أكَّد أن الحضارة الغربية حضارة يبوء كاهلها بالمتناقضات؛ تناقض في الأفكار، وتناقض في القِيَم، وتناقض في المواقف، وتناقض بين الأقوال والأعمال. وبيَّن أن الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي يرمي العالم الإسلامي بوابل من سهامه الفكرية.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:
فقد رُزِئَت الأُمَّة بوفاة العلامة الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس -رحمه الله
تعالى-، بعد معاناة طويلة مع المرض، نسأل الله -عز وجل- له المغفرة والرضوان، وأن
يجعل ما أصابه كفَّارةً له وطهارةً، ورفعةً في الدرجات، وأن يُعوِّض الأُمَّة
خيرًا؛ ففَقْد العلماء خسارة عظيمة، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنّ
الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقَبْض العلماء،
حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير عِلْم؛
فضلُّوا وأضلوا»
أخرجه البخاري ومسلم.
لقد كان الشيخ إمامًا من أئمة الفِكْر، وعَلَمًا من أعلام الدعوة، ومن العلماء
الربانيين القلائل الذين جمعوا بين التأصيل الشرعي الأصيل، والدراسة الفلسفية
العميقة لتيارات ومناهج الفكر الفلسفي الغربي.
هداه الله -تعالى- منذ نعومة أظفاره لمنهج أهل السنة والجماعة، ثم درَس تراث شيخ
الإسلام ابن تيمية بعُمقٍ، وتأثر به تأثرًا شديدًا، خاصةً كتابيه (دَرْء تعارُض
العقل والنقل) و(منهاج السُّنة النبوية). وكان من بداية تكوينه العلمي شخصية
مستقلة، مُعظِّمًا للنص الشرعي، حريصًا على الدليل العلمي، نافرًا من البدع
والخرافات، يرفض التقليد بكل أنواعه؛ التقليد المذهبي والفكري والدعوي، فشكَّلت هذه
العوامل أساسًا لمنهجية الشيخ الفكرية ورؤيته الدعوية.
وحين درس الفلسفة الغربية وجذورها اليونانية على يد كبار الفلاسفة الغربيين أثناء
دراسته في بريطانيا، درسها بروح العالم الرباني المعتزّ بدينه، المستمسك بأصوله
العقدية والمنهجية، وليس بروح التلميذ المنهزم المستسلم، الذي يَقتات على موائد
الغرب.
ونحسب أن الشيخ جعفر من المفكرين الإسلاميين القلائل الذين تعمّقوا في دراسة
الفلسفة الغربية؛ ومع ذلك لم يتأثروا بانحرافاتها ومشكلاتها المنهجية، ولهذا استطاع
أن ينافح عن دينه بيقين، وأن ينتقد النظريات المُؤسِّسة للفكر الغربي بثقةٍ وقوةٍ،
وبلغة الغرب وأدواته المعرفية نفسها. ومن قرأ كتابه (الفيزياء ووجود الخالق)؛ أدرك
بوضوح رسوخه الفكري، وقدرته الفذَّة على فَهْم الفكر الغربي، ثم قدرته على تفكيكه
ونقده العميق لأدواته وأصوله الفلسفية.
كتَب الدكتور جعفر نظرات نقدية في أُسُس الأيديولوجية الليبرالية الغربية، وجذور
الفكر العلماني وموقفه من الدين، وانتقد القِيَم الغربية، وكشف عناصر الاستكبار
والفُحْش فيها. وتحدَّث عن ازدواجية الغرب وممارساته الاستعمارية وحروبه الثقافية.
وأكَّد أن الحضارة الغربية حضارة يبوء كاهلها بالمتناقضات؛ تناقض في الأفكار،
وتناقض في القِيَم، وتناقض في المواقف، وتناقض بين الأقوال والأعمال. وبيَّن أن
الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي يرمي العالم الإسلامي بوابل من سهامه الفكرية.
وأكَّد أن المصيبة الكبرى هي في قَبُولنا نحن لهذا الفكر كله دون تمييز، وأن
الافتتان بالحضارة الغربية في تصوراتها الاعتقادية وأحكامها التشريعية وقِيَمها
الخُلقية ومظاهرها الذوقية؛ لم يَنْتج عنه مواقف سياسية موالية للغرب فقط، وإنما
نتج عنه محاولة لإعادة صياغة المجتمعات الإسلامية كلها في قوالب غربية، في تركيبها
الاجتماعي، ونظمها القانونية، وأوضاعها الاقتصادية، وبرامجها التعليمية، ووسائلها
الإعلامية؛ على اعتقاد أن هذه الصياغة شرط ضروري لنهضة الأمم الإسلامية، وتحويلها
من مرحلة التخلف والرجعية إلى مرحلة التقدم والمعاصرة!
وحذَّر الدكتور جعفر من محاولات الغرب اختراق الفكر الإسلامي وتطويعه، وتسويق ما
أسماه بـ«الإسلام
الهيولاني المِطْوَاع»؛
الذي لا صورة له ولا محتوى، ولا يمكن أن يُعرَّف ولا يُوصَف؛ لأنه دائم التغيُّر
والتشكل بأشكال الأهواء التي لا تستقر على حال!
ومَن يقرأ ذلك النقد يلمس بوضوح شديد سُموّه المنهجي، واعتزازه بهويته، ولهذا تجده
ينتقد ظاهرة الانهزام الفكري التي وقع فيها كثير من المثقفين العرب، أو ما يسميه
الشيخ بـ«الهيام
بالغرب»
الذي يُعْمِي ويصمّ.
ويردّ بقوة ما يُروِّج له بعض هؤلاء مَن أنّ في تفوق الغرب المادي دليلًا على تفوق
معتقداته وقِيَمه وأفكاره! ويُوصي الدعاة بالوسطية بمدلولاتها الإسلامية، وليست
الوسطية المفرّغة من مدلولاتها الإسلامية، والمحشوَّة بالمدلولات والأهواء الغربية.
ويحثّهم على الثبات على الدين، وألا يستوحشوا بكثرة المُغيِّرين لشرع الله، وأن
يستمروا في مقاومة الباطل بقَدْر ما يستطيعون.
تميَّز الشيخ بأُفُقه الواسع، وعنايته المبكّرة بالدعوة إلى إسلامية العلوم، وأكَّد
أن تلك الدعوة لا تخالف الموضوعية، بل تُؤيدها. وذكَر أن ذلك يتحقق بتنقيتها من
شوائب التصورات المادية الإلحادية وسائر التصورات المخالفة للإسلام، التي تُمثّل
إطارها الفلسفي، وإن لم تبرز في مضمونها الحرفي، وباطراح كلّ النظريات التي لم
يثبتها واقع، والتي تخالف حقائق قرَّرها الإسلام، وباستبدال الإطار الفلسفي
الإلحادي بإطار توحيدي.
عايَش الشيخ جعفر إدريس -رحمه الله تعالى- بروز ظاهرة الإلحاد والتمرُّد على
الثوابت، ورأى تأثّر بعض الشباب بالفكر الشرقي الشيوعي، وبالفكر الغربي العلماني.
وكان عَلمًا من أبرز أعلام الدعوة الذين ناقشوا تلك التيارات بحوارات فكرية عميقة،
ونَقدوها بعِلْم وسعة أُفق كبيرة، وخاضَ سجالات فكرية متنوّعة.
وكان الشيخ مفكرًا مُلهمًا مُؤثِّرًا، قريبًا من الشباب بتواضعه الجمّ، وسعة صدره،
ودماثة خُلقه، وشخصيته الحكيمة، وقدرته على الإقناع، وردوده المتميزة في نَقْد
الشبهات، ومَلَكته العالية في الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي كانت تموج بها الساحة
الفكرية، وكان يُؤسِّس في عقول الشباب طرائق جديدة في منهجية الاستدلال والتفكير
والتلقي، ويُربّيهم على الاتزان الفكري، والاعتزاز بالهوية، واليقين بالمُسلَّمات
الشرعية.
مما يُميِّز الدكتور جعفر إدريس -رحمه الله- أنه مع اهتمامه الشديد بالجوانب
الفكرية، كان يحمل روح الداعية المربّي، الحريص أشد الحرص على تقوية الصلة بكتاب
الله -عز وجل- علمًا وعملًا، وبناء المنهجية العلمية المتّزنة، وترسيخ الثقافة
الإسلامية الأصيلة في أوساط الدعاة.
وكان يرى أن العالِم المسلم لا تجده منعزلًا عن الحياة، وإنما تجده ساعيًا لتعليم
الناس بما عَلِم من الحق، مدافعًا عن هذا الحق بلسانه وسنانه، وأن المسلم الصادق لا
يمكنه أن يقف متفرجًا في المعركة الثقافية التي تدور رحاها بين المسلمين وخصومهم
وأعدائهم؛ ولهذا تميَّز الشيخ بهمّته العالية، ونشاطه الدؤوب، وحيويته المتّقدة،
وكان يَجُوب آفاق المعمورة شرقًا وغربًا، يدعو إلى الله تعالى باللغتين العربية
والإنجليزية.
كما أن قُربه الشديد من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-، فتح له
آفاقًا رَحْبة في العلم والدعوة؛ فقد كان الشيخ ابن باز يُقرِّبه ويَصطفيه ويحتفي
به، ويستشيره في بعض المسائل، ويُرسله للدعوة ونَشْر العلم، خاصةً في البلدان
الناطقة بالإنجليزية، وكان لهذه الرحلات أثر كبير في وعي الشيخ جعفر وسَعة أُفقه
الدعوي والفكري.
معايشة الشيخ جعفر للدعوة الإسلامية على مستوى العالم، ومشاركته الواسعة في
أنشطتها المختلفة، واطّلاعه الغزير على فِكْرها وثقافتها، وقُرْبه من علمائها
ومفكريها؛ جعلته من أوائل العلماء الناصحين الذين أسهموا في نقد وتصحيح مسار
الدعوة، وتجديد خطابها الفكري، ومراجعة برامجها ومشاريعها، بلهجته الصادقة الأمينة.
وكان يحمل همَّ الإصلاح، ومعالجة جوانب الضعف والخلل، بجرأة وشجاعة، مع حكمة
وبصيرة، وترفُّع عن التعصب والمحاباة، وإنصاف ظاهر، وأدب جمّ.
أثرى العلامة الدكتور جعفر شيخ إدريس الساحة الدعوية بآرائه الأصيلة، واجتهاداته
العميقة، وأبحاثه الرصينة، ومراجعاته الناصحة، واستفادت منه مجلة البيان كثيرًا حين
كان رئيسًا للهيئة الاستشارية للتقرير الارتيادي السنوي، وشرفت بكتابته لمقالة
شهرية لأكثر من عشر سنوات؛ ابتداءً من شهر المحرم عام 1420هـ، بلغت أكثر من مائة
مقالة، جُمِعَت في مجلد كبير بعنوان (الإسلام لعصرنا)، تفاعل معها القراء تفاعلًا
كبيرًا، ولله الحمد والشكر.
ونشرت مجلة ^ للشيخ عددًا من أهمّ كتبه، وهي:
1-الفيزياء ووجود الخالق. وهو كتاب فريد في بابه، طُبِعَ عدة طبعات.
2-صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامي (وهو مجموعة بحوث ومقالات في صراع
الحضارات وتأثير الغرب على العالم الإسلامي، كتبها الدكتور جعفر في مناسبات متعددة
على مدى أكثر من عشرين عامًا، جمعها وألَّف بينها ابنه الأكبر عبدالرحمن).
3-مناهج التفكير المُوصّلة للحقائق الشرعية والكونية (وهو مجموعة بحوث ومقالات
كتبها الدكتور جعفر في مناسبات مختلفة).
لم يكن الشيخ جعفر باحثًا أكاديميًّا منعزلًا عن الواقع، بل كان قمَّة سامقة من
قِمَم الفكر الإسلامي الأصيل، ورائدًا من روَّاد الدعوة الإسلامية، تفاعَل مع
قضاياها، وامتلأ قلبه بهمومها، حمَل خلال عقود من الزمن مشروعًا إصلاحيًّا واسع
الأفق، وكتَب مراجعات دعوية بالغة العمق، وقدَّم رؤية تجديدية واعية، وربَّى
أجيالًا من الدعاة والمفكرين من العرب والعجم.
رفع الله تعالى درجاته في الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وبارك في
عِلمه وأهله وذريته.
ونسأل الله -عز وجل- أن يرزقه نصيبًا وافرًا من قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11].