العصف المأكول
مِنَ المسلَّم به أن
العمل العسكري «الإسرائيلي» تجاه قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية، على سلَّم
أولويات الكيان الصهيوني، وهو ما جعل من احتمالية شنّ عدوان «إسرائيلي» أمراً
وارداً وبقوة، بغض النظر عن الأهداف المعلنة أو غير المعلنة، وهو أيضاً ما يستلزم
من الطرف المقابل (المقاومة الفلسطينية) تجهيز نفسه فنياً وعسكرياً.
في منتصف الشهر الماضي
تحدث الاحتلال الصهيوني عما وصفه بعض المحللين السياسيين بـ «مسرحية» اختطاف
المستوطنين الثلاثة في مدينة خليل الرحمن، وهم بالمناسبة جنود، وهناك صور تثبت
هذا، وذلك في خطوة منه لتوجيه ضربة عسكرية موجعة للمقاومة الفلسطينية، خاصة حركة
حماس، حيث قام باعتقال أكثر من 600 شخص في الضفة الغربية، كما اغتال عدداً لا بأس
به من المجاهدين والأطفال والنساء.
وذكرت وسائل الإعلام
الصهيوني بخصوص الجنود الثلاثة، أنهم تعرضوا للاختطاف ثم القتل على يد عناصر من
كتائب القسام، لكن وسائل إعلام أخرى سرَّبت أخباراً مفادها بأن الجنود تعرضوا
لحادث سير بواسطة شاحنة أثناء مرورهم على أحد الطرق السريعة المؤدية إلى «تل
أبيب». وعلى أيَّ حال؛ لم يفصح «الكيان الصهيوني» عن أي معلومة دقيقة وذات مصداقية
بخصوصهم؛ كنتائج التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية، أو نتائج الفحوص الطبية
والطب الشرعي، وهو ما يشير إلى أنها «مسرحية» مفبركة الفصول من أجل القيام بعمل
عسكري ضد المقاومة الفلسطينية، مع عدم إغفال فضل المقاومة في نشاطاتها المختلفة بالأراضي
الفلسطينية.
منذ اللحظات الأولى أدركت
المقاومة تداعيات هذه المؤامرة، فتقاطعت غالبية تصريحات قادة المقاومة في أن
الاحتلال الصهيوني يجهّز نفسه لعملية عسكرية ضد المقاومة وحركة حماس، أو عدوان
غاشم ضد غزة، ومن ثم قامت الفصائل بتشكيل غرفة عمليات مشتركة من أجل إدارة
المعركة، ومن الإنصاف القول: إن المقاومة لم تتوقف عند تجهيز نفسها وبناء قدراتها
منذ اللحظات الأولى لانتهاء العدوان الإسرائيلي السابق يوم 21 نوفمبر 2012م.
قدرات المقاومة
وإمكانياتها
لقد استفادت المقاومة من
إخفاقاتها ومن ملاحظات الخبراء حول العدوان السابق 2012 أو الأسبق 2008-2009م،
فشهدت تطورات كميّة ونوعية وتكنولوجية فائقة، تتمثل في إعداد وتصنيع الصواريخ
بعيدة المدى، والتنويع في استخدامها في العدوان، فضلاً عن التنويع في العمل
العسكري المقاوم من إطلاق صواريخ إلى اقتحامات.. ووعدت حماس بأن يحمل العدوان الحالي
على غزة مفاجآت كثيرة، وبالفعل كان ذلك، فتمثلت هذه المفاجآت في إظهار صاروخ آر
160، وصاروخ جي 80، فضلاً عن ظهور أنشطة عسكرية لوحدة الضفادع البشرية. وفيما يلي
نظرة سريعة حول هذا التطور:
صاروخ غراد، وهو صاروخ
مستورد متوسط المدى يصل مداه إلى 48 كم، قامت المقاومة بتصنيعه محلياً بعد إحكام
الحصار على غزة وهدم الأنفاق الموجودة على طول الشريط الحدودي مع مصر في ضوء حكم
المؤسسة العسكرية لمصر بعد أحداث 30 يونيو 2013م. ولقد استطاعت المقاومة قصف
غالبية نواحي الغلاف المحيط بغزة بهذا الصاروخ. كما استخدمت صواريخ قصيرة المدى،
مثل: «قسام» التابع لكتائب القسام، و«قدس» التابعة، وهي صواريخ لا تتجاوز 17 كم،
استخدمتها المقاومة في العدوان السابق على غزة.
أما صاروخ M75،
فهو صاروخ متوسط المدى يصل مداه إلى 75 كم، وتنبع تسميته تيمّناً بالشهيد الدكتور
إبراهيم المقادمة، الذي اغتالته إسرائيل 8/3/2003م، وكان حينها بمنزلة العقل
المدبر لحركة حماس. لقد ظهر هذا الصاروخ للمرة الأولى أثناء العدوان السابق على
غزة، وكان بمنزلة المفاجأة الوحيدة لإسرائيل أثناء العدوان السابق؛ لأن إسرائيل
استطاعت تدمير مخزن صواريخ غراد التابع لسرايا القدس في اليوم الأول والثاني
للعدوان، إذ لم تكن السرايا تمتلك سوى العشرات من هذا الصاروخ؛ لأنه كان قد دخل
غزة حديثاً.
وبجانب هذا الصاروخ هناك
صاروخ آخر يحمل اسم J80 تيمّناً بالشهيد الجعبري، ويصل مداه إلى 80
كم.
أما سرايا القدس فقد
استطاعت تصنيع صاروخ متوسط المدى يصل مداه إلى 70 كم ويحمل اسم (براق).
وللمرة الأولى تظهر حماس
صاروخ R160 بعيد المدى، وهو صاروخ محلي من إنتاج كتائب القسام وبتكنولوجيا
مستوردة عليها بعض التحسينات، ويصل مداه إلى 160 كيلو متراً، وتأتي تسميته تخليداً
للدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، خليفة الشيخ أحمد ياسين في قيادة حركة حماس، حيث كان
الرنتيسي يردد: «سنزلزلكم في حيفا، في تل أبيب، في صفد، سنضربكم في عكا...»، ومن
ثم تكون حماس قد حققت وعد قائدها حينما ضربت أهم خمس مدن محتلة، وهي: تل أبيب،
حيفا، الخضيرة، بئر السبع، وعسقلان.
ومن المؤكد أن ضرب تل
أبيب يحمل أهمية بالغة، كونها بمنزلة العاصمة بالنسبة لإسرائيل، وتتركز فيها
المؤسسات الحكومية والمقار التجارية والمؤسسات الدولية، كما يقع فيها مطار بن
غوريون.
في آخر ليلة من العدوان
السابق (2012م)، صرَّح الدكتور محمود الزهار، القيادي في حركة حماس: «اليوم نغزوهم
ولا يغزونا»، وهو ما تجسد فعلاً في هذه الأيام، إذ استطاع القسام إرسال مجموعات
كوماندوز (مغاوير أو أصحاب مهام خاصة بالإنزال والبحرية) إلى قاعدة «زكيم»
العسكرية، وتواردت أنباء غير مؤكدة عن سقوط 7 قتلى من الصهاينة، إلا أن الإعلام
الصهيوني نفى، وفي اليوم التالي أرسل القسام مجموعة أخرى إلى نفس المكان. وتواترت
المعلومات حول هذه المجموعات التابعة لوحدة الضفادع البشرية في كتائب القسام، حيث
رفعت هذه المجموعات يافطة مكتوباً عليها (وحدة الضفادع البشرية – كتائب الشهيد عز
الدين القسام)، وفي وقت لاحق تم نشر مقطع فيديو لمجموعة أخرى وهي تصلِّي في البحر،
فضلاً عن مجموعة من الصور لعناصر المجموعة وهم يحملون معدات عسكرية وأسلحة
وتكنولوجيا.
لقد أثار هذا التقدم
مخاوف أطراف كثيرة داخل الكيان الصهيوني، لدرجة أن قيادات الجيش الصهيوني طلبت من
المستوطنين التزام منازلهم خشية أن يكون عناصر وحدة الضفادع البشرية موجودين في
القواعد العسكرية و«المغتصبات». كما عدّ المحللون والخبراء الصهاينة أن هذه
التطورات أربكت حسابات قيادة الاحتلال الصهيوني وجعلتها وكأنها أمام جيش منظَّم
فكراً وممارسةً.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا
التطور الكبير هو من إعداد وتفكير الشهيد أحمد الجعبري قبل استشهاده، حيث نقلت بعض
وسائل الإعلام تصريحاً له مفاده أن القسام على جاهزية لاقتحام مواقع عسكرية
والوصول إلى أهداف قريبة من غزة.
أما فيما يتعلق بعمليات
إطلاق الصواريخ، فقد عمدت المقاومة الفلسطينية، خاصة كتائب القسام، إلى إطلاق
دفعات منظمة بعيداً عن العشوائية أو سوء التخطيط، وهو ما أربك أيضاً القائمين على
عمل القبة الحديدية، ومن ثم صدرت تصريحات عن قيادة الجيش وخبراء عسكريين صهاينة
تقول إن حركة حماس تمتلك أعداداً هائلة من الصواريخ، وهو ما أكَّده من قبل تصريح
الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، حين أشار إلى أن حماس جاهزة لخوض المعركة
أسابيع وأسابيع طويلة، وهذه إشارة إلى مدى جاهزية القسام.
وكان من مظاهر التنظيم في
إطلاق الصواريخ أن قامت المقاومة الفلسطينية بصناعة راجمات صواريخ تخرج من باطن
الأرض بواسطة التحكم عن بُعد وتقوم بإطلاق الصواريخ بشكل موجه، ثم تعود إلى مكانها
مرة أخرى، وهذا الأمر يفسر ندرة ارتقاء شهداء من الأجنحة العسكرية، خاصة حماس.
وتمتلك المقاومة
الفلسطينية صواريخ مضادة للطيران، منها: صاروخ 107 الذي استخدمته كتائب القسام
مستهدفة طائرة حربية من دون طيار (طائرة استطلاع) وتم إسقاطها في عرض البحر يوم
(10/7)، وإسقاط طائرة استطلاع أخرى في اليوم التالي، وطائرة ثالثة يوم (12/7)، هذا
إلى جانب استهداف طائرة أباتشي وإحداث بعض الأضرار فيها، لكن الاحتلال الصهيوني لم
يعترف بذلك.
كما تمتلك المقاومة
صواريخ مضادة للدبابات، منها: صاروخ «كورنيت»، وهو صاروخ روسي الصنع وموجه
بالليزر، ويصل مداه إلى 5500 متر في النهار، و3300 متر بالليل، وتم استخدامه في
ضرب جيب عسكري مصفح أثناء العدوان، وأودى بحياة اثنين من الإسرائيليين وإصابة عدد
آخر.
حيثيات
العدوان في
صالح المقاومة
لقد أراد رئيس وزراء
الاحتلال الصهيوني إفشال المصالحة الفلسطينية، فكان نتنياهو يقول للرئيس محمود
عباس: «أنت رئيس رام الله فقط دون غزة»، وعندما تمَّت المصالحة أصبح يقول: «أوقف
المصالحة مع حماس وسنعود للمفاوضات من أجل التوصل إلى حل سلمي».
فأخطأ الاحتلال الصهيوني
في اختيار زمن العدوان، إذ يأتي هذا العدوان في فصل الصيف على عكس ما فعل من قبل،
ومن المؤكد أن اختيار العدوان في مثل هذا الوقت يعني فشله؛ وذلك لأن المواطن
الصهيوني لا يسمح بأن يقبع في الملاجئ في ظل انقطاع التيار الكهربائي وحرارة الجو،
كما أن هذه الأوقات هي موسم السياحة الخارجية والداخلية والاستجمام داخل الكيان
الصهيوني، ومن ثم فإن العدوان يعني ضرب الاقتصاد الصهيوني، ولقد تداركت المقاومة
هذا الأمر فقامت بضرب تل أبيب وحيفا وغيرها من المدن السياحية.
كما أصبحت المقاومة
الفلسطينية جاهزة بشكل أكبر من أي وقت مضى، وهو ما جعلها تنتظر أي وقت لإعلان
العدوان حتى تلقِّن الاحتلال درساً لا ينساه.
ولم يراجع الاحتلال
الصهيوني قدراته الأمنية والاستخباراتية بشكل جيد، إذ شنّ هذا العدوان في ضوء
«توبة» كثير من عملائه والمتخابرين معه وتسليم أنفسهم للحكومة الفلسطينية والأجهزة
الأمنية، وفي ضوء مراقبة ورصد كتائب القسام والأجنحة العسكرية العدد الباقي منهم،
كما قامت المقاومة الفلسطينية في غزة بإعدام عددٍ منهم في اليومين الأول والثاني،
وذلك على غرار ما فعلت في العدوان السابق (2012م)، ومن ثم لم تعد المقاومة
«كالمرآة الشفافة» كما عهدتها أجهزة مخابرات الاحتلال الصهيوني من قبل. ومن هنا
يمكن القول: إن الاحتلال الصهيوني فشل أمنياً واستخباراتياً في هذا العدوان.
ولم يحسن الاحتلال
الصهيوني استخدام وسائل الإعلام، على عكس المقاومة الفلسطينية التي أعدَّت نفسها
مسبقاً وجهزت الخطط الإعلامية البديلة (الطوارئ)، وأرسلت توجيهاتها إلى الشعب،
خاصة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، كما أحسنت في استخدام الإعلام المُقاوم من
خلال عرض المواد الإعلامية التي تناولت بعض قدرات المقاومة، مثل: تصنيع الصواريخ،
والغوص في البحر، وعمليات تمشيط الأراضي الزراعية. وفي هذا السياق استطاعت
المقاومة إرسال رسائل (إس إم إس) على الهواتف المحمولة للصهاينة، وجاء في إحداها:
«هناك أسود جائعة تحوم في أماكن تواجدكم وتريد أكل لحومكم»، فضلاً عن إرسال بعض
الرسائل المعنوية بأسماء الصحف العبرية، وهو ما يعني أن المقاومة نجحت بصورة أو
بأخرى في الحرب النفسية تجاه العدو.
وجدير بالقول إن المقاومة
الفلسطينية تمتلك مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة،
فضلاً عن امتلاك عشرات مواقع الإنترنت، ولها نشاط واسع على واقع التواصل الاجتماعي
من خلال المجموعات والصفحات.
التضامن
الشعبي مع
المقاومة
وما يلفت الانتباه أن
غالبية من هدم الاحتلال الصهيوني بيوتهم قد صرَّحوا لوسائل الإعلام المختلفة بأنهم
متضامنون مع المقاومة، وأن أملاكهم فداء للمقاومة والوطن، وهو ما يجسد حجم التضامن
الجماهيري والشعبي مع المقاومة الفلسطينية، كما رصدت وسائل الإعلام حجم التضامن
الشعبي مع أصحاب المنازل المقصوفة أو مع أهالي الشهداء والمقاومين، إذ التفَّ
الشعب حول بعضه.
أما عبر مواقع التواصل
الاجتماعي (فيس بوك وتويتر)، فلا تكاد تخلو حسابات الفلسطينيين من الدعاء للمقاومة
ومساندتها ودعمها معنوياً.
ولعل من أجمل منشورات
مواقع التواصل الاجتماعي ما نشره أحد الغزيين بمناسبة اقتراب إعلان نتائج الثانوية
العامة، حيث جاء في منشوره: «عرض خاص من المقاومة الفلسطينية لطلاب الثانوية
العامة، النتيجة عليك والصاروخ علينا، أرسل معدلك واختر المستوطنة ونحن نتكفّل
بالألعاب النارية، 90% فما فوق = تل أبيب، 80-90% = الخضيرة، 70-80% = عسقلان،
60-70% = سيديروت، أما بخصوص العشرة الأوائل فلهم الخيار بين حيفا والجولان».
وهذا
الملصق وإن كان فكاهياً، إلا أنه يحمل مجموعة من الدلالات، أقلها حجم التضامن
الشعبي مع المقاومة، إلى جانب نقل صورة مشرقة مفادها أن نفسيات ومعنويات الشارع
الغزي ما زالت بخير ولم تتأثر بالحرب النفسية التي تخوضها دولة الاحتلال الصهيوني.
:: ملف
خاص بعنوان "غزة تقاوم"
:: مجلة البيان العدد 326 شوّال 1435هـ، أغسطس 2014م.