هل يوجد فقه دستوري إسلامي؟
لا يمل أعداء الإسلام من اتهام الشريعة بخلوها من الأحكام السياسية، والفقه الدستوري، وشؤون الحكم، والقضاء والإدارة، وقد تلقف هذه التهمة عدد من مثقفي المسلمين، وباتوا يكررونها دون تمحيص أو فحص، ولو أن أحدهم قرأ «في» الشريعة من مصادرها، ونظر في تطبيقات السيرة والخلافة الراشدة، لعلم المنصف أن كثيرًا مما قرأه «عن» الشريعة، في كتابات المستشرقين وطلابهم، لا يعدو كونه محض افتراء، أملاه فقدان الموضوعية، والعداء للإسلام ونبيه، وكتابه وأهله.
ولا عجب أن تصيب هذه الآفة تلامذة الاستشراق ومن يثق بهم؛ ونسأل الله لنا ولهم الهداية، وزوال غشاوة العيون، ووقر الآذان، وران القلوب، وعمه البصائر؛ فالنصوص بينة، والتطبيقات ظاهرة، والدراسات مؤكدة، ولكنك لا تهدي من أحببت! بيد أن الرزء الكبير حين يفوه بهذه المعاني الخاطئة بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي، من مفكرين ومثقفين وحركيين، وهم الذين تربوا في محاضن الهدى، وعرفوا التراث العلمي، والمنهج الشرعي، ونعوذ بالله من الخذلان، والانهزام، والخلود إلى الأرض، والركون إلى ضغط الواقع، وهجوم الشبه الخطافة؛ التي قلما يسلم منها من تعرض لها!
والمكتبة حافلة بدراسات علمية في السياسة الشرعية، ومن أعلاها كعبًا، وأقربها معاصرة، كتاب بعنوان: النظام السياسي الإسلامي مقارنة بالدولة القانونية: دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة، تأليف: أ. د. منير حميد البياتي، الأستاذ في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام في الرياض، وسبق أن عمل أستاذًا للشريعة، وللدراسات العليا، ورئيسًا لقسم الفقه وأصوله، ثم عميدًا لكلية الحقوق، في جامعات عريقة في ماليزيا، والأردن والعراق. ويقع الكتاب في (432) صفحة، ونشرت دار النفائس للنشر والتوزيع الطبعة الثالثة منه عام (1431هـ/2011م).
تتكون الدراسة من آراء الخبراء، ثم تقديم فمقدمة تعريفية بالدولة القانونية، يليها القسم الأول وفيه أربعة أبواب، وفي كل باب فصلان، ثم القسم الثاني وهو الأطول، ويضم ثلاثة أبواب، وفي كل باب فصلان، ثم فصل ختامي مستقل، تتبعه نتائج البحث فقائمة بالمراجع والفهرس.
وأول خبير زكّى هذه الرسالة هو العالم العراقي الراحل أ. د. عبدالكريم زيدان - رحمه الله - بقوله: «ستسد فراغًا وتقدم عونًا للباحثين»، في حين وصفها أ. د. عبدالباقي البكري قائلًا: «وفق المؤلف إلى مدى بعيد في نقل الفقه الدستوري الإسلامي من مصادره المتعددة إلى اللغة الدستورية الحديثة على نحو يسر فهمه والإحاطة علمًا به»، ورأى أنها رسالة مهمة للمختص وغيره؛ لأنها تعين على الإلمام بجانب من المعرفة قد يخفى على الكثيرين، وتتجلى أهميتها عنده فيما يلي:
النهوض بالفقه الدستوري الإسلامي.
إبراز فضل الشريعة في خلق مفهوم الدولة القانونية مما يزيد المسلم اعتزازًا بتراثه.
محاولة موفقة في التنسيق بين النظام الدستوري الإسلامي وبين مقتضيات عصرنا دون تمييع للشريعة.
وقال الباحث في التقديم: أرجو أن أكون قد أسهمت في خدمة هذا الجانب من الفقه الإسلامي، وهو فقه الدولة في الإسلام، والإسهام في نقله من اللغة الاصطلاحية القديمة، ومن مصادره المتناثرة، إلى اللغة الدستورية الحديثة. وبعد معايشة لأكثر من تسع سنوات، أنتج البياتي مادة فريدة في الفقه الدستوري الإسلامي، فضلًا عن المقارنة بالقانون الحديث، ولتميزها أوصت كلية الحقوق بجامعة القاهرة بطباعتها قبل أربعين عامًا.
ومع سعة البحث وعمق مسائله، إلا أن المؤلف أحسن في جمع شتاتها، وعرضها ومناقشتها، بما يجعل استيعابها ميسرًا؛ فلغته يسيرة على غير أهل الاختصاص، وليست تنبو عند المختصين، والموفق من جمع ذين الأمرين. وما أحسن قول المؤلف: كنت دائمًا وراء الشريعة لا أمامها، فالكتابة في الشريعة ليست ككل الكتابات. ولم يشر إلى زمان المناقشة، ومكانها، ونتيجتها، فضلًا عن اسم المشرف عليها والمناقشين، ولعله أغفلها لأنه أجرى على الرسالة إضافات لم تناقش حينها؛ فكان من الإنصاف ألا ينسبها إليهم.
في المقدمة تعريف بالدولة القانونية بأنها تخضع لقواعد ملزمة لها وللمحكومين، وبغير الخضوع للقانون يؤول الحكم إلى القوة المادية وسياسة الاستبداد والطغيان. فالنصوص الدستورية، والتنظيمات التي يضعها البرلمان، والقرارات الإدارية، جميعها على اختلاف درجاتها وقوتها، تكوِّن النظام القانوني للدولة.
وأما مقومات الدولة القانونية، فهي:
وجود الدستور الذي يقيد جميع السلطات.
تدرج القواعد القانونية، فهي ليست في مرتبة واحدة، ففي قمتها القواعد الدستورية، تتلوها التنظيمات العادية، ثم اللوائح الصادرة من السلطات، وهذا التدرج يستلزم خضوع القاعدة الأدنى للقاعدة الأسمى شكلًا وموضوعًا؛ إذ لا يصح أن تتعارض قاعدة دنيا، مع أخرى تعلوها.
خضوع الإدارة للقانون، وإذا لم تخضع الإدارة الحاكمة للقانون؛ فنحن أمام دولة بوليسية أو استبدادية؛ حيث تكون السلطة الإدارية، مطلقة الحرية في أن تتخذ ما تراه من الإجراءات حسب هوى الحاكم.
الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية، وهو الهدف الأساسي من قيام الدولة القانونية.
ولخضوع الدولة للقانون ضمانات، هي:
الفصل بين السلطات؛ فالسلطة تحد السلطة.
تنظيم رقابة قضائية؛ وهي أعلى من الرقابة البرلمانية والإدارية، باعتبار القضاء جهة مستقلة حصينة نافذة الحكم.
تطبيق آليات النظام الديمقراطي من حيث المشاركة الشعبية في الاختيار والمراقبة.
ثم تحدث عن نشأة الدولة القانونية في الحضارات المختلفة، مستعرضًا تاريخها باختصار، وخلص إلى سؤال عن توافر مقومات الدولة القانونية في الإسلام؟ وهل حقق النظام السياسي الإسلامي دولة قانونية؟ وما مقوماتها؟ وضمانات تحقيقها؟ والإجابة عن هذه الأسئلة هي موضوع هذه الرسالة العلمية العميقة.
عنوان القسم الأول: «مقومات الدولة القانونية في الفقه الدستوري الحديث وفي النظام الإسلامي»، وفيه أربعة أبواب، أولها بعنوان: «وجود الدستور»، ففي الدولة القانونية الحديثة، يبدأ تاريخ الدساتير المكتوبة، مع دستور أمريكا الصادر سنة 1787م، المعروف بدستور فيلاديلفيا، ثم الدستور الملكي الفرنسي، الصادر في 3 سبتمبر 1791م، وهو أول دستور فرنسي مكتوب.
وأما في النظام السياسي الإسلامي، فيقرر الباحث ما يبسطه في كتابه من كون نصوص القرآن الكريم، وسنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، والعرف الدستوري في عهد الخلفاء الراشدين؛ قدمت مجتمعة القواعد الدستورية الإسلامية المنظمة للسلطات الحاكمة، والمحددة للإطار القانوني لجميع مؤسسات الدولة الإسلامية ومناصبها.
ومصادر الدستور الإسلامي بعضها أصلي ويشمل الكتاب والسنة، حيث وردت فيهما النصوص التي تستمد منها الأحكام. والبعض الآخر ليس نصوصًا، وإنما مصادر أرشدت إليها النصوص، فهي مصادر «تابعة»، ومن هنا يمكن تسميتها بالمصادر التبعية، مثل الإجماع والقياس، والمصالح المرسلة. واستعرض المؤلف بعض آيات الذكر الحكيم التي تتحدث عن أحكام الإمارة، والقضاء، والحرب، والسلم، والشورى، وتؤكد حقوق الأفراد والأقليات، بل وتنفرد قبل غيرها بحق التكريم الوارد صراحة في القرآن: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. وفي السنة النبوية سوابق دستورية مثل وثيقة المدينة، وترد كثيرًا كلمات خاصة بالحكم، والشورى، والبيعة، والحقوق، وشؤون الحرب، والسلم، والقضاء، والمال.
ثم توقف الباحث الجلد عند المصادر التبعية، وابتدأ بالإجماع؛ وهو اتفاق المجتهدين من الأمة في عصر من العصور على حكم شرعي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلته الدستورية المبكرة الإجماع على وجوب الإمامة، وعلى أن البيعة وسيلة لإسناد السلطة، وعلى حرب المرتدين. ويمكن الإفادة المعاصرة منه بإنشاء مجمع للتشريع الدستوري الإسلامي، على أن يكون مستقلًا عن الحكومات، مهما بالغت في إظهار تقواها أو رفع شعارات تحكيم الشريعة. ومع وجود عقبات أمام انعقاد الإجماع وإنشاء المجمع الدستوري، إلا أن تذليلها ممكن وليس مستحيلًا، وما دام كذلك فينبغي السعي إليه.
والاجتهاد هو المصدر الرابع للفقه الدستوري، وهو مقيد بقواعد الاجتهاد الصحيح، وقوامها أن يستنبط الحكم من دليله، وسواء في ذلك، أتوصل إلى حكم المسألة الدستورية عن طريق القياس أو المصلحة المرسلة أو غيرها من أدلة الأحكام، فالمهم ألا تتدخل إرادة الحاكم الشخصية أو أهواؤه في التشريع الدستوري.
ويرى المؤلف إمكانية صياغة مواد دستورية مستقاة من المصادر الشرعية، ولبعض العلماء مؤلفات عنها، فبعضهم قسمها إلى مسائل أو مواد، ومنهم من انطلق إلى المحافظة على مقصود الشرع بحفظ مقاصده الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ فكل مقصد من هذه المقاصد الخمسة يتسع لإدراج جميع أحكام الشرع.
وتعرض البروفيسور البياتي لتعديل الدستور الإسلامي حيث لم يقف على من بحثه قبله؛ وملخص رأيه أن التعديل كان واردًا بوجود النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت أمثلة للتعديل بالنسخ، أما بعد وفاة الجناب الكريم فيمكن وضع معيار ملخصه: أن الحكم الدستوري القابل للاجتهاد يقبل التعديل باجتهاد أهل العلم والتحقيق، وأما الأحكام الدستورية التي لا تقبل التعديل أبدًا، فهي:
ما كان دليلها قطعي المعنى من القرآن الكريم.
ما كان دليلها ثابت الصحة، قطعي المعنى، من السنة المتواترة، والمشهورة، والآحاد.
ما كان دليلها الإجماع.
ويبحث الباب الثاني: تدرج القواعد القانونية، ويعد هذا المبدأ أساسيًا في الدولة القانونية؛ لأنه يحقق خضوع القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة القانونية الأعلى، فلا تخالفها أو تتعارض معها، فالمخالفة تقود إلى الفوضى. ويجمع الفقهاء وعلماء الأصول على أن القرآن الكريم هو المصدر الأول، والأسمى للأحكام الشرعية، ويقدم في الحجية على غيره، وهو الذي يضفي الشرعية على بقية مصادر الأحكام. وتليه السنة، فالإجماع، ثم الاجتهاد الذي ينبي على هذه المصادر. وهذا التدرج واضح في فهم الصحابة رضي الله عنهم، كما في جواب معاذ للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد بعثه لليمن قاضيًا، وفي كتاب عمر رضي الله عنه إلى القاضي شريح، ووعى علماء الإسلام هذا التدرج، وظهر ذلك جليًا في كتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله.
وعن خضوع الإدارة للقانون يتحدث الباب الثالث، فإذا أصدرت الإدارة قرارًا فبمقتضى القانون، أو اتخذت عملًا ماديًا فتنفيذًا للقانون، وفي هذا الخضوع ضمانة لحماية حقوق الأفراد، وحرياتهم، حتى لا تنهار إذا صارت الإدارة لا تلتزم بقانون. والإدارة في النظام الإسلامي، تخضع في جميع تصرفاتها وشؤونها للقانون الإسلامي، وليس لها أن تتخذ قرارًا، أو تحدث عملًا، إلا بمقتضى الشريعة، وتنفيذًا لأحكامها. وفي النظام الإسلامي ضمانات لخضوع الإدارة للقانون، هي:
التزام نظرية التولية باختيار القوي الأمين.
الرقابة الإدارية؛ فتولية القوي الأمين تمنع الغش غالبًا بيد أنها لا تحول دون الخطأ.
عنوان الباب الرابع: «الاعتراف بالحقوق والحريات»، وهذا يشكل أحد مقومات الدولة القانونية، فالحقوق الاجتماعية غايتها تحقيق العدالة، وحماية الأجراء والضعفاء، وأما الحريات الاقتصادية فتتعلق بمصالح الملاك والأقوياء؛ فالحقوق الاجتماعية جماعية الطابع، أما الحريات الاقتصادية فهي في أصلها فردية. وجاءت الشريعة بحفظ حق كل ذي حق؛ حتى لا تحصل الفوضى بطغيان حقوق الأفراد على حساب سلطة الدولة والجماعة، ولا تهضم الدولة حقوق الأفراد بالاستبداد.
وتتميز الحقوق والحريات في النظام الإسلامي بجملة من الخصائص، هي أنها:
منح إلهية، خالية من الإفراط والتفريط، وتتمتع بالهيبة والقدسية، وغير قابلة للإلغاء والنسخ.
شاملة لكل الحقوق والحريات بأنواعها، وعامة لكل المواطنين دون تمييز.
كاملة ابتداء وغير قابلة للإلغاء، فقد نشأت ضمن أحكام الشريعة المنزلة، ولم تحتج إلى حقب من التطور، وعقود من التضحيات حتى تنتزع كما في النظم السياسية المعاصرة.
ليست مطلقة، فهي مقيدة بعدم الإضرار بمصالح الجماعة؛ فحق الملكية يشترط له إنشاء الملك وتنميته واستهلاكه فيما لا يضر الصالح العام، ولا يخالف أحكام الشريعة. وحرية الرأي أوجبها الإسلام من طريقين هما الشورى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيدها بما يلي:
أن يكون قصد صاحب الرأي بذل النصح الخالص.
أن يكون بيان المسلم لرأيه على أساس العلم والفقه.
مراعاة المعاني الأخلاقية.
عدم الردة عن الإسلام.
وبحث المؤلف قائمة الحقوق والحريات في النظام الإسلامي، وهي: الحريات الشخصية، حريات الفكر، حريات التجمع، الحريات الاقتصادية. فالحريات الشخصية تمثل مركز الدائرة بالنسبة إلى جميع الحريات الأخرى، وفرع بعض علماء القانون الدستوري الحرية الشخصية إلى: حق التكريم وهو أساس للحقوق الاجتماعية، وحرية التنقل، وحق الأمن، وحرمة المسكن، وسرية المراسلات.
ثم أسندها إلى أدلة شرعية من القرآن والسنة، وقرر أن الشريعة جعلت هذه الحقوق للمسلم وغيره. والنصوص المقدسة، مع تطبيقات دولة الإسلام الأولى، تؤكد ذلك. وعندما تطرق لحرية الفكر أكد على علو كعب الشريعة فيها، وأن حد الردة فيه حماية للدين، وحفظ لتماسك المجتمع، وعجبًا ممن يستنكره ويتغافل عن الخيانة العظمى التي تعاقب عليها جل الدساتير بالقتل.
واختصر ما بسطه عن حرية التجارة والصناعة، بقوله: صفوة القول إن حرية التجارة والصناعة، ينتظمها أصل وقيدان، فالأصل: حرية التجارة والصناعة، والقيدان هما: الحل الشرعي، وعدم الإضرار بالجماعة. وأما الحقوق الاجتماعية فظهرت متأخرة في النظم الأخرى كرد فعل لمبدأ الحرية الاقتصادية، وبروز التفاوت بين الطبقات المالكة والكادحة، بينما كانت في الشريعة مترافقة مع الحقوق الاقتصادية، ولا غرو فالذي أمر بها هو الحكيم الخبير سبحانه.
فحق التكريم لبني آدم، لا يسمح بافتقاد الإنسان الحاجات الأساسية، التي تمكنه من أدنى درجة من العيش الكريم، ولا يجوز أن يفتقده الفرد، ويتمثل بالطعام والشراب، والملبس والمأوى. وللأفراد حق على الدولة بكفالتهم بما يلي:
العمل الحر الذي يختاره.
تهيئة سبل العمل للقادرين ولو بإقراضهم.
النفقة على من تلزمهم نفقته.
الزكاة إذا كان مستحقًا.
الحق من بيت المال.
يجب على الدولة أن تأخذ من أغنياء البلد ما تسد به حاجات الفقراء إذا لم يفِ بحاجاتهم ما سبق.
وناقش المؤلف الحق في العمل، وما يتفرع عنه من حقوق، من جهة توفير العمل بأجر مناسب، مع تحديد ما يجب للعامل وعليه، وتأمينه ضد الأخطار بحسب قواعد الشريعة المعروفة، من جنس: «لا ضرر ولا ضرار». ودرس حقين للعمال؛ تقررهما الدساتير الحديثة، وهما: حق تكوين النقابات، وحق الإضراب. فخلاصة القول في حق تكوين النقابات، أن أي تجمع دائم أو مؤقت يأخذ حكم القصد منه، وأما الإضراب الجماعي فلا يراه الباحث رعاية للمصلحة العامة، ويقترح الالتجاء إلى القضاء، ولم يتطرق إلى الحكم إذا لم ينصفهم القضاء!
ويتضمن مبدأ المساواة عند فقهاء القانون العام: المساواة أمام القانون، وأمام القضاء، وفي وظائف الدولة، وفي التكاليف والأعباء العامة، والقرآن يقرر المساواة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] ، ويحث على العدل في أكثر من أربعة عشر موضعًا من القرآن، ويأمر بالقسط في أزيد من ستة عشر موضعًا، ويطلبهما معًا في تسع آيات، وليس في القرآن والسنة محاباة لطبقة أو جنس أو لون.
أما غير المسلمين من المواطنين فالأصل أنهم سواء أمام القانون الإسلامي مع المسلمين، إلا فيما يخص العقيدة، أو يتصل بها؛ وذلك من سماحة الإسلام مع هؤلاء، وتقرير لحرية العقيدة الدينية، ومثله المساواة أمام القضاء، فالكل يخضع لطريقة واحدة وحكم مستقى من المصادر ذاتها، وللكافة حق اللجوء إليه.
وبعض الوظائف العامة لا يكلف بها الذمي، لأن طبيعتها تقتضي ألا يكلف بها إلا المسلم، فالإسلام من شروط تقليدها: كالخلافة، والإمارة على الجهاد. والمساواة في التكاليف والأعباء العامة، تشمل المساواة في الضرائب، والخدمة العسكرية. وليس في الإسلام ضرائب، وإنما زكاة على المسلم وجزية على غيره، ولهما أحكامهما. أما الخدمة العسكرية، وهي الجهاد في الإسلام، فهي مقصورة على المسلمين؛ لأن غيرهم اكتفي منه بدفع الجزية، ونأى الإسلام عن إجبار أهل الأديان الأخرى على الدفاع عن دين لا يؤمنون به.
ويأتي القسم الثاني من الكتاب بعنوان: «ضمانات تحقيق الدولة القانونية أو تحقيق خضوع الدولة للقانون»، وفيه ثلاثة أبواب، أولها «الفصل بين السلطات»، فإذا اجتمعت وظيفة التنظيم ووظيفة التنفيذ في يد واحدة، فإن التنظيم قد يفقد ضمانته الأساسية في الحياد، ولدرء الاستبداد والطغيان، لابد من إسناد التنظيم، والتنفيذ، والقضاء، لسلطات مختلفة. والهدف من تقسيم السلطات، منع إساءة الاستعمال؛ مع أن في الإسلام قواعد قانونية وخلقية وروحية لو عمل بها الرعاة لما جاروا، فهم مجرد منفذين لشريعة منزلة من عند الله، والسلطة إنما تمنح للقوي الأمين، ويحق للأمة مراقبة المسيء ومحاسبته وخلعه، هذا غير العقاب الأخروي المترتب على المخالفة.
وللسلطة التنظيمية في الإسلام وظائف أولها الاجتهاد، وبيان الأحكام الشرعية في المعاملات والعقوبات، أي كل ما يشمله القانون العام، والقانون الخاص بكل فروعهما، هذا على افتراض كونهم من أهل العلم والمعرفة، ولعل المؤلف يشير إلى سلطة العلماء، وأهل الرأي المفقودة في أيامنا. ومن المتقرر أن أمر الحاكم في المسائل الاجتهادية يحسم الخلاف، بيد أن أمره مقيد بالشريعة غاية ووسيلة، ويرفع الخلاف إذا كان مستمدًا من الكتاب والسنة، ولم يخالفهما.
ويقوم النواب بوظيفة تمثيل الأمة، فهم بمثابة الوكلاء، ونقل المؤلف أدلة على جواز النيابة من القرآن والسنة، والسيرة والإجماع، ومن فكرة الفروض الكفائية، التي يكفي قيام البعض بها، ما كان قيامهم محققًا للغرض. وتختلف تسميات هؤلاء النواب في مدونات الفقه، ما بين أهل الحل والعقد، والاختيار، والاجتهاد؛ ويشترط فيهم: العدالة، والعلم، والرأي والحكمة. والتكييف الشرعي للعلاقة بين الأمة وبين نوابها، هو الوكالة الضمنية إن كانوا من أهل الصلاح والتقوى، ويقترح المؤلف بناء نظام الانتخاب وفق ضوابط شرعية تحرم من لا يستحق تمثيل الأمة من الدخول في مجالسها النيابية.
وأسهب المؤلف في الحديث عن الشورى، وطريقتها وثمارها، وأكد أنها لا تشمل إلا الأمور الاجتهادية، وفصل في مسألة الأخذ برأي الأكثرية، والحكم في حال اختلف رأي الحاكم مع رأي الأكثرية الشورية، مستعرضًا الرأيين المشهورين؛ إما بوجوب نزول الحاكم على رأيهم، أو بمنحه حق مخالفتهم مع تحمل المسؤولية. وإذا أصرت أكثرية أعضاء مجلس الشورى على عدم الاقتناع برأي الرئيس - معتبرين إياه رأيًا خاطئًا لا يجوز العمل به وليس رأيًا مرجوحًا يسعهم شرعًا النزول عنده - وطلبوا التحكيم في ذلك؛ فينبغي أن يصار إلى التحكيم.
ويرى البياتي أن رأى الحاكم ملزم في المسائل الاجتهادية، إلا في حالين:
إذا اعتقدت الأكثرية، أن رأي الرئيس مصادم للنص لا يجوز العمل به، فيصار إلى التحكيم.
إذا اشترط أهل الحل والعقد ابتداء على الأمير عند نصبه أن ينزل في المسائل الاجتهادية على رأي الأكثرية وقَبِل الشرط. وهذه مسألة لم يرَ أ. د. منير البياتي من بحثها قبله.
ثم تطرق المؤلف للسلطة التنفيذية، وذكر شروط الإمارة، وناقشها بما فيها شرط النسب القرشي، وتحدث عن البيعة وأركانها وشروطها، وطبيعة عقدها وأنه مبني على التراضي والقبول من الطرفين. وناقش نيابة الخليفة، وهل هي نيابة عن الله تعالى، أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن الأمة؛ واختار لتحديد المركز القانوني للخليفة أنه نائب عن الأمة، وللأمة حق العزل؛ لأن من يملك حق التولية يملك حق العزل عند الاعوجاج أو فقدان الأهلية.
وينبني أساس حق الأمة في مساءلة الحاكم على:
أنه وكيل عنها، ويستمد سلطته منها.
أن الأمة هي المخاطبة أصلًا بتنفيذ أحكام الشريعة.
ما أوجبه الشرع لها من حق الشورى.
أن الأمة مسؤولة عن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
أن الحاكم في النظام الإسلامي فرد كبقية الأفراد، لا يكسبه الحكم مزية على غيره.
ويجيز جمهور العلماء خلع الإمام نفسه لقوة دليله، حيث إنه وكيل عن الأمة، وللوكيل عزل نفسه، ولما فعله أبو بكر رضي الله عنه في طلبه الاستعفاء وعدم إنكار الصحابة عليه. أما حكم الشرع في تحديد مدة للرئاسة أو الإمامة، فيباح لأن البيعة عقد يجوز تحديده بمدة، إما أن يموت الحاكم، أو يستقيل، أو تنتهي مدته المتفق عليها، أو تخلعه الأمة لسبب شرعي. أما مسألة ولاية العهد فهي ترشيح لا يتم إلا برضا الأمة وموافقتها، بالبيعة الاختيارية له.
عنوان الباب الثاني: «تنظيم الرقابة القضائية»، فرقابة البرلمان سياسية، يتحكم فيها حزب الأغلبية وتخضع لأهوائه، والرقابة الإدارية تجعل الأفراد تحت رحمة الإدارة، بينما للقضاء الحق في مراقبة دستورية القوانين، وذلك في قضاء الإلغاء، وفي قضاء التضمين، فلا بد لاكتمال خضوع الدولة للقانون، من تنظيم رقابة قضائية على القوانين، وعلى الأعمال الإدارية، بل وحتى على القضاء ذاته. ولذا عرف في الإسلام منصب قاضي القضاة، وقضاء المظالم، وله سلطان على كبار الولاة ورجال الدولة؛ فنظر المظالم نوع من القضاء الممتزج بالقوة والسطوة، ابتكره النظام الإسلامي لكي يبسط سلطان العدل على أصحاب النفوذ، ويخضعهم جميعًا لقانون الشريعة.
واحتوى النظام الإسلامي ضمانات متعددة تكفل قيام السلطة القضائية برقابة فعالة، وهي:
استقلال القضاء ومركز القاضي، فليس للسلطة التنفيذية أي سلطان على القاضي.
شروط القاضي وأسس اختياره، ولو كان القضاة دومًا كما في هذه الشروط لما ظلم أحد.
مرجعية القاضي، حيث يرجع إلى مصادر عليا مستقلة، لا سلطان لبشر عليها.
مسؤولية القاضي، وهي أخروية ودنيوية.
حماية القاضي من العزل إلا لأسباب شرعية، على أن يكون البديل خيرًا منه.
ويبحث الباب الثالث تطبيق النظام الديمقراطي، ويوضح المؤلف عوار مبدأ سيادة الأمة، فمقتضاه أن كل عمل صادر عن إراداتها مطابق للحق والعدل وغير قابل للمناقشة، وهذا يؤدي بالشعب أو بممثليه إلى الاستئثار بالسلطة المطلقة والاستبداد بها، والصواب هو سيادة الشريعة، وإنما للشعب سلطة الحكم بهذه الشريعة، واختيار من يحكمه، ومراقبته، وتقويمه أو عزله، وكل ذلك وفق أسس شرعية بريئة من الهوى. ويرى الباحث أن التشابه في الوسائل بين النظامين - الإسلامي والغربي - تشابه ظاهري لا يعني التماثل أبدًا، فالنظام الإسلامي ينفرد بضمانات لا توجد عند غيره، وهي أحكام المنظومة الثلاثية التي خصص لها المؤلف فصلًا ختاميًا.
تكمن الضمانة الأولى في تقرير مبدأ ثنائية المسؤولية في المجتمع بأكمله، والضمانة الثانية في الصفة الدينية للقانون الإسلامي، والضمانة الثالثة في تفرد الإسلام بامتلاك الأنظمة المصلحة للفرد والجماعة. ويتضمن مبدأ ثنائية المسؤولية: مسؤولية الفرد والسلطة عن تنفيذ القانون الإسلامي، ومسؤوليتهما عن حمل الغير على تنفيذ القانون والخضوع له، وفوق ذلك مسؤوليتهما عن الخروج على أحكام القانون الإسلامي؛ وهي مسؤولية دنيوية أمام القانون الإسلامي نفسه، ومسؤولية أخروية أمام الله تعالى. والضمانة الثانية هي الصفة الدينية للقانون الإسلامي، حيث تنجيه من الهوى والضلال، وتمنحه هيبة وقدسية، وتجعل طاعة المجتمع له بمحض اختيارهم.
أما الضمانة الثالثة فهي وجود الأنظمة الإسلامية المصلحة للفرد، والجماعة، وأشخاص السلطات الحاكمة؛ فالأنظمة العالمية تخلو من أنظمة جوهرية تميز بها النظام الإسلامي، وهي نظام العقيدة، ونظام العبادة، ونظام الأخلاق، ولكل واحد منها آثاره العظيمة على الفرد والمجتمع والدولة. فالعقيدة رادعة عن الخطل، وتعين على الامتناع الذاتي، ونظام العبادة جعل مفهومها يسع الحياة في كل ميادينها، فكل عمل وترك هو عبادة ما دام مرضيًا لله، والأخلاق مرتبطة بالعقيدة، ومهيمنة على جميع الأنشطة، وتطبيقها دين يتعبد به، وتشرع لتنفيذها الوسائل المعينة.
وختم المؤلف كتابه بخلاصة متقنة لنتائج البحث، والحقيقة أن المسلم المؤمن، لا يراوده الشك في صلاحية الشريعة المنزلة للحكم، وبأكثر من طريقة، فنصوص الوحيين، وتطبيقات الخلافة الراشدة، واجتهادات العماء الموقعين عن رب العالمين، كفيلة بحل أي معضلة قد تقع. وإن السياسة الشرعية لميدان فسيح رحب للإبداع، وجعل التنظير واقعًا مشاهدًا، وليست المشكلة في غياب النظريات والدراسات، وإنما في خلو الساحة السياسية الإسلامية، من تطبيق صحيح لدين الله، فالعيب في الأنظمة الحاكمة؛ حاشا التشريع، والنقص في رجالات الحكم؛ حاشا النصوص، والعلة في ملابسات وأحوال العالم؛ حاشا مقاصد الشريعة وقواعدها؛ فهي رحبة شاملة مستوعبة؛ ولكن لا عُمَرَ لها.
:: مجلة البيان العدد 333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.