• - الموافق2025/08/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تشريع القسامة وأثره في حفظ الدماء

ويؤكد الإمام مالك أهمية القسامة بقوله: «إنما فرّق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق؛ أن الرجل إذا ديّن الرجل استثبتَ عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة


حفظ النفس البشرية واحدة من المصالح الكلية المعتَبَرة، ثم إن إحياء النفوس وصيانتها أمرٌ جاءت به الشرائع على نحو قاطع؛ قال الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]؛ «أي: من قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية؛ فكأنما قتل الناس جميعًا، لأنه لا فَرْق عنده بين نفس ونفس، (وَمَنْ أَحْيَاهَا) أي: حرَّم قتلها، واعتقد ذلك؛ فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار»[1].

وإنّ سفك الدماء هلاك أيّ هلاك، ودم المؤمن على نحوٍ خاصّ يُعدّ من ورطات الأمور التي لا تَجعل لصاحبها مخرجًا؛ يقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: «إنَّ مِن ورَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتي لا مَخْرَجَ لِمَن أوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا: سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بغيرِ حِلِّهِ».[2]

ومِن ثَمَّ صارت القاعدة المُجمَع عليها ألَّا يُهدَر دمٌ في الإسلام، وألَّا تُقيَّد جريمة ضد مجهول، -كما هو الشأن في التشريعات الوضعية-، بل لا بد من حماية وصيانة النفس الإنسانية بغضّ النظر عن لونها أو جنسها أو معتقدها.

ويبرز فقه القسامة عاملًا مساعدًا في ضبط وقوع الجريمة أو منعها، وتحقيق عدالة ناجزة.

ونستعرض في هذا المقال التعريف بالقسامة، وبيان صورتها، والحكمة منها، ومشروعيتها، والآثار المترتبة عليها.

تعريف القسامة لغةً:

القسامة عند علماء اللغة تَعني القَسَم واليمين، يقال: أقسم بالله أقسامًا، وقولهم: حكم القاضي بالقسامة اسم منه وُضِعَ مَوْضع الأقسام، ثم قيل للذين يقسمون قسامة، وهي أيمان تُقسم على أولياء الدم[3]. وعرفها الجرجاني بأنها «أَيْمان تُقسم على المتّهمين في الدم»[4]. وهي اسم مصدر من أقسم إقسامًا وقسامة، قال الأزهري: «وهم القوم يُقسمون في دَعْواهم على رجل أنه قتل صاحبهم»[5].

وفي المعجم الوسيط: «القسامة هم الجماعة يُقسمون على حقهم، ويأخذونه، وهي بمعنى اليمين بأن يقسم خمسون من أولياء الدم على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يُعرَف قاتله»[6].

وأقسم بالله واستقسمه به وقاسمه (حلف له)، وتقاسم القوم (تحالفوا)، وفي التنزيل: (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ)، وأقسمت: حلفت، وأصله من القسامة، وهم الذين يحلفون على حقّهم ويأخذونه، وقال ابن سيده: «القسامة: الجماعة يُقسمون على الشيء أو يشهدون، ويمين القسامة منسوبة إليهم».[7]

تعريف القسامة اصطلاحًا:

قيل: إنها «أَيْمان مُكرَّرة في دعوى قَتْل معصوم»[8]. وعرَّفها ابن نجيم بأنها «أَيْمان يُقسم بها أهل محلة أو دار وُجِدَ فيها قتيلٌ به أثر؛ يقول كلٍّ منهم: والله ما قتلته، ولا علمتُ له قاتلًا».[9]

 وعرّفها صاحب البدائع بأنها «يمين بالله تعالى بسبب مخصوص وعدد مخصوص، وهو أن يقول خمسون من أهل المحلّة إذا وُجِدَ قتيل فيها: بالله ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلًا؛ فإذا حلفوا يغرمون الدية».[10]

وعرّفها ابن عرفة بقوله: «حلف الولاة (ولاة الدم) خمسين يمينًا أو جزؤها على إثبات الدم، ويحلف ولاة الدم، ويحلف العاصب غير الوارث».[11]

وثمة علاقة متقاربة بين التعريف اللغوي والشرعي؛ لكون القسامة أَيْمانًا مخصوصة، بعدد مخصوص، بصفة مخصوصة، واتخاذ الحالف اللهَ شاهدًا على صدق ما يقول؛ كي تبرأ ساحتهم أنهم ما قتلوا القتيل ولم يشاهدوا مَن قتله، ثم يغرمون الدية؛ حتى لا يُهدَر دمٌ في الإسلام، وليكونوا أكثر يقظةً في عدم تكرار مثل هذه الأحداث.

صفة القسامة وحقيقتها والحكمة منها وصورها

صفة القسامة

هي أن «يوجد قتيل في محلة ما، أو ما في معناها، مما هو ملك لأحد أو في يد أحد».[12]

وحقيقتها أن يُقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يُعرَف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينًا، أو يقسم بها المتهمون على نَفْي القتل عنهم، فإن حلف المدَّعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية.[13]

وقال الأزهري: «وتفسير القسامة في الدم أن يُقتل رجلٌ، فلا يَشْهد على قتل القاتل إياه ببينة عادلة كاملة، فيجيء أولياء المقتول فيدّعون على رجل أنه قتله، ويُدلون بلَوْث من البينة غير كاملة، وذلك بأن يُوجَد المدَّعى عليه متلطخًا بدم القتيل في الحال التي وُجِدَ فيها، ولم يشهد رجل عدل أو امرأة ثقة أن فلانًا قتله، أو يوجد القتيل في دار القاتل وقد كان بينهما عداوة ظاهرة قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات سبق إلى قلب مَن سمعه أن دعوى الأولياء صحيحة، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا أن فلانًا الذي ادعوا قتله انفرد بقتل صاحبهم، فأشرَكه في دمه أحد، فإذا حلفوا خمسين يمينًا استحقوا دية قتيلهم، فإن أبوا أن يحلفوا مع اللَّوْث الذي أدلوا به؛ حلف المدَّعَى عليه وتبرأ ذمته، وإن نكل المدَّعَى عليه عن اليمين خُيِّر ورثة القتيل بين قَتْله وببن أخذ الدية من مال المدَّعَى عليه، وهذا قول الشافعي.[14]

الحكمة من القسامة

 حَقْن الدماء وصيانتها عن الإهدار، وخلاص المتهم بالعدول عن القصاص.[15] وهي تُعدّ طريقًا من طرق إثبات جريمة القتل عند تعذُّر أو عدم اكتمال الطرق الأخرى؛ حتى لا يضيع الدم هدرًا.[16]

ويرى مالك «أن العلة من القسامة هي حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر، وكان يقلّ قيام الشهادة عليه؛ لكون القاتل إنما يتحرَّى بالقتل مواضع الخلوات؛ جعلت هذه السُّنَّة حفظًا للدماء»[17]؛ أي: إن هدف التشريع هنا هو الحيطة التامة لصيانة الدم الإنساني؛ لأن القتل يكثر، ويقلّ قيام الشهادة، ويتحرى فيه القاتل مواضع الخلوات؛ فأُقيمت القسامة حفظًا للدماء، ولذلك فهي عند الإمام الكاساني سبب التقصير في النصرة (أي: التقصير في الواجب المجتمعي)؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع قدرته على ذلك كان مُقصّرًا بترك الحفظ الواجب عليه، فيُؤاخَذ بالتقصير؛ زجرًا عن ذلك، وحملًا على تحصيل الواجب. وهذا من حرص الشريعة على صيانة الدماء، حتى قال الإمام أحمد: «مَن مات من زحام الجمعة أو في الطواف فَدِيَتُه في بيت مال المسلمين»، وهذا الأمر -أي: القسامة- يجعل المجتمع في حالة من اليقظة والجهوزية، فلا يُقصِّر في واجب النصرة لسبب الخوف أو الأنانية والسلبية، فإن ترك النصرة لزمته القسامة؛ صيانةً للدماء، ولو أخذ المجتمع بتشريع القسامة لَما بقي مجرم واحد، لِمَا يشعر من أنه مُحاصَر في كلّ محلة أو قرية، يريد أن يَرتكب جريمته فيها.

في الأخذ بفقه القسامة صيانة للنفوس، وحفظ للحياة لتحمُّل الجميع مسؤوليتهم المجتمعية والأخلاقية، وفي ذلك حماية للكل من الكل. وقد أخرج ابن المنذر من طريق الزهري قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: «إني أريد أن أدع القسامة؛ يأتي رجل من أرض كذا، وآخر من أرض كذا، فيحلفون على ما لا يرون؟ فقلت: إن تتركها يوشك أن الرجل يُقتَل عند بابك فيُطَلّ دَمُه (يُهدَر دمه)، وإن للناس في القسامة لحياة».[18]

ويؤكد الإمام مالك أهمية القسامة بقوله: «إنما فرّق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق؛ أن الرجل إذا ديّن الرجل استثبتَ عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال: فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة وعُمل فيها كما يعمل في الحقوق؛ هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جُعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون بها ليكفّ الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يُؤخَذ في مثل ذلك».[19]

صور القسامة

من صور القسامة أن يُوجَد القتيل في محلة لا يُعلم مَن قتله، فيستحلف منهم خمسون رجلًا يتخيّرهم الولي فيحلفون بالله ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلًا، فإذا حلفوا قضى على أهل المحل بالدية، وإن أبَى واحد منهم حُبِسَ حتى يحلف، وإن لم يكمل أهل المحلة، كُرِّرت الأيمان عليهم حتى يتم خمسين يمينًا. وإن وُجِدَ قتيل في دار إنسان، فالقسامة عليه، والدية على عاقلته، وإن وُجِدَ القتيل في سفينة، فالقسامة على مَن فيها من الرُّكاب والملاحين، وإن وُجِدَ بين قريتين كان على أقربهما، وإن كان مختبئًا بالشاطئ فهو على أقرب القرى من ذلك المكان».[20]

وقيل يختار ولي المقتول خمسين رجلًا يقسمون بالله أنهم ما قتلوه، ولا علموا له قاتلًا. فإن حلفوا سقطت عنهم الدية، وإن أبوا وجبت الدية على أهل البلدة جميعًا، وإن التبس الأمر كانت ديته من بيت مال المسلمين.[21]

والذي يمكن فَهْمه من هذه الصور ما يلي:

1-الدعوى المرفوعة تكون من أولياء القتيل؛ لأن القسامة يمين، واليمين لا تجب بدون دعوى.[22]

«أي لا بد من المطالبة بالقسامة عن طريق شكوى أو دعوى؛ فهي ليست متروكة للسلطة العامة التي تُحرِّك دعوى الجنايات، كما هو الحال في قانون العقوبات المصري؛ لأن اليمين حق المدعي، وحقه يُوفَّى عند طلبه، وإن أبوا وجبت الدية على أهل البلدة جميعًا، وإن التبس الأمر كانت ديته من بيت مال المسلمين».[23]

2-أن يكون الموضع الذي وُجِدَ فيه القتيل مملوكًا لأحد أو هو في يد أحد.

3-إن القسامة تُوجِب الدية لا القصاص.

4-إن القسامة وسيلة ناجحة في مساعدة رجال الضبط؛ إذ يمكن دمجها بقانون الإجراءات الجنائية، فيقلل الأخذ بها من وقوع الجريمة أو التخفيف من آثارها عن طريق تحمُّل الدية؛ لكي لا يَفلت الجاني، وإن أفلت بقي الواجب المجتمعي على كلّ فرد من أفراد المحلة؛ لكي يظلوا في كامل اليقظة والجهوزية في عدم إيواء المجرمين أو التستر على جرائمهم، ولو بطريق الصمت والسكوت السلبي، فضلًا عن أنهم لن يكفوا عن تقديم النصح والإرشاد، وفي هذا غرس للتقوى والخوف من عقاب الله تعالى، ولذلك يحلف أولياء الدم في القسامة، فإذا أبوا عن الحلف ونكلوا (أي: امتنعوا) ينتقل الحلف إلى المتهمين، فإن حلفوا برأت ساحتهم، مع التعزير بضرب مائة وسجن عام، وأما مَن نكل عن الحلف منهم فيُحْبَس حتى يحلف، وإن طال سجنه»[24].

ولعل السر فيما قاله صاحب الإحكام، هو أنهم يُجلدون ويُحبسون لتقصيرهم وتفريطهم في الحق المجتمعي، وقعودهم عن واجب النصرة للقتيل، أما سَجْنهم عند رفضهم الحلف، فربما يكون هذا قرينة بأن لهم يدًا في عملية القتل والتفريط في حق القتيل، حتى ولو كان تفريطًا سلبيًّا بمعرفتهم بوقوع جريمة ما، فيكون نُكولهم بسبب خشية ارتداد أثر الأَيْمان ومُغبّتها عليهم. ولذلك فكلّ واحد فيهم يحلف بالله ما قتله ولا علم له قاتلًا؛ لجواز أن يكون قتله وحده.

موقف الفقهاء من مشروعية القسامة في الفقه الإسلامي:

يوجد في الفقه الإسلامي رأيان في مشروعية القسامة :

الرأي الأول: (مشروعية القسامة)

وهو رأي الجمهور؛ الخلفاء الأربعة، وأئمة المذاهب الأربعة، والظاهرية والزيدية والجعفرية والإباضية، وابن عباس وابن الزبير ومعاوية، وسعيد بن المسيب، والزهري وربيعة، وسفيان وداود، وأبي الزناد والليث والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور.[25]

واستدل هؤلاء بحديث حويصة ومحيصة.

عن بشير بن يسار -رضي الله عنه- قال: انطلق عبد الله بنُ سهل ومُحيّصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صُلْح، فأتى محيصةُ إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحَّط في دمه قتيلًا، فدفنه، ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن يتكلم، فقال: أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: كيف نَحْلف ولم نشهد ولم نَرَ؟ قال: فتُبرئكم يهود بخمسين يمينًا. فقالوا: كيف نَقْبل أَيْمان قوم كفار؟ فعَقَله النبي صلى الله عليه وسلم  من عنده.[26]

 والشاهد من الحديث هو أن النبي صلى الله عليه وسلم  عرض أَيْمان القسامة على المدَّعين، وعرض عليهم قسامة المدَّعى عليهم، في حال امتناعهم عن الحلف، وقد ثبت في هذا الحديث -كما قال ابن بطّال- «تبرئة المدّعين للدم باليمين»[27]. وقال النووي تعليقًا على هذا الحديث: «ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة، والاهتمام بإصلاح ذات البين، وفيه إثبات القسامة، والابتداء بيمين المدَّعي في القسامة، وفيه ردّ اليمين على المدَّعى عليه».[28]

وقد يقول البعض: وما ذنب أهل المحلة أو القرية في أن يدفعوا دية القتيل؟

والجواب: أن ذلك وُضِعَ لحفظ الدماء وصيانة الأرواح من أن تُهدَر ظلمًا، وهم يُعاقبون بتغريم الدية بسبب تفريطهم وتقصيرهم في واجب النصرة والحماية لهذا القتيل الذي وُجِدَ بين ظهرانيهم، وأنهم لم يقوموا بالحيطة والحذر في إيواء الجاني أو التستر عنه، والتغافل عن إجرامه، وعدم الضرب على يديه؛ فوجب في ذمتهم دفع الدية صيانةً للدماء؛ إذ كان الأجدر بهم أن يحموا محلتهم، وكما يقول صاحب اللباب: «وإنما يغرمون الدية إذا كان القاتل منهم؛ لكونهم قتلة تقديرًا؛ حيث لم يأخذوا على يد الظالم، ولأنهم لا يغرمون بمجرد ظهور القتيل ين ظهرانيهم بل بدعوى الولي».[29]

الرأي الثاني: (عدم مشروعية القسامة)

يرى سالم بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن بشار، وقتادة، والبخاري -رضي الله عنهم- عدم مشروعية القسامة، واستدلوا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «لو يُعْطَى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه».[30]

ويرى أصحاب هذا الرأي أن القسامة تخالف الأصول الشرعية؛ إذ كيف يُقسم الإنسان على شيء لم يَعلم به ولم يشاهدوا القتيل، واستدلوا بما رواه أبو قلابة، وفيه أن عمر بن عبد العزيز سأل أبا قلابة عن القسامة؟ فقال له: أرأيت لو أن خمسين رجلًا شهدوا على رجل أنه قتله بأرض كذا وهو عندك، أَقَدْتَ بشهادتهم؟ قال عمر: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانًا قتله فأَقِدْه، ولا يُقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا.[31]

ومن أدلتهم أيضًا: ما رواه البخاري من طريق سعيد بن عبيد عن سهل بن أبي خيثمة، وفيه: «فقال لهم: تأتون بالبينة على مَن قتله؟ قالوا: ما لنا ببينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود»[32]؛ ودلالة الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جعَل للمدّعين البينة كدليل لإثبات الحق، وعلى المدَّعى عليهم الأيمان التي يحلفونها؛ فيكون توجيه الأيمان للمدعين مُخالِفًا لحديث «والبينة على المدّعي واليمين على مَن أنكر».[33]

لكنْ ردَّ الفريق الأول عليهم بأن ثمة حديثًا آخر متفق عليه، وفيه: «لو يُعطَى الناس بدَعْواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه»[34]. قال ابن حجر: «وأما عَن تضعيف البخاري للقسامة، فالذي يظهر لي أنَّ البخاري لا يُضعّف القسامة من حيث هي، بل يُوافق الشافعي في أنه لا قَوَد فيها، ويخالفه في أنَّ الذي يحلف فيها هو المدّعي، بل يرى أنَّ الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر، فيُرَدّ المختلف إلى المتَّفق عليه، من أنَّ اليمين على المدَّعى عليه».[35]

والحقيقة أن الروايات في موضوع القسامة قد كثرت، واختلفت فيما بينها كما لم تكثر في حديث آخر ما بين مُؤيِّد لها ومعارض، وقد علَّق الشوكاني على ذلك فقال: «فإن أمكن حَمْل ذلك على قصص متعددة فلا إشكال، وإن لم يمكن، وكان المخرج متَّحدًا فالمصير إلى ما في الصحيحين هو المتعيّن».[36]

والقول الفصل في ذلك هو أن القسامة أصلٌ قائم بنفسه؛ كما قال أهل العلم بأن القسامة سُنّة قد وردت بأدلتها الصحيحة، وهي ذات خصوصية معينة فيها من الفائدة ما يساعد على حفظ مقاصد الشريعة العامة، والتي منها حفظ الدماء على نحو خاص، وكما يقول الخطابي: «هذا حكم خاصّ جاءت به السُّنَّة لا يُقاس على سائر الأحكام. وللشريعة أن تخصّ كما لها أن تَعمّ، ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة كما لها أن تُوفّق بينها». [37]

والقسامة -كما يقول القرطبي- حكم خاص بنفسه لتعذُّر إقامة البينة على القتل فيها غالبًا، فإن القاصد للقتل يَقصد الخلوة، ويترصد الغفلة، وبقي ما على القسامة على الأصل، ثم ليس ذلك خروجًا عن الأصل بالكلية، بل لأن المدَّعى عليه إنما كان القول قوله لقوة جانبه باللَّوْث.[38]

وقال الشوكاني: «إن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقلّ لورود الدليل بها، فتُخصّص بها الأدلة العامة، وفيها حفظ للدماء، وزجر للمعتدين، ولا يحل طَرْح سُنّة خاصة لأجل سُنّة عامة».[39]

وقال ابن المنذر: «ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم  جعل البينة على المدّعي واليمين على المدَّعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلَّا أنْ يَخُصّ الله في كتابه أو على لسان نبيه حكمًا في شيء من الأشياء، فيُستثنى من جملة هذا الخبر... ومما خصصته السُّنة حُكْم النبي صلى الله عليه وسلم  بالقسامة».[40]

وذكر ابن حجر في الفتح أن «القسامة سنّة بحيالها، وأصل قائم برأسه؛ لحياة الناس، وردع المعتدين، وخالفت الدعاوى في الأموال، فهي على ما ورد فيها، وكل أصل يُتبع ويُستعمل ولا تُطرح سُنَّة لسُّنَّة».[41]

وقال النووي: «قال القاضي عياض: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ بهذا الحديث، فهم متفقون ومُجمِعون على وجوب الأخذ بحديث القسامة».[42]

وقالوا: «إن الأيمان ليس فيها تأثير في إشاطة الدماء، وفيها أن البينة على مَن ادَّعى».[43]

وأما حديث أبي قلابة الذي يستدل به الفريق الثاني بترك القَوَد بالقسامة لحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...»؛ فقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «ولم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل لا يُشرع إلا في الثلاثة لردّ القَوَد بالقسامة، مع أن القَوَد وقتل نفس بنفس، وهو أحد الثلاثة، وإنما وقع النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك».[44]

والقسامة -كما ذكر الكاساني الحنفي-، هي حقّ مقصود بنفسه، وليس أنه وسيلة إلى المقصود، وهو الدية؛ بدليل أنه يُجمَع بينه وبين الدية، ولهذا قال الحارث بن الأزمع لسيدنا عمر -رضي الله عنه-: «أنبذل أموالنا وأَيْماننا؟ فقال: نعم: أمّا أَيْمانكم فلِحَقْن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين ظهركم»[45]. وكان السبب في تحمُّلهم ذلك أن حفظ المحلة والقرية إنما يقع عليهم وتحت تصرفهم، ويعرفون كل كبيرة وصغيرة وشاردة وواردة فيها، ويُلاحظون أيّ تصرُّف غير طبيعي؛ لأن المكان مكانهم، وأهل مكة أدرى بشعابها، وأيّ خطأ أو تصرُّف غير مشروع يؤول إليهم؛ لذلك كانت القسامة والدية عليهم.

والخلاصة: أن أحكام الشريعة الإسلامية تمنع من وقوع الجريمة بطرق وقائية قبل وقوعها، ثم بطرق زجرية بعد وقوعها، وكل ذلك بسَدّ منافذ الجريمة أو التقليل منها، والله من وراء القصد.

 

 

 


 


[1] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/46 وما بعدها.

[2] صحيح البخاري: 6863.

[3] المطرزي، المغرب في ترتيب المعرب، 2/178، ومختار الصحاح للرازي، ص223.

[4] الجرجاني، التعريفات ص147، باب القاف مع السين.

[5] الرحيباني، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 6/147.

[6] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ص725.

[7] انظر: الرحيباني، المرجع السابق 6/ 147.

[8] انظر: مختار الصحاح 1/223، النهاية في غريب الحديث والأثر 7/3401.

[9] العلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري الحنفي، البحر الرائق شرح كنز الدقائق 9/188.

[10] الكاسانى، بدائع الصنائع 10/ 374 وما بعدها.

[11] أبو عبد الله محمد الأنصاري، شرح حدود ابن عرفة، الموسوم بالهداية الكافية الشافية، دار الغرب الإسلامي، بيروت 2/626.

[12] حاشية ابن عابدين، ص549.

[13] ابن منظور، لسان العرب 12/481. وانظر: «تقي الدين أبا بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، ص613.

[14] انظر: الشيخ عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، 5/ 337.

[15] حاشية ابن عابدين: ص549.

[16] ابن رشد، بداية المجتهد، 2/ 359، وانظر الرملي، نهاية المحتاج 7/ 393، والطرق الحكمية، ابن القيم ص105، ومواهب الجليل للخطاب 6/ 269، والتشريع الجنائي عبد القادر عودة 2/328.

[17] بداية المجتهد لابن رشد 22/428.

[18] فتح الباري لابن حجر 22/98.

[19] موطأ مالك 2/880.

[20] مختصر القدوري، ص194.

[21] المرجع السابق ص193.

[22] ابن نجيم، مرجع سابق، 9/188.

[23] الشيخ محمد يوسف الكافي، إحكام الأحكام شرح تحفة الحكام ص269. على منظومة القاضي أبي بكر محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي، دار الفكر، بيروت 1991م -1411هـ.

[24] ابن نجيم، مرجع سابق، 9/189.

[25] انظر: فتح الباري 12/231، كتاب الديات، باب القسامة، وابن رشد 4/359.

[26] صحيح البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب الموادعة والمصالحة بين المشركين بالمال وغيره برقم 3173، وصحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين، باب القسامة برقم 1669.

[27] انظر: ابن بطال، شرح صحيح البخاري 8/532.

[28] النووي، المنهاج في شرح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين، باب القسامة، ص1066.

[29] اللباب في شرح الكتاب، الغنيمي 3/1176.

[30] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب اليمين على المدَّعى عليه، برقم 4552، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير باب (إنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا أولئك لا خلاق لهم)، برقم 1711.

[31] ابن رشد، مرجع سابق، 4/ 360.

[32] صحيح البخاري، كتاب الديات، باب القسامة برقم 6898، وانظر: فتح الباري، 12/229.

[33] صحيح مسلم، كتاب الأقضية، رقم 1711، وانظر: المنهاج في شرح مسلم، ص1100.

[34] صحيح البخاري، برقم 4552، كتاب التفسير باب (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا)، ومسلم برقم 1711.

[35] فتح الباري لابن حجر، 12/239.

[36] الشوكاني، نيل الأوطار، كتاب الدماء، باب ما جاء في القسامة ص1356، بيت الأفكار الدولية، لبنان، 2004م.

[37] الخطابي، معالم السنن، كتاب الديات، المطبعة العلمية حلب، 1352هـ 1934م، تحقيق محمد راغب الطباخ، 4/10 وما بعدها.

[38] بفتح اللام وسكون الواو هو قرينة تُقوّي جانب المدّعي ويغلب على الظن صدقه، الذي يُقوّي دعواه. فتح الباري 22/107.

[39] الشوكاني، مرجع سابق، ص1357.

[40] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/458، وما بعدها.

[41] فتح الباري لابن حجر 22/107.

[42] المنهاج في شرح مسلم للنووي، ص1064.

[43] ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، تحقيق محمد صبحي حسن، 4/360.

[44] ابن حجر، مرجع سابق، 12/ 243.

[45] الكاساني، مرجع سابق 10 /382، 385.

 

 

أعلى