الوصايا العشر في التعامل مع الحوادث والنوازل
هذه بعض الوصايا التي
أوصي بها نفسي وإخواني المسلمين، لا سيما الدعاة والمجاهدين منهم، وذلك في خضم هذه
الحوادث الكبيرة والنوازل المتسارعة والمتلاحقة التي يشهدها واقعنا اليوم، والتي
هلك فيها من هلك، سواء بيده أو لسانه أو قلمه، إما بغلو وإفراط، وإما بتقصير وتفريط,
وإما بعجلة وطيش؛ صادرة كلها إما عن شهوة وهوى، أو شبهة وتأويل، أو مزيج منهما.
وسوف لن أتعرض في هذه الوصايا لحدث أو نازلة بعينها، ولن أتطرق إلى موقف معين من
فرد أو طائفة؛ وإنما أسوق هنا بعض ما ظهر لي من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى
الله عليه وسلم، وبعض ما استقرأته من مواقف السلف الصالح مع النوازل والحوادث، في
صورة وصايا أحسبها نافعة بإذن الله عز وجل في أي حدث ينزل بالأمة، ليصل بها المسلم
إلى الموقف الحق والرأي السديد، ويَسْلَم من التخبط والشطط والعدوان.
الوصية
الأولى:
اللجوء إلى الله عز وجل
ودعاؤه والتضرع بين يديه وسؤاله الهداية للحق؛ لأنه سبحانه هو وحده الهادي والموفق
للحق والثبات عليه، قال الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وقال عز وجل عن نبيه نوح
عليه السلام مع ابنه: {قَالَ لا عَاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلَّا مَن رَّحِمَ} [هود:
43]، وقال عن دعاء خليله إبراهيم عليه السلام: {قَالَ
لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:
٧٧]، وقال سبحانه عن دعاء نبيه موسى عليه السلام: {إنْ
هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ 155
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا
إلَيْكَ} [الأعراف: 155، 156]. فهذا باب عظيم من
أبواب العصمة من الفتن والانحراف ينبغي على من أراد لنفسه الهداية إلى الحق أن
يسأل ذلك ممن يملكها وحده، وهو الله سبحانه. ولو تأملنا أدعية النبي صلى الله عليه
وسلم، وهو رسول الهداية، لرأينا كثيراً منها في الثبات على الدين والهداية إلى
الحق. وأكتفي بالدعاء العظيم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه في كل
ليلة في استفتاح صلاة التهجد، ألا وهو قوله: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل.
فاطر السموات والأرض. عالم الغيب والشهادة. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[1].
وإذا علم الله عز وجل صدق عبده وتوكله عليه، وفقه للأسباب التي يهديه بها إلى الحق
والسداد، أما إذا نسي العبد هذا الأمر وقلّ دعاؤه وسؤاله لربه عز وجل وأُعجب بنفسه
وبرأيه؛ فإن الله عز وجل يكله إلى نفسه ويتخلى عنه، ومن تخلى الله عز وجل عنه فلا
تسأل عن خيبته وضلاله وخسرانه.
الوصية
الثانية:
الحذر من الهوى
ودخول حظ النفس في تفسير الأحداث والمواقف منها؛ لأن الهوى وحظ النفس يقودان صاحبهما
إلى التعصب والتحزب لهذه الطائفة أو تلك، أو لهذا الموقف أو ذاك، وهذا من ضعف
التجرد لله عز وجل في طلب الحق. ومن هذه صفته فإنه يحرم في الغالب التوفيق
والهداية والسداد. وقد يدخل العبد في أمر حمية لله عز وجل وهو متجرد لا هوى له فيه
فلا يلبث أن يدخل حظ النفس والحمية لها فيفسد عليه قصده فيحرم السداد. وهذا يقتضي
اليقظة الشديدة للنفس ونوازعها وحظوظها. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
(وكذلك الحمية لله والحمية للنفس، فالأولى يثيرها تعظيم الأمر والآمر، والثانية
يثيرها تعظيم النفس والغضب لفوات حظوظها)[2].
وإن مما يتنافى مع التجرد
لله في طلب الحق وتحديد المواقف، التعصب لشخص أو طائفة وتقليدهم وحصر الحق فيهم
وتخطئة أو تضليل من سواهم، وكأن هذا المقلد يدّعي العصمة لمن قلده، وهذا يتنافى مع
منهج أهل السنة والجماعة، الذين شعارهم قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وأسألك
كلمة الحق في الغضب والرضا»[3].
لذا يرفعون شعار (اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال)، وشعار (اقبل الحق ممن
أتى به ولو كان بغيضاً)، ويرفضون وينبذون شعار (من لم يكن معي فهو ضدي). لذا يجب
الحذر من هذه الصفة ومجاهدة النفس في قبول الحق بدليله، ولو خالف هواها، ولو خالف
قول من تحب. فهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع محبته العظيمة لصديق
الأمة الأكبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لما لم يظهر له الحق في قتال المرتدين
في بداية الأمر لم يقلد أبا بكر رضي الله عنه، بل ناظره وناقشه حتى أزال أبو بكر
رضي الله عنه الشبهة عنه وانشرح صدر عمر رضي الله عنه للحق فانقاد له. هذا مع أبي
بكر الصديق التقي النقي المسدد، فكيف بمن دونه ودونه؟ فالحذر الحذر من اتخاذ موقف
من المواقف لأن فلاناً من الناس أو طائفة من الطوائف قالت به، حتى يتبيّن الدليل
الشرعي في صحته من خطئه، ومن ثم قبوله أو رفضه، وما أحسن وصية عمر لأبي موسى
الأشعري رضي الله عنهما في قوله: (ولا يمنعك من قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه
نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطل الحق شيء، وإن
مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)[4].
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن
المعلمي – رحمه الله تعالى – في كتابه النفيس: التنكيل؛ مجموعة من الأسباب التي
توقع في الهوى والتعصب للباطل، أسوقها هنا على وجه الاختصار والتصرف اليسير
لنحذرها ونتوقاها، فمن ذلك:
• أن
يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم اعترافه بأنه كان على باطل، فالإنسان ينشأ
على دين أو مذهب أو رأي يتلقاه من مربيه أو معلمه على أنه الحق، ويكون عليه مدة من
الزمن، ثم إذا تبيّن له أنه باطل شق عليه أن يعترف بذلك، لا سيما إذا كان آباؤه
وأجداده أو شيوخه وزملاؤه على ذلك، فيشق عليه أن يخطئهم، ويرى أن في ذلك استنقاصهم،
وأن نقصهم مستلزم لنقصه.
• أن
يكون قد صار له في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل، فتذهب
تلك الفوائد.
• الكبر
– أعاذنا الله منه –، حيث يكون الإنسان على جهالة أو باطل فيجيء آخر فيبيّن له
الحجة، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص وأن ذلك الرجل هو الذي
هداه. ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الاعتراف بالخطأ إذا كان
الحق تبيّن له ببحثه ونظره، ويشق عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بيّن له.
• الحسد
– أعاذنا الله منه -، وذلك إذا كان غيره هو الذي بيّن له الحق، فيرى أن اعترافه
بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبين بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم في عيون
الناس، فيحسده على ذلك[5].
والمقصود الحذر من هذه
الآفات، وإن وجودها يدل على الهوى وعدم التجرد والإخلاص لله تعالى.
وأختم هذه الوصية بوصية
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، حيث يقول: (لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق
هواه ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق وتعاقب على
ما تركته منه، لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين)[6].
الوصية
الثالثة:
حُسن الظن بالله عز وجل
وأنه سبحانه حكيم لطيف عدل في قضائه وقدره، وأن رحمته في قضائه للمسلم قد سبقت
غضبه. ومن ذلك ما قدره سبحانه على الأمة من نوازل وحوادث، حيث إنها مقتضى أسمائه
الحسنى وصفاته العلى، وله الحكمة البالغة في ذلك.
وتأتي أهمية هذه الوصية
في أثرها على اطمئنان القلوب ورد الوساوس الشيطانية التي تبث اليأس والإحباط
والشبهات في النفوس، واليقين بأن العاقبة للمتقين.
الوصية
الرابعة:
ضرورة العلم بالشرع
والبصيرة في الدين والوعي بالواقع وأثر ذلك في معرفة الحق والسداد في المواقف،
فبالعلم تزول الشبهات التي تغطي على الحق، وغالب من لم يوفق للحق الجهلة من الناس،
سواء كان هذا الجهل في الدين وأصوله وأحكامه، أو في الواقع وفهمه والوعي بسبيل
المجرمين.
وإن من أهم ما ينبغي
العناية به العلم بالقواعد الشرعية وأدلتها ودورها في فقه الموازنات والتعارضات
التي تظهر عادة في الحوادث والنوازل، وإن إغفال هذا الجانب المهم من العلم الشرعي
هو الذي يوقع في التخبطات والاختلافات. والمقصود هنا بفقه الموازنات فقه قواعد
الترجيح بين المصالح المتعارضة أو المفاسد المتعارضة، أو بين المفاسد والمصالح،
وذلك حين يتعذر الجمع بين مصلحتين متعارضتين أو مفسدتين متعارضتين، أو بين مصلحة
ومفسدة متعارضتين، وهذا العلم موجود في كتب الأصول، فلا بد من العناية بفقه
الموازنات وإعماله وإنزاله في فهم النوازل والمواقف منها. وهذا الفقه لا يتم ويصير
نافعاً إلا بمعرفة الواقع والوعي به وبأحوال الوقائع والنوازل وتفاصيلها؛ لأن
الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وإن إغفال هذا النوع من الفقه وتجاهله يؤدي إلى
تخبط في المواقف وانحراف ومفاسد كثيرة. وفي هديه صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة
من هذا، من ذلك: تركه قتل بعض من أظهر نفاقه كراهة أن يقال إنه يقتل أصحابه، وتركه
إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام لأن قريشاً كانوا في أول
إسلامهم؛ فخشي من الفتنة، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في الغزو وفي
البلاد الحربية؟!
الوصية
الخامسة: التثبت التثبت
إن مما يسهم اليوم في
مجانبة الحق والصواب في المواقف: المسارعة في نقل وتداول الأخبار ونقل الأحداث دون
توثيق وتثبت منها، والتعامل معها كأنها صدق وحق لا ريب فيه، ومن ثم تتخذ المواقف
والأحكام المتسرعة على أساسها، ما ينجم عنه الأحكام والمواقف الجائرة التي قد يندم
صاحبها عليها، لكن حين لا ينفع الندم؛ لأنها قد طارت كل مطير. ويشتد خطر هذه
المواقف وإثمها إذا كانت قد صدرت من متبوع في علم أو دعوة أو جهاد.
وتتأكد أهمية التثبت
والتوثق بصورة أكبر في زماننا اليوم، الذي كثرت فيه وسائل النقل والتواصلات
الاجتماعية السريعة، وتسارع الناس في نشر أي خبر والحكم عليه دون أدنى تثبت منه؛
حرصاً من الناشر على السبق والشهرة في نقل الأخبار، أو حرصاً على إلحاق الأذى
والتهم بخصمه، وفي هذا مخالفة لقوله تعالى: {وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولًا} [الإسراء:
36]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
[الحجرات: ٦]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِـمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94].
فالتثبّت من كل خبر ومن
كل ظاهرة قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم ومنهج الإسلام القويم، ومتى
استقام القلب واللسان على هذا المنهج لم يبقَ مجال للظن والشبهة في عالم المواقف
والأحكام. فكم من مظلوم في دينه وعرضه أو بدنه أو ماله كان سبب ذلك التسرع في نقل
الأخبار وتلقيها دون تثبت وتمحيص. وكم من أواصر قطعت بين الأقارب والإخوان كان
سببها الظنون الكاذبة وتلقي الأخبار والشائعات دون تثبت.
والتثبت المنشود هنا يعني
نوعين من التثبت:
• التثبت
من صحة الخبر المسموع أو المقروء أو المشاهد، والتوثق التام من صحته والاطمئنان
إلى صدقه؛ لأنه قد يتبيّن بعد التثبت أنه كذب مختلق، أو فيه زيادة ونقصان، وعند
ذلك يرفض الخبر ويسلم الإنسان من نقل الأخبار المكذوبة والشائعات، ويسلم من إثم
ذلك.
• إذا
تبيّن صحة الخبر المنقول فلا يسوغ بناء الأحكام والمواقف منه حتى يقف وقفة أخرى من
التثبت، ألا وهي التثبت من خلفيات الخبر والملابسات التي أحاطت به، والظروف التي
عاشها من نقل عنه الخبر، ومحاولة إحسان الظن به؛ لأن في ذلك سلامة من المواقف
والأحكام الجائرة التي يحكم بها على الخبر في حال عدم معرفة ملابسات حصوله؛ لأنه
بمعرفة الملابسات والظروف التي أحاطت بالخبر وتسبّبت في حصوله، يحصل وضع الحكم
والموقف منه في حجمه الطبيعي دون جور أو عدوان، وقد يظهر فيه عذر ومبرر شرعي
لأصحابه.
وهذا النوع من التثبت هو
ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقفه من الأخبار، أو في مواقفه من
الأخطاء التي تنجم عن بعض أصحابه رضي الله عنهم، فقد تكرر في مواقف كثيرة وقبل أن
يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم موقفاً من صاحب الخطأ، أن يقول لصاحب الخطأ: «ما
حملك على ما صنعت».. وهذا تثبت منه صلى الله عليه وسلم من أسباب وملابسات الوقوع
في الأخطاء.
وهذا يشمل الأخبار التي
تنقل عن الأفراد أو الطوائف. وهذا من العدل والإنصاف الذي أمر الله عز وجل به في
أكثر من موطن من كتابه الكريم، قال الله عز وجل: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:
٨]، وقال سبحانه: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وعن عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند
الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم
وأهليهم وما وَلُوا»[7]،
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا»، ومن درر كلام
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والله يحب الكلام بعلم وعدل ويكره الكلام بظلم
وجهل)[8].
الوصية
السادسة: الرفق والحلم والأناة والاستخارة والاستشارة
إن من أخطر الأمور على
المسلم أيام الحوادث والنوازل، عجلته وتسرّعه فيها، وتركه الرفق والأناة، فكم من
الذين تسرعوا وتورطوا في الفتن قد أقروا بندمهم على عجلتهم في أمر كان لهم فيه
أناة؟
قال الرسول صلى الله عليه
وسلم: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة»[9]،
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا
شانه»[10].
والحلم والتأني عواقبهما محمودة والخطأ فيهما أهون بكثير من الخطأ في التسرع والعجلة.
ولا تعني الدعوة إلى الحلم والأناة في المواقف أن لا يكون للمسلم موقف، أو أن تفوت
الفرص النافعة، وإنما المقصود أن يعطي المسلم نفسه وقتاً كافياً يتأمل فيه ويتثبّت
فيه من الأمور، وألا ينفرد برأيه فيها، بل يستشير فيها أهل العلم والحكمة والدين
والتجربة، ويستخير ربه فيما هو قادم عليه؛ لأنه سبحانه هو وحده العالم بمآلات
الأمور وعواقبها؛ ولذلك شرع لنا دعاء الاستخارة، فعن مطرف بن الشخير قال: (من
استفتح باب الرأي من وجهه وأتاه من طريقه، ضمنت له النجاح وتحملت عنه الخطأ. قيل:
ما وجهه وأين طريقه؟ قال: يبدأ بالاستخارة ثم الاستشارة، ولا يشاور إلا عارفاً
حدباً عليه)[11].
فإذا حصل التثبّت
والاستشارة والاستخارة بأنه الموقف الصحيح، أخذ به العبد بتوفيق الله عز وجل بعد
أن استفرغ الجهد في معرفة الحق والصواب. ولو فرض أن الحق لم
يتبيّن للعبد بعد ذلك كله، فليس ملزماً باتخاذ موقف، وإنما المتعينّ عليه في هذه
الحال التوقف واعتزال الأمور وعدم الحكم عليها حتى تنجلي وينشرح الصدر للموقف
الحق، ولن يضر المسلم اعتزاله هذا ولن يؤاخذه سبحانه عن موقفه هذا، ما دام أن قصده
الحق وابتغاء مرضات الله عز وجل واتقاء سخطه.
ومما يدخل في العجلة أمام
النوازل والفتن، التسرع في تطبيق بعض أحاديث الفتن في آخر الزمان على واقعة بعينها
أو شخص بعينه، وبناء على ذلك تتخذ المواقف، ويحصل من ذلك فتن وبلايا، والسلف
علمونا أن أحاديث الفتن لا تنزل على واقع حاضر، وإنما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما
أخبر به من حدوث الفتن بعد وقوعها وانقضائها بعد ظهور أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم لها
وما آلت اليه.
ومن العجلة المذمومة
التسرع في التكفير لمعين من المسلمين لأدنى شبهة لم تستكمل شروط التكفير وانتفاء
موانعه.
الوصية
السابعة: ترك الانشغال بحوادث لم تقع والبحث عن الموقف منها
ومن ذلك كراهية السلف
التعجل في إفتاء الناس في قضايا لم تقع بعد؛ ذلك لأن الوقائع والأحداث تختلف في
وصفها وتصورها قبل الوقوع عنها بعد الوقوع؛ وذلك لما يظهر فيها بعد وقوعها من
الملابسات والأحوال ما لم يكن معروفاً قبل الوقوع. وظهور
هذه الملابسات للمفتي يعينه على تصور الواقعة من جميع جوانبها، ومن ثم الوصول إلى
الصواب في الحكم عليها والموقف منها.
عن عامر الشعبي قال: سئل
عمار رضي الله عنه عن مسألة فقال: كان هذا بعدُ. قالوا: لا. قال: دعونا
حتى يكون. فإذا كان تجشمنا لك[12]. وعن
معاذ بن جبل رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا
تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من
إذا قال وفق أو قال سدد. وإنكم إذا استعجلتم
بالبلية قبل نزولها ذهبت بكم السبل ها هنا وها هنا»[13].
ومن مخاطر ذلك ما ينجم عن
بعض المتحمسين للدعوة والجهاد من افتراض أمور ووقائع لم تقع بعد، ثم يختلفون فيها
وفي الموقف منها لو وقعت، وقد ينتهي الحال بالمختلفين في هذا الأمر الذي لم يقع
إلى الافتراق والهجر، بل التبديع والتكفير، وهذا من عمل الشيطان ونقصان العقل.
الوصية
الثامنة: لزوم الجماعة وتآلف القلوب ونبذ الفرقة
والمقصود بالجماعة: جماعة
أهل السنة والأتباع، قال الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]،
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الجماعة
رحمة والفرقة عذاب»[14].
فالجماعة أصل، ولا يجوز
بحال أن يضيع الأصل للمحافظة على الفرع، كما هو الحال اليوم عند كثير من
المختلفين، حيث تجدهم يختلفون في فرع أو جزئية، فيتسبب هذا في افتراقهم وتخاصمهم،
وهذا من الجهل، وقد يكون من الهوى، ولم يكن هذا هو هدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛
فقد كانوا يحرصون على الجماعة، ومن أجلها كانوا يتركون بعض السنن، فهذا عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه لما أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة بالناس في منى أتم معه
الصلاة مع رأيه أن ذلك خلاف السنة، ولما قيل لعبد الله بن مسعود: عبت
على عثمان ثم صليت أربعاً. قال: الخلاف
شر[15]، وفي ذلك يقول ابن مسعود
رضي الله عنه: (وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في
الفرقة)[16].
ويقول شيخ الإسلام رحمه
الله: (ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة
والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد)[17]،
ويقول أيضاً: (قد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن
بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]،
وكانوا يتناظرون في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة وأخوّة الدين)[18]،
وقال الشافعي رحمه الله ليونس الصدفي: (يا أبا موسى! ألا
يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟).
والمقصود العناية بهذا
الأصل العظيم (أصل الجماعة والائتلاف)،
وذلك في اتخاذ المواقف من الأحداث، وأنه إذا تعارض مع فرع ترك الفرع للحفاظ على
الجماعة وتغليب مصلحة الأمة على المصالح الخاصة، والحذر من الفرقة والاختلاف؛ فهو
من عمل الشيطان، فالفرقة لا تقف عند حد، بل تبدأ باختلاف القلوب وتلوثها بالحقد
والحسد والظنون السيئة، ثم تمر على اللسان فيتكلم بظلم وهوى وجهل بلا علم ولا
تثبّت ولا عدل، وقد تنتهي والعياذ بالله إلى فتنة التكفير والسيف والقتال. والمتتبّع
لحوادث التاريخ الماضي والمعاصر يلمس هذا بكل وضوح، والسعيد لمن جنب الفتن.
وإن مما يعين على جمع
القلوب وتآلفها إحياء صفة التراحم والتغافر بين المسلمين والعمل بقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ
عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]،
وقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]،
فعلينا أن ننمّي وننشر الرحمة بيننا مهما حصل من الخلاف، وعلينا بناء على ذلك أن
نضفي شعور الولاء والمودة والإخاء وحسن الظن.
الوصية
التاسعة: تقوى الله عز وجل والعمل الصالح والإكثار من العبادات
كلما كان العبد متقياً
لله عز وجل، قائماً بالأوامر، تاركاً للنواهي؛ كلما كان أسعد بالموقف الحق عند
النوازل، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]،
ويقول سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢]،
ويقول تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: ٤]،
وقال سبحانه عن نبيه يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ
مِنَ الْـمُسَبِّحِينَ 143لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ
إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144]،
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ
الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»[19].. والآيات
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، حيث يتضح لنا منها أثر العبادة وتقوى الله عز وجل
والعمل الصالح في معرفة الحق وكونها سبباً في توفيق الله عز وجل للعبد وتسديده،
كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]،
وقوله تعالى في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده
التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سئلني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»[20]. وما
أجمل كلام الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: (العبد
متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل، فهو محتاج إلى العون عند الأوامر، وإلى
اللطف عن النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل، فإن
كمّل القيام بالأوامر ظاهراً وباطناً ناله اللطف ظاهراً وباطناً، وإن قام بصورها
دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقلّ نصيبه من اللطف في الباطن. فإن
قلت: وما
اللطف الباطن؟ قيل: هو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة
والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع)[21].
ومن الأعمال الفاضلة التي
يوفق الله العبد بها للحق: كثرة الاستغفار والتوبة
إلى الله عز وجل والإنابة إليه، وكثرة ذكر الله تعالى، يقول ابن القيم رحمه الله: (وشهدت
شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فر منها إلى التوبة
والاستغفار والاستغاثة بالله عز وجل واللجوء إليه واستنزال الصواب من عنده
والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مداً)[22].
الوصية
العاشرة: الحذر من إرجاف المنافقين وتخذليهم
أيام النوازل والفتن
يشرئب النفاق وأهله ويظهرون بقرونهم: {شَيَاطِينَ الإنسِ
وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]،
ويسعون جاهدين لإثارة الوساوس والشبهات والشهوات في مجتمعات المسلمين، مما قد
ينخدع بمكرهم فئام من الناس؛ ولذا وجب على الدعاة وأهل العلم التصدي لهؤلاء
المنافقين، ورد شبهاتهم، وفضحهم، وتحذير الأمة مما يقومون به عند النوازل من إثارة
الخوف والإرجاف والتخذيل والإحباط وبث اليأس في قلوب المسلمين. وهذا
من جهادهم الذي أمر الله عز وجل به رسوله، وأمته تبعٌ له في ذلك: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ} [التحريم: ٩].
:: مجلة البيان العدد 326 شوّال 1435هـ، أغسطس 2014م.
[1] مسلم 770.
[2] الروح 234.
[3]
النسائي 1304، وصححه الألباني.
[4]
إعلام الموقعين 1/86.
[5]
التنكيل 2/180-182.
[6]
شرح العقيدة الطحاوية 1/590.
[7]
أخرجه مسلم 82.
[8]
مجموع الفتاوى 16/96 .
[9]
أبو داود 4810، وصححه الألباني في السلسلة 1794.
[10]
مسلم 2594.
[11]
الفقيه والمتفقه 2/393.
[12]
المطالب العالية 3/106.
[13]
المرجع السابق.
[14]
أخرجه أحمد 4/ 272، وصححه الألباني في السلسلة 667.
[15]
أبو داود (1960)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 726.
[16]
السنة لللآلكائي 1/121.
[17]
الاستقامة 1/31.
[18]
الفتاوى 2/172.
[19]
الترمذي 2518.
[20]
البخاري 6502.
[21]
الفوائد 1/202.
[22]
إعلام الموقعين 4/ 178.