأي العام الأمريكي وحققت نصراً انتخابياً
لفترة ثانية في عام 2004م، وقبل أن تشارف مدتها في البيت الأبيض على الانتهاء وضعت
خطة الانسحاب من العراق التي ينفذها حالياً باراك أوباما بوتيرة متسارعة حتى أنه
سحب 100 ألف جندي في عشرين شهراً، وما بين النصر «البطيء» الذي حققته إدارة بوش
والانسحاب «السريع» الذي تنفذه إدارة أوباما؛ تتناثر علامات الاستفهام والتعجب حول
القرارات الأمريكية.
علامة
الاستفهام الأولى تتعلق بتوقيت الانسحاب ومعدلاته: لماذا يسحب أوباما 100 ألف في
عام وثلثي العام، ثم يؤخر خمسين ألفاً لمدة عام وثلث آخر، يعني إلى نهاية عام
2011م حيث موعد الانسحاب النهائي؟ ما سبب هذا التدرج غير المنتظم في الانسحاب؟
ولماذا أعلن أوباما في احتفالية دعائية عن انتهاء عملية الحرية في العراق في
النقطة الفاصلة بين: 150 ألف جندي و50 ألف جندي، ولم يؤخر الإعلان إلى إتمام
الانسحاب في العام القادم؟
الفلسفة
التي كانت تعمل بها إدارة بوش هي: ما يمكن إنجازه بمائة جندي يُكلف به خمسون، أما
الفلسفة الديمقراطية التي يعمل بها أوباما، فهي: ما يمكن إنجازه بخمسين جندياً،
لماذا يكلف به مائة؟
وتميل
إدارات الحزب الديمقراطي عادة إلى تحقيق الأهداف من خلال استخدام مقنن للآلة
العسكرية، بخلاف إدارات الحزب الجمهوري؛ لذلك تبذل الديبلوماسية الأمريكية -
مدعومة بالاستخبارات - جهوداً حثيثة لبرمجة الأوضاع السياسية في البلد المستهدف،
وفي مقال سابق أشرنا إلى خطة بايدن المعروفة حول تقسيم العراق، وأن صورة التقسيم
التي ينشدها ليست تحويل العراق - بالضرورة - إلى ثلاث دول منفصلة، بل إنشاء دولة
جديدة ذات إطار مركزي ضعيف يحكم داخله ثلاثة مكونات متصارعة، وكل مكون من هذه
الثلاثة يُفكك بدوره إلى مجموعات متنافسة يصعب أن تتخذ قراراً موحداً أو تتبنى
رؤية واحدة، وبذلك يصبح من العسير على الحكومة المركزية أن تتخذ قراراً سياسياً -
داخليا أو خارجياً - بالكيفية المطلوبة أو في الوقت المناسب، وهذا هو الهدف المنشود:
إنشاء أنظمة حكم عاجزة عن الفعل السياسي.
أرجوكم .. لا تذهبوا بعيداً
تهدف
إدارة أوباما من خلال اتباعها لهذا السيناريو في الترويج لمشروعها الانسحابي من
العراق إلى تحقيق عدة أهداف:
أولاً:
تكوين رؤية مسبقة - بروفة - عما يمكن أن يحدث بعد إتمام الانسحاب النهائي، من خلال
إدخال مصطلح «الانسحاب» بوصفه عاملاً مؤثراً وفعالاً في الحراك السياسي الداخلي في
العراق، وكذلك على التفاعلات الإقليمية، بحيث تعيد الأطراف جميعها صياغة معادلاتها
على ضوء الحدث الجديد المرتقب.
ثانياً:
دعم الموقف الديمقراطي في انتخابات الكونجرس القادمة بإثبات مصداقية الرئيس في
تنفيذ وعوده الانتخابية، خاصة أن السيناريو يتضمن احتفالية أخرى نهاية العام
القادم بإتمام الانسحاب، وهي تحمل توقيتاً مناسباً مع اقتراب موسم انتخابات
الرئاسة الذي يبدأ عام 2012م، يضاف إلى هذه العوامل ما يتعلق بالأزمة المالية وميل
الإدارة الأمريكية إلى تحقيق قدر أكبر من الانكفاء الداخلي.
ثالثاً:
إنعاش الحلفاء داخل العراق وخارجها، والذين سيطالبون الأمريكان بالبقاء ويحذرونهم:
لا تذهبوا بعيداً؛ لأن الأوضاع بحسبهم سوف تعود سيئة كما كانت من قبل - أو أسوأ -
وهذا النداء الاستغاثي للأمريكان بدأ بالفعل مع إتمام الانسحاب الأولي، فقد حذر
رئيس الأركان العراقي بابكر زيباري من أن الخطر الحقيقي سيبدأ بعد عام 2011م فقال:
(المشاكل ستبدأ بعد 2011، وعلى السياسيين إيجاد سبل أخرى لملء الفراغ الحاصل
حينئذ.. إذا سئلت عن الانسحاب، سأجيب السياسيين بأن على الجيش الامريكي البقاء في
العراق لحين بلوغ القوات العراقية مرحلة الجهوزية عام 2020م)، ( بي بي سي
12-8-2010م). هذه القناعة غزت عقول حتى الذين أسقطتهم واشنطن من على كراسيهم وألقت
بهم في السجون، فهذا طارق عزيز وزير الخارجية الأسبق في عهد صدام يقول: إن أمريكا
لو انسحبت سوف تلقي بالعراق إلى الذئاب.
فاصل ونواصل:
يعتقد
كثيرون أن «مسرحية» الانسحاب برمتها تأتي على طريقة «فاصل ونواصل» أو بالمصطلح
السياسي فإن واشنطن تريد تجديد مشروعية وجودها في العراق من خلال تحول بقاء قواتها
إلى مطلب شعبي أو رسمي، وهو ما ألمح إليه بالفعل مسؤولون أمريكيون، فقد أجاب وزير
الدفاع روبرت جيتس أثناء زيارته الأخيرة لبغداد على سؤال لأحد الجنود حول ما إذا
كانت الولايات المتحدة في وارد الاحتفاظ بوجود عسكري في العراق لما بعد 2011، قال
جيتس: إن «مثل هذا المقترح يعود إلى الحكومة العراقية الجديدة.. نحن بالطبع سنكون
مستعدين للنظر في هذا الطلب». ( بي بي سي 1-9-2010م).
بخلاف
ذلك فإن واشنطن لا تحتل العراق بقواتها العسكرية فقط، فهناك جيش من الديبلوماسيين
والعملاء والخبراء، وهؤلاء يحتاجون إلى حماية مكثفة تقدمها شركات أمنية أمريكية من
خلال جيش من المرتزقة، وأعداد هؤلاء اقتربت في بعض الأحيان من عدد جنود الجيش
الأمريكي نفسه، وهم غير مشمولين في أي خطة انسحاب عاجلة أو آجلة، وهؤلاء - واقعاً
- هم الذين يتدخلون في تحريك الأحداث داخل العراق، أما القوات العسكرية فهي مجرد
أداة تنفيذية لمهام عسكرية وقتالية يخطط لها الآخرون.
ماذا
تريد أمريكا من العراق؟
هذا
سؤال يحمل قدراً من المتغيرات أكثر من الثوابت، وربما يكون السؤأل الأكثر دقة هو:
كيف تحدد أمريكا ما تريده من العراق؟
في
الولايات المتحدة تتعدد الجهات المؤثرة في صنع القرار السياسي وفي وضع التصورات
العامة: المجموعات السرية النافذة - الشركات الكبرى - الأحزاب - مؤسسات الدولة:
الرئاسة، الكونجرس، الاستخبارات.. إلخ - مجموعات الضغط - وغيرها.
هذه
الجهات تتفاعل فيما بينها - أو تتصارع - بدءاً من مرحلة وضع الإستراتيجيات والخطوط
العريضة والمقترحات والتوصيات؛ وصولاً إلى تحويلها إلى باقة من القرارات السياسية
التنفيذية، محصلة هذا الصراع أو التفاعل هو ما نراه على أرض الواقع؛ كما في
العراق، وعندما يتخذ الرئيس الأمريكي قراراً بهذا الشأن فإنه يعكس في الحقيقة
محصلة هذه التفاعلات أكثر مما يعبر عن رؤيته الخاصة. وبإضافة عامل الزمن فإن
اقتراب المواسم الانتخابية يؤثر على قرارات البيت الأبيض وتسارع تنفيذها.
يمكن
من خلال استقراء الأداء الأمريكي في العقد الماضي تلمس بعض الملامح الأساسية
الثابتة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهي ملامح تتعلق بالعراق وبغيره من الدول
العربية المجاورة.
الملمح
الأول: قضية التفكيك الداخلي مع إبقاء الإطار الخارجي العام للدولة.
هذه
إستراتيجية لم يعد هناك مجال لإنكارها، حدث ذلك في العراق ويحدث في أفغانستان،
وتجري محاولات لتحقيقه قريباً في السودان، واليمن على القائمة بالإضافة إلى دول
أخرى، هناك جهود قوية تبذل لإطلاق قوى المجتمع كافة باتجاه سلطة الدولة أو
مشروعيتها التاريخية أو عناصر وحدتها وتماسكها، وقد تبدو هذه الجهود لبعض الناس في
بادئ الأمر مجرد حراك سياسي اجتماعي يستهدف تعزيز الحريات أو غير ذلك من الأهداف،
لكنه في واقع الأمر مجرد مرحلة أولية يعقبها مراحل أخرى أشد خطورة، ويدل على ذلك
أن المسؤولين الأمريكيين ينظرون إلى العراق بوصفه النموذج الأكثر مصداقية بين دول
العالم العربي من حيث مستوى الحرية والديمقراطية، كما يقول بول بريمر «المندوب
السامي» الأمريكي السابق في بغداد: «لا يوجد اليوم أي بلد عربي آخر يشجع أو حتى
يتسامح مع هكذا نقاشات كالتي نشهدها في العراق». (من مقال كتبه لإذاعة بي بي سي
27-8-2010م).
تستفيد
أمريكا من الدول المفككة داخلياً بعدة طرق، منها: إضعاف القرار السياسي فيما يتعلق
بالعلاقات الإقليمية والدولية - القضاء على التكتل العربي أو الإسلامي أو الحيلولة
دون أن يلعب دوراً مؤثراً في الصراعات الإقليمية - إيجاد البيئة المناسبة لتقبل
الكيان الصهيوني وسهولة تغلغله، مثال: الأكراد، جنوب السودان - إنشاء علاقات
منفصلة مع الطوائف والأعراق ومجموعات المعارضة داخل الدولة المفككة بعيداً عن
الحكومة المركزية.
الملمح
الثاني: هو العمل على إيجاد تموجات في معادلات التوازن في المنطقة من شأنها أن
تمهد الطريق بين الكيان والدول العربية من ناحية، ومن ناحية أخرى تفسح المجال
لدخول معاد من قبل دولة مثل إيران، يساهم دخولها في توازنات المنطقة في مساعدة
السياسية الأمريكية على نسج خيوطها.
الموقف
الأمريكي من إيران يوحي بالقلق ليس بالنظر إلى نظام ولاية الفقيه الحالي فقط، بل
بافتراض حدوث تغيرات سياسية جذرية في طهران تدفع بنظام علماني أو على الأقل إصلاحي
يبعث من جديد طموحات دور «شرطي المنطقة»، وهو دور يبدو أقرب إلى نظام إصلاحي،
علماني، ديني علماني.. منه بالنسبة لنظام ولاية الفقيه الحالي، ولا غرابة في القول
أنه ربما يكون النظام العلماني - أو الإصلاحي - في إيران أكثر خطراً على المنطقة
من نظام ولاية الفقيه، ليس لأن خطر الأخير يتراجع أو أنه لا يحمل مشروعاً توسعياً،
بل لأن هذا المشروع التوسعي سوف يحظى بدعم غربي إذا تبناه نظام أقل تخففاً في
توجهاته الدينية.
مع
ذلك توجد علامات استفهام عدة حول الأداء الأمريكي في مواجهة المشروع الإيراني،
فأولاً: رد الفعل الأمريكي حول دور طهران في دعم العمليات التي تستهدف الجنود
الأمريكيين يبدو غير متناسب تماماً مقارنة بتعاملها مع ما تفعله دول أخرى معادية
لأمريكا في السياق نفسه، وثانياً: لم تبدر من المسؤولين الأمريكيين أي بادرة تجاه
أنواع الدعم المختلفة التي تقدمها إيران لتنظيم القاعدة، وثالثاً: تصريح إياد
علاوي المفاجئ في حواره مع قناة بي بي سي الفضائية، الذي قال فيه: إن واشنطن تحتاج
إلى حكومة عراقية لا تتصادم مع إيران، وقال: «من الواضح أنهم يدخلون إيران في
حساباتهم»، وأشار إلى أن الولايات المتحدة «لا يملكون خطة واضحة حول العملية
السياسية في العراق، ما عدا أنهم لا يريدون إزعاج القوى الإقليمية». (بي بي سي
16-9-2010م).
طيلة
القرون الثلاثة الماضية تميز الموقف الغربي من إيران بثابت محدد/ الحرص على بقائها
دولة موحدة تحظى باستقرار نسبي. وبنظرة سريعة إلى الخريطة يمكن بسهولة معرفة
السبب، فإيران تقف حاجزاً بين تواصل شقي العالم الإسلامي السني، سواء كان من الشرق
إلى الغرب، أو من الشمال إلى الشرق، ومن المفيد في هذا الصدد الاطلاع على كتاب
(دليل الخليج) الذي ألفه بتكليف من الحكومة البريطانية جون جوردون لوريمر في نهاية
القرن التاسع عشر، فهو يقدم معلومات مهمة عن الموقف البريطاني من إيران، فخلافاً
لدول إسلامية أخرى، لم تبذل بريطانيا أي جهد يذكر لتقسيم إيران رغم مرورها بفترات
تفكك وتدهور في نظامها المركزي، بل إن بريطانيا أهدت إيران مساحات من منطقة
بلوشستان كانت تابعة لباكستان، وفي بعض الفترات تداولت لندن فكرة تقسيم أفغانستان
وضم الجزء الشرقي منها إلى إيران، وهو أمر لم تفعله أي دولة غربية قبلاً ولا بعداً
مع أي دولة إسلامية.
الملمح
الثالث: تنامـــي الجهـــد الاستخباراتي الأمريكي في المنطقة بالتوازي مع الجهد
الديبلوماسي.
لا
مبالغة عندما نقول: إن العلاقات الأمريكية في المنطقة تُدار مخابراتياً
وديبلوماسياً - بالتزامن - على نحو غير مسبوق، وهذا التنامي في دور وكالات الاستخبارات
يفتح المجال واسعاً للحديث عن الاختراقات وتداعياتها في رسم السياسات واتخاذ
القرارات، والاستخبارات الأمريكية لها دور قديم وخبرة واسعة في إذكاء الصراعات
والتوترات في مناطق مختلفة من العالم العربي، ومن المهم هنا التذكير بالقصة التي
رواها لقناة الجزيرة قبل ثلاثة أعوام حسن بيومي مدير إدارة الأمن الخارجي في عهد
الرئيس جعفر نميري، فهي تلقي الضوء على الأسلوب الأمريكي في اللعب على التناقضات
العربية، كشف بيومي أن الأمريكيين كانوا يريدون تمويل حركة جارانج الانفصالية في
الجنوب إبان الثمانينيات، ولكنهم كانوا يحتفظون بعلاقات جيدة مع نظام نميري،
فلجؤوا إلى تشجيع الخرطوم على احتضان ودعم مجموعات متمردة على نظام القذافي،
وشاركوا في تدريبهم وتمويلهم وتجهيزهم بأوراق رسمية سودانية، وعندما حانت لحظة
تهريبهم عبر الحدود إلى داخل ليبيا قامت الاستخبارات الأمريكية بتسريب الخبر إلى
طرابلس، فكانت النتيجة اعتقال هؤلاء بمجرد عبور الحدود، وعندما تكشف للنظام الليبي
دور الخرطوم في دعمهم اتخذ قراراً انتقامياً بدعم جارانج فأنشأ خطاً ساخناً انتقلت
عبره طائرات كثيرة تنقل السلاح إلى الجنوب السوداني. (الجزيرة نت، برنامج: زيارة
خاصة، 19-8-2007م).
الملمح
الرابع: تعمل واشنطن على برمجة الدول التي تحتلها بحيث يظل النظام القائم فيها
مفتقراً إلى الوجود الأمريكي، وذلك من خلال إنشاء معادلة توازن مختلة بين أطراف
الصراع داخلها، يسد خلخلها مؤقتاً الدور الأمريكي.
تنفذ
الولايات المتحدة هذه الإستراتيجية في العراق من خلال تمديد حالة الفراغ السياسي،
وهي نجحت في ذلك بوسائل متعددة كان أبرزها: تفتيت المكونات العراقية إلى أقصى مدى
ممكن، ثم تسعى في ذلك أخيراً عن طريق إعادة توزيع الصلاحيات بين المناصب الرئيسية
في الدولة، وذلك ضمن خطة تشرف عليها الأمم المتحدة بدعم أمريكي، وتستهدف حشد جمع
من الخبراء العراقيين الممثلين للأحزاب ذات الأغلبية بغرض إعادة صياغة مناصب
وهيئات السلطة التنفيذية العراقية، ومن الأفكار المطروحة: تقليص بعض صلاحيات رئيس
الوزراء، ومنح بعض الصلاحيات الجديدة إلى رئيس الجمهورية ونائبه ونائب رئيس الوزراء،
وهذا يعني أن هذه المناصب سوف تحظى بصراعات أشد سخونة إذا توسعت صلاحياتها. (انظر
مقال: العراك السياسي في العراق، كينيث بولاك، مدير مركز سابات لدراسات الشرق
الأوسط، التابع لبروكينجز 30-6-2010م موقع بروكينجز العربي).
هكذا
سوف يجد العرب أنفسهم جالسين في مختلف قضاياهم على طاولة ثلاثية، يجلس على مقعدها
الأيمن: الوسيط الإيراني، وعلى مقعدها الأيسر: الوسيط الأمريكي، وربما تحولت
الطاولة في بعض المراحل المتقدمة إلى ثنائية، بلا حاجة إلى مقعد ثالث.
هل انتصرت أمريكا؟ معايير النصر والهزيمة
مع
رواج مصطلح الانسحاب في وسائل الإعلام بدأ الحديث عن «نصر» حققته المقاومة
العراقية بإجبارها المحتل الأمريكي على الانسحاب، فهل حقاً يمكن تسمية «الانسحاب»
الأمريكي» نصراً للمقاومة؟
لو
لم تكن هناك مقاومة في العراق لما توفرت مسوغات للإبقاء على أعداد ضخمة من القوات
العسكرية، إذن المقاومة في بعض مراحلها تقدم مسوغات البقاء للقوات، وعندما تشتد
وتيرة المقاومة تصبح الخسائر المتزايدة مسوغاً عند بعض الناس لزيادة عدد القوات،
وهو ما فعلته إدارة بوش التي كان ردها على تزايد أعداد قتلاها أنه زادت عدد
قواتها، بينما يتخذها آخرون مسوغاً لتقليلها والانسحاب، وكلا الأمرين حدث في
العراق، وأُذَكِّر هنا بما سبق طرحه من اتباع إدارة بوش سياسة «النصر البطيء».
الأمر
معقد ولا يمكن بحال اختزاله في معايير سطحية تُهمل محركات الأحداث الأخرى
ومسوغاتها بخلاف المقاومة، ونحن نتذكر تصريحات مسؤولين كبار في إدارة الرئيس
السابق جورج بوش عن أهمية الوجود العسكري في العراق لعقود قادمة، وكانت هذه
الإدارة تعرف جيداً كيفية التعامل مع الرأي العام الأمريكي وحمله على تقبل مستوى
الخسارة في حربَي العراق وأفغانستان، في المقابل تبنت إدارة أوباما الاتجاه الآخر
الداعم للانسحاب وجعلت منه عاملاً محفزاً للنجاح في انتخابات الرئاسة الماضية
والكونجرس القادمة.
إذن
لا توجد معايير ثابتة في هذه الحالات، بل كل إدارة لها معاييرها ورؤاها الخاصة
التي تنطلق من مصالحها، وفي بعض الأحيان قد تصل هذه الرؤى إلى حد التطرف يجعلها
تؤيد هجمات مثل ما حدث في سبتمبر؛ لأن من شأنها أن تدفع إلى الأمام مشروعات حيوية
تحتل مكاناً بارزاً في أجندة هذه الإدارة، والقدر المشترك بين الإدارتين يتمثل في
إسقاط نظام صدام حسين، وإقامة نظام بديل يتسم بالهشاشة والولاء للمصالح الأمريكية،
وهذا ما حدث بالفعل.
جردة حساب
وفق
المعايير الحقيقية للنصر والهزيمة يمكن حصاد الآتي من تداعيات الاحتلال الأمريكي:
1-
تحول العرب السّنة إلى رقم هامشي على الساحة السياسية بسبب المحاصصة الطائفية التي
قلصت نفوذهم وقوتهم إلى 25% في أحسن الأحوال، وصار ينطبق عليهم القول: ويُقضى
الأمر حين تغيب تيم
ولا يُستأمرون وهم شهود
2-
فقد العراق قوته الإقليمية التي كانت تلعب دوراً بارزاً في مواجهة إيران شرقاً،
ودعم القضية الفلسطينية غرباً.
3-
أصبح شيعة العراق يتحكمون في رصيد هائل من الاحتياطي النفطي الذي يمكن أن يحولهم
إلى قوة كبرى - اقتصادياً وعسكرياً - في العقود القادمة تهدد الاستقرار في دول
الخليج السنية.
4-
حدثت طفرة بارزة في طموحات وتطلعات التجمعات والأقليات الشيعية في منطقة الخليج
بعد سقوط نظام صدام. فأي نصر يمكن الحديث عنه في هذه الحالة بمجرد انسحاب القوات
الأمريكية، نعم ربما يمكن تلمس النصر في حالة ما إذا كان الانسحاب سيعقبه تسلم
المقاومة للسلطة، أو تعديل نسب المحاصصة، أو عودة هيئة العلماء إلى الوجود بقوة
على الساحة، أو تلاشي المكاسب التي حققها الشيعة على حساب السّنة بذهاب الاحتلال،
لكن عندما لا يحدث أي شيء من ذلك كيف يسوغ وصف الانسحاب بأنه انتصار.
لا
يبدو في الخضم العراقي المتشابك أفضل من المشروع الذي تطرحه هيئة علماء المسلمين
برئاسة الشيخ حارث الضاري، فهو الأكثر شمولية في طرحه دون اتكاء على وسيلة واحدة،
أو المغالاة في إطلاق العبارات الحماسية، فهو يؤكد على دور المقاومة العراقية، في
الوقت نفسه الذي ينفي فيه تحقق انسحاب حقيقي من العراق، وقال الضاري في حواره مع
صحيفة الرياض (17-9-2010م): «أما الحراك السياسي الوطني المناهض للاحتلال والمقاوم
له فأعتقد أنه لم يتأثر بدعاية الانسحاب؛ لأن كل المناهضين للاحتلال العارفين
بسلوكه خلال السنين الماضية يعتقدون أن الاحتلال لا زال موجوداً في العراق وهو لا
يريد الخروج الفعلي الذي يمكن أن يتحرر به هذا البلد الجريح».
تعاني
العقلية العربية التحليلية آفة «الاستغراق في المرحلة» التي تجعلها عاجزة عن رؤية
الصورة الكاملة للأحداث والخطط واللاعبين، ولذلك نجد فريقاً ينظر إلى الانسحاب على
أنه «انتصار»، وآخرين ينظرون إليه على أنه «ورطة» و«مأزق»، فهم يهتفون
بالأمريكيين: لا تذهبوا بعيداً.