رسائل الأقصى.. متى وإلى مَن تصل؟!
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. وبعد:
فالدلائل تتوالى.. والرسائل
تتابع من الأرض المقدسة ومسجدها الأقصى الذي بارك الله حوله، بأن هذه الأرض وذلك
المسجد قد أوشكا على إدخال أمتنا في حال جديدة لم يكن لها بها سابق عهد؛ حيث ترتسم
في الأفق القريب معالم صدام ديني عالمي بخصوصهما يفجره اليهود، لا على مستوى
الحكومات والجيوش الرسمية فحسب؛ بل على مستويات شعبية هائلة، وغايات زمانية
ومكانية لا يعلم غير الله إلى أين تصل، فربما تمتد مكاناً إلى المشارق والمغارب،
وزماناً حتى تستدعي معها ما تبقى من أشراط الساعة!
حقيقة الأمر أن رسائل الأقصى
تلك ظلت تنبعث منذ تلوثت خير البقاع في الشام بأسوأ المخلوقات البشرية وأشدها
عداوة للذين آمنوا، ولكن ضجيج الأحداث حولها كان يُخفت وقعها ويُخفي واقعها، غير
أن الرسائل الجديدة - ما صدر منها وما لم يصدر بعد - لن تسمح لصوت أن يعلو فوق
صوتها أو يشوش على حقيقتها؛ ذلك أن أحداثاً عظاماً بدت بوادرها، ستكون أرض فلسطين
- بل الشام كلها – هي ساحتها وميدانها، ولعل هذا هو ما لأجله أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم في أحاديث كثيرة بأن الشام ستكون موضع اختيار الأخيار عندما يتعاظم في
الأرض ارتفاع الدخان واشتعال النار، كما أخبرت بذلك نصوص الوحي الكثيرة.
لن نطيل الحديث هنا عن توالي
الوقائع والأحداث في بيت المقدس منذ أن مكن طغاةُ الأرض اليهودَ من الوصول إليه
ووضع أيديهم عليه؛ فأكثر ذلك قد توالى التنبيه لكوارثه والتحذير من مخاطره من داخل
الأرض المقدسة وخارجها، وخلاصة ذلك أن اليهود ما قدموا إلى فلسطين إلا لأجل القدس،
وما أرادوا القدس إلا لهدم المسجد الأقصى وبناء معبدهم الثالث الخاص بهم فوق
أنقاضه، ليكونوا مستعدين لاستقبال مسيحهم المخلص القادم من نسل داود - كما يزعمون –
والذي أكد أهل العلم أنه لن يكون مخلوقاً آخر غير المسيح الدجال!
كثيرون كانوا يظنون أن نسبة
هذه المعتقدات وما يتعلق بها من تفاعلات لليهود هو ضرب من المبالغة، لكن تداعيات
الأحداث في الأرض المقدسة وفي المنطقة حولها في الشهور القليلة الماضية؛ تنبئ بأن
هؤلاء اليهود قد قرروا الدخول في مرحلة جديدة حاسمة، وربما أخيرة من خطط «الحل
النهائي» الذي وُضعت أسسه مع خطة تأسيس الدولة اليهودية ذاتها، وهو يقضي باستكمال
معالم «مملكة داود» - التي يرمز لها بالنجمة على العلم الإسرائيلي - من خلال
الانتهاء من تشييد الهيكل الثالث، الذي قال عنه كل قادتهم بلسان الحال أو المقال
«لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل». والظاهر أنه بقدر
تسارع الأحداث في محيط كيان اليهود يسرعون هم وتيرة السباق لاستباق عقبات قد تعرقل
خططهم تلك لآماد طويلة.
سنرصد هنا أبرز التداعيات والتطورات الأخيرة التي تُرسل من الأرض المقدسة، وهي تخص
مكر اليهود القريب بالمسجد الأقصى، لكن على ألسنة متنفذين فاعلين في الكيان
الصهيوني من أكابر مجرميه الذين يمكرون فيه:
- أوضح الرئيس الأسبق
للكنيست (البرلمان) الصهيوني «أفراهام بورغ» ضمن مقال نشره موقع «نيوز/I24» أن الدولة «الإسرائيلية» مرت بمرحلتين ثوريتين منذ أن بدأت وحتى
الآن، أولاهما: مرحلة التأسيس من عام 1947 وحتى عام 1977، ويمكن أن يطلق عليها:
«مرحلة الدولة»؛ وهي المرحلة التي ترسخت فيها أسس الدولة على دعائم العلمانية
الاشتراكية، ولكن هذه المرحلة العلمانية حولتها مرحلة ثورية ثانية منذ عام 1977
إلى مرحلة دينية، حيث تحولت «إسرائيل» إلى مجتمع ديني قومي رأسمالي، ويمكن أن يطلق
على تلك المرحلة «مرحلة أرض إسرائيل الكاملة». وقال إن «دولة إسرائيل» عندما تدخل
العام السبعين من عمرها - أي بعد أربع سنوات - ستدخل المرحلة الثورية الثالثة، وهي
مرحلة سيطرة الدين على الجميع.. إنها مرحلة الهيكل الثالث»!
واعتبر رئيس الكنيست
الصهيوني أن ما يحدث في القدس من التصعيد لعمليات الصعود إلى جبل الهيكل (يقصد
ساحات وباحات الأقصى) مع انتشار الدعايات لفرض واقع جديد بتنفيذ المخططات الخاصة
ببناء الهيكل في أقرب فرصة على أنقاضه، يمثل استباقاً باكراً لدخول تلك المرحلة،
وقال: «الهيكل يمثل شوقاً أبدياً لليهود حتى نهاية العالم».
وأضاف: «جيل الأجداد كانوا يحلمون بالاستقلال، وجيل الآباء كانوا يفكرون في بناء
الهيكل، أما جيل الأبناء فهم يريدون استقبال المسيح»!
وقد كشف هذا المسؤول -
اللامسؤول - عن أمر خطير ما كنا نظن أن يهودياً يبوح به علانية، إذ بين في مقاله
أن العالم المسيحي وشبه المسيحي لم يدخلوا الصراع ضد دولة الخلافة في تركيا إلا
بهدف الوصول لإنشاء مملكة الرب التي لن تكتمل إلا ببناء الهيكل!
لم نسمع أحداً يقول عن هذا
الكلام الصادر عن أعلى مستويات المسؤولية السياسية في دولة اليهود أن هذا إدخال
للدين في السياسة.. ولا أن هذا حكم وتحاكم إلى شريعة وضعت لزمان مضى عليه أكثر من
ثلاثة آلاف عام.. ولا أن هذا إقحام للدين في شؤون سياسية داخلية لها تأثير خطير في
أوضاع إقليمية وعالمية! لكن الذي نسمعه ونراه فقط أن هؤلاء اليهود يتمادون في
عتوهم وعلوهم اعتماداً على ما هم مقتنعون به؛ من أن رسائل الأقصى لم يعد يسمعها
أحد، لأن الأقصى نفسه ربما لا يهتم بشأنه أحد! وهذه معاني ما بين السطور في
التصريحات التالية:
- قال الحاخام الأكبر لجيش
الاحتلال الإسرائيلي «رافي بيريتس» في تصريحات أذيعت في 28/11/2004 معلقاً على
مواقف المسلمين الدالة على الاستهانة بقيمة القدس والأقصى بزعمه: «لا توجد أهمية
دينية للمسجد الأقصى عند المسلمين، والقدس ليست مذكورة في قرآنهم، و90% من العرب
لا يعرفون المكتوب داخل القرآن.. نحن نعرف عن القرآن أكثر منهم»! وأردف قائلاً:
«ماذا يريد المسلمون أن يفعلوا في هيكلنا وهم لا يستقبلونه في صلاتهم»!
أما الحاخام اليهودي
الأمريكي والزعيم الروحي لأكبر مجموعة يهودية أرثوذكسية في أمريكا «ستيفن
بروزانسكي» فقد صدرت له تصريحات نشرت في 27/11/2004 نصح فيها المسلمين - إن كانوا
لا يزالون يريدون الأقصى أن ينقلوا بقاياه إلى السعودية، وطالب بترحيل فلسطيني
الداخل إلى خارج «إسرائيل».. واقترح منع صلاة المسلمين في المسجد الأقصى - وهذا ما
نفذ فعلاً - وطالب بهدم أي بلدة أو قرية فلسطينية يخرج منها منفذو عمليات عدائية
ضد اليهود، وترحيل سكانها، وإعدام جميع منفذي تلك العمليات حرقاً، ودفن رمادهم مع
جثث الخنازير!
ويزيد من أجواء هذا السعار
التوراتي المحرف والمخرف معاً، ما يدور داخل الكيان العدو من سجال حاد وجاد حول
المشروع المعد بإعلان «إسرائيل» دولة يهودية في القانون المحلي، ومن ثم الدولي!
فماذا تعني يهودية الدولة؟! وهل تلك الدولة التي تسمت باسم نبي (إسرائيل) وهو اسم
يعقوب عليه السلام.. وعلمها يشير إلى اسم نبي (نجمة داود).. وخطاه الأزرقان يشيران
إلى أرض النيل والفرات التي تحدث بوراثتهما نبي (وعد إبراهيم).. وشعارها الرسمي
يشير قدس الأقداس في معبد هو غاية أماني اليهود ومنسوب لنبي (هيكل سليمان)..
ودستورها - غير المكتوب - الذي ليس لها دستور غيره والمنسوب إلى نبي (توراة
موسى).. بل إن كل انتظارها، وغاية ما ترجوه من انتصارها هو الوصول إلى زمن حفيد
نبي هو (ابن داود) الذي يسمون مملكتهم المزعومة الموهومة باسمه (مملكة داود) أو
(ابن داود) الذي هو ملكهم المزعوم المنتظر الذي سيخرج لاستقباله سبعون ألف يهودي
من يهود أصبهان الواقعة بإيران!
ما المعنى الغائب عملياً للدين إذن في دولة الأعداء هؤلاء؛ حتى يطالبون اليوم
العالم عموماً والعرب خصوصاً والفلسطينيين بوجه أخص بالاعتراف بـ«إسرائيل» دولة
يهودية عاصمتها الأبدية القدس؟!
«نتنياهو» الذي يكرس كل جهده
لجعل مشروع «الدولة اليهودية» أمراً واقعاً ومعترفاً به داخلياً وإقليمياً
وعالمياً، يسير على الخطى التي رسمها من سبقوه من عتاة زعماء الصهاينة حيث تسابق
الجميع لجعل تلك الدولة أمراً واقعاً، فقد طالب بإصدار هذا القانون «أرئيل شارون»
سنة 2003 وسانده بكل قوة جورج بوش الابن، وأكمل «إيهود أولمرت» جهود شارون سنة
2007 وأيده على ذلك «باراك أوباما» في خطابه أمام الكونغرس عام 2008 وخطابه أمام
الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2010.
فماذا سيترتب على إصدار ذلك القانون الذي طرحه «نتنياهو» للنقاش الأخير في 31
ديسمبر 2014، حيث أقرته حكومته فعلياً في ذلك اليوم بأغلبية 14 صوتاً من مجموع 20
صوتاً؟
إنهم يريدون معنى جديداً..
أو بالأحرى معاني ومباني جديدة لن يكتمل صرحهم الممرد بالتمرد إلا بعد تحقيقها
وتطبيقها، وتتلخص فيما يلي:
أن الشريعة اليهودية ستكون
لها السيادة على القوانين كلها، وستكون اليهودية سمة الدولة بدلاً من الديمقراطية،
فالتعريف الجديد لها هو: «دولة قومية للشعب اليهودي»، بعد أن كان التعريف «دولة
يهودية ديمقراطية»؛ فالدولة ستتحول إلى دينية وليست علمانية (مدنية)، ونزع وصف
الديمقراطية سيجعل العنصرية اليهودية معياراً للصواب والخطأ دون التفات لمعاني
التعددية والاعتراف بالآخر وغير ذلك من قيم الليبرالية.
أنه لا مجال بعد الاعتراف بالدولة اليهودية لألعوبة «حل الدولتين» التي ظل اليهود
يخدعون بها العرب عبر عقود مفاوضات الاستسلام، وإنما هي دولة واحدة لشعب واحد هم
اليهود، أينما كانوا ووقتما جاؤوا من أصقاع العالم.. حيث لهم وحدهم «حق العودة»
لأرض الميعاد!
أما «حق العودة» للفلسطينيين
اللاجئين والمهجرين من أراضيهم منذ عام 1984 وعام 1967 فلا مجال للحديث عنه، ومن
بقي منهم في تلك الأراضي من عرب الداخل فليس أمامهم إلا التهجير والطرد باعتبارهم
وفق القانون الجديد من الأغراب، أو الازدراء والإذلال باعتبارهم أقلية من الأعراب!
تمثيليات «عمليات السلام» لن
يكون لها محل من الإعراب فيما بعد، لأن اليهود جعلوا اعتراف الفلسطينيين بيهودية
الدولة شرطاً يسبق أي اعتراف بحق من حقوقهم، وكأنهم يقولون لهم: دعونا نقتلكم
أولاً، ثم نوفر لكم سبل الحياة!
الاعتراف بهذا القانون سيكون
اعترافاً ضمنياً بواقع جديد يتحول به الصراع في المنطقة إلى حرب دينية صريحة، فما
كان يسمى بـ«الصراع العربي الإسرائيلي»، والذي اختصر وابتسر في وصف «النزاع
الفلسطيني الإسرائيلي» لن يكون جديراً بعد ذلك - بسبب تجبر اليهود - إلا بوصف
«الصدام الإسلامي اليهودي»، وأن الأفق الزماني لذلك الصراع سيمتد إلى المعنى
الأوسع لما تعنيه «الدولة اليهودية» كما حددها مؤسسوها «من النيل إلى الفرات».
ويريد اليهود بذلك القانون
ضمان كامل حق التملك والتصرف في سائر الأراضي المقامة عليها الأماكن المقدسة، وعلى
رأسها المسجد الأقصى، لأنها ستكون ضمن أرض «الدولة اليهودية» التي لها سائر
السيادة الدينية على أملاكها المعترف لها بها؛ ولذلك فإن قانوناً آخر طرح على
الكنيست الإسرائيلي يوطئ للاستيلاء على الأقصى بدعوى تقسيمه زمانياً ومكانياً بين
اليهود والمسلمين، والغرض السيطرة عليه.
وهذا الأمر الأخير على وجه
الخصوص هو بيت القصيد في مؤامرة نتنياهو الأخيرة، وغرضه الأبعد من الإصرار على
استصدار قانون «يهودية الدولة»، ولأجل وضعه موضع التنفيذ؛ جرت ولا تزال تجري خطة
الانتهاء من تهويد القدس بالكامل بحلول العام 2020، وهو العام الذي يؤكد أكثر
المراقبين أنه سيكون عام بناء الهيكل الثالث!
فهل سيكون بناؤهم فوق بنائنا.. بمعنى أن دينهم فوق ديننا، وتوراتهم فوق قرآننا؟!
هذا - يا أقصانا - ما دونه الرقاب.. وأهون علينا منه ما تحت التراب!
رسائلك قد تضل طريقها إلى
بعض المسامع، ولكنها حتما ستصل في وقتها في صبح قريب.. «أليس الصبح بقريب»؟! بلى
والله.. وتراه القلوب.
:: مجلة البيان العدد 331 ربيع الأول 1436هـ، يناير
2015م.