• - الموافق2025/07/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
دور العلماء الرّواة والكُتّاب في نشأة البلاغة العربية

ونجد اعتماد العلماء المتأخرين عند حديثهم عن «المماثلة» يذكرون تعريف الأصمعيّ، وهي أن يقصد المتكلم «الدلالة على معنى فيضع ألفاظًا تدلّ على معنى آخر، وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الدلالة عليه»، مع استحضار الشاهد من الكتاب العزيز


إنّ الشيء الذي ينبغي أن يلتفت إليه الباحث الجادّ في دراسة مرحلة العلماء الرّواة «خلال القرن الثاني وبداية الثالث الهجري»، هو موسوعية البحث عند هؤلاء العلماء؛ فقد كانوا على دراية عميقة بأشعار الجاهلييّن والإسلامييّن، ولغات العرب وأيامها وأخبارها، هذا بالإضافة إلى فهم معاني كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .

هذا الغِنَى في الثقافة والسَّعة في المعارف مكَّنهم مِن وَضْع كلّ قواعد العلوم التي تأسَّست في هذه المرحلة، وهي علوم النحو واللغة والنقد والبلاغة والعروض والقوافي، ناهيك عن تحقيق النصوص الشعرية وضبطها وشرحها ووضعها في دواوين ومجموعات؛ هذه الجهود هي التي أنقذت تراث العرب من الضياع، وقام عليها بنيان ثقافة العرب على أُسُس ثابتة ومناهج واضحة.

وفيما يلي نذكر بعضًا ممّا بذله هؤلاء العلماء من جهود لتثبيت منهج البحث في دراسة البلاغة العربية التي كانت جزءًا من دراساتهم الشاملة في علوم اللغة العربية. وهذه المباحث هي النّواة الأولى التي بنى عليها المتأخرون قواعد هذا العلم، وظلَّت تلك القواعد معتمَدة في سائر العصور التالية؛ لأنها استُخْلِصَت من نصوص شعرية ونثرية بلغت درجة عالية في البيان والفصاحة والبلاغة، ولا سيما كتاب الله وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشعر العرب وأمثالهم وأقوالهم المأثورة.

فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي اللغويّ وواضع علم العروض (المتوفى سنة 175هـ)، والعالم الرّاوية الأصمعيّ (المتوفى سنة 216هـ)، يُعدّان من مؤسسي عِلْم البلاغة العربية بتعريف الفنّ، وتحديد المصطلح، ودراسة الشاهد، وذلك بوضع قاعدة قارّة بمنهج علميّ لا لَبْس فيه ولا خلط؛ فقد أورد أبو الفرج الأصبهاني نصًّا تحاوَر فيه مع عليّ بن سليمان الأخفش في قضية بلاغية، فقال: «قلت لعلي بن سليمان الأخفش -وكان أعلم من شاهدته بالشعر-: طائفة -وهم الأكثرون- تزعم أن الطباق ذِكْر الشيء وضدّه، وطائفة تقول: هو اشتراك المعنيين في اللفظ الواحد؟ فقال: مَن الذي يقول هذا؟ قلت: قدامة وغيره، قال: هذا يا بُنَيّ التجنيس، ومَن ادَّعى أنه طباق فقد أتى خلافًا على الخليل والأصمعيّ. قلت: أفكانا يعرفان هذا؟ فقال: سبحان الله! وهل غيرهما في عِلْم الشعر وتمييز خبيثه»[1].

هذا إقرار من عالِم بما كان عليه علماء تلك الفترة من ضلوع وتمكُّن واسع في عِلْم الشعر ومعانيه وأغراضه وأساليبه، فقد كانوا سبّاقين للتعريف بفنون البلاغة، ووضع مصطلحاتها على وجه الدّقّة، حتى إنّ الأخفش ردَّ رأي عالم وناقد للشعر وهو قدامة بن جعفر وجماعة أخرى، وبرغم مكانة قدامة في علوم اللغة العربية فإنه لم يدقّق في وضع المصطلح هنا بتتبُّع شواهده ومعانيه في أشعار العرب ونثرهم، فردَّ عليه العلماء قوله، واعتمدوا رأي الطبقة الأولى من العلماء؛ لأنهم كانوا على دراية واسعة بتراث العرب. والدّليل على هذه المعرفة العميقة بتراث العرب أنّنا وجدنا الأصمعيّ يُعرِّف هذا الفنّ أي المطابقة تعريفًا دقيقًا وشاملاً لما تقوم به من دور في معاني التضاد والمنافرة وليس الاشتراك، وقد استشهد على ذلك بنموذج اعتبره حجّة فيما ادّعاه، فقال: «أصلها وضع الرِّجْل موضع اليد في ذوات الأربع، يقال: طابق الفرس، إذا وقعت رجلاه في موضع يده». قال نابغة بني جعدة:

وخيل يطابقن بالدّارعين

طباق الكلاب يطأن الهراسا[2]

وهذا هو معنى المنافرة، ولذلك نجد عالمًا متأخرًا في القرن الثامن الهجري، وكان متعمّقًا في تراث العرب وفلسفة اليونان ومنطقها، وهو أبو محمد السجلماسي، يستشهد بقول الخليل والأصمعيّ وابن المعتز، فقال: «واسم المطابقة في الوضع الفصيح عند الجمهور هو مثال أول لقولهم: طابق ومطابق: خالف ونافر ومنافر، لا شاكَل ووافَق ولاءَم، على ما يظنّه قوم من العلماء، ويغلط فيه كثير من الناس وجماعة من أهل الأدب، بل المطابقة في موضوع اللغة العربية: المخالفة والمنافرة، وعلى هذه الجهة نقل قوم من حذّاق أهل البيان ومنتحلي صنعة البلاغة -ومن هؤلاء الخليل بن أحمد والأصمعي، ومن متأخريهم عبد الله بن المعتز- اسم المطابقة على معنى المنافرة والمخالفة إلى هذا النوع من عِلْم البيان؛ إذ كانوا يُوفّون القول بمعنى المضادة والمخالفة»[3].

هذا النصّ في غاية التوضيح بالحُجّة القاطعة من أعلام اللغة والشعر الثقات لإثبات صحّة معنى الطباق في اللغة العربية ونقله إلى علم البلاغة. وما يهمّنا هنا هو ما أقرّه أعلام اللغة والشعر القدماء ليصبح هذا العلم قارًّا بتعريفهم وتحديد مصطلحهم والمعاني التي يحقّقها.

ونجد اعتماد العلماء المتأخرين عند حديثهم عن «المماثلة» يذكرون تعريف الأصمعيّ، وهي أن يقصد المتكلم «الدلالة على معنى فيضع ألفاظًا تدلّ على معنى آخر، وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الدلالة عليه»، مع استحضار الشاهد من الكتاب العزيز {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[4]، فالمراد: نفسك؛ لقولهم: فدًى لك ثوباي؛ أي نفسي»، وأنشد قول الشاعر:

فدًى لكَ من أخي ثقة إزاري[5].

وأما فن «الالتفات»؛ فالأصمعي هو أوّل مَن ذكَر شاهده، ونبَّه العلماء إلى المعنى الذي يأتي بواسطته. قال إسحاق الموصلي: قال لي الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، فأنشدني:

أتنسى إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامة؟ سقي البشام!

هذا الشاهد تجده عند جميع البلاغيين، بل هو الذي فتح لهم المجال للبحث عن أمثاله.

وكذلك فن «التبليغ»، ويسمى كذلك «الإيغال»، لقد كان الأصمعيّ سبّاقًا لتعريفه وذِكْر شواهده، وهذا الفن له دور كبير في تحسين المعاني في القافية خاصّة؛ حيث ينتهي معنى البيت قبل أن يصل الشاعر إليها، فيأتي بما يزيد في معنى الحشو، ومن العيوب التي يقع فيها بعض الشعراء وضع القافية في غير موضعها؛ فقد سُئل الأصمعيّ عن أشعر الناس؟ فقال: «من يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرًا، أو إلى الكبير فيجعله بلفظه خسيسًا، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى». قيل: نحو من؟ قال: نحو ذي الرّمّة حيث قال:

قف العيس في أطلال ميّة

فاسأل رسومًا كأخلاق الرداء

فتمّ كلامه ثم احتاج إلى القافية، فقال: «المسلسل» فزاد شيئًا[6].

وقول الأعشى:

كناطح صخرة يومًا ليفلقها

فلم يضرها، وأوهى قرنه.....

فقد تمّ قوله، فلمّا احتاج إلى القافية قال: «الوعل» فزاد بها معنى[7].

وكان عالِم آخر في هذه المرحلة قد عُنِيَ عناية كبيرة بالنقد والقضايا البلاغية نتيجة احتكاكه بالشعر القديم، وهو أبو العباس ثعلب الذي ترك لنا مُؤلَّفًا صغيرًا سمَّاه «قواعد الشعر»، ومن القضايا التي عُنِيَ بها ثعلب في البلاغة «التشبيه»، فقد ذكر قول امرئ القيس:

كأنّ قلوب الطير رطبًا ويابسًا

لَدَى وَكْرها العنّاب والحشف البالي

فقد استحسنه غاية الاستحسان بالإشارة إلى ما قال الرواة في مزاياه، فقال: «وزعم الرواة أنّ هذا أحسن شيء وُجِدَ في تشبيه شيء بشيئين في بيت واحد»[8].

وذكر لنا ما يوجد في الشعر من إغراق في الوصف وسمّاه «الإفراط»، وقد عُنِيَ النقاد والبلاغيون به لبيان ما يُقبَل في مبالغة المعاني وما يُرْفَض، وهو الإفراط الذي يبلغ حدّ الممتنع والمستحيل، والشواهد التي ذكرها ثعلب في معنى الإفراط تدلّ على أنّه يقصد الزيادة في المعاني دون الوقوع في الممتنع مثل قول امرئ القيس:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل[9]

وتقديم هذا الشاعر كان لخصائص فنّيّة معيّنة في شعره؛ منها أنه «قيد الأوابد»، وهي صفة مُستحسَنة في الفرس، قال العسكري: «لأنّ القيد من أعلى مراتب المنع عن التصرّف؛ لأنك تشاهد ما في القيد من المنع، فلست تشكّ فيه»[10].

وعرّف ثعلب الاستعارة بقوله: «وهو أن يُستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه»[11]، ووقف على أجود شواهدها التي تداولها البلاغيون بعده، منها قول امرئ القيس:

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازًا وناء بكلكل

وصف معاناته في الليل خاصة، فعَبَّر عن ثِقَل ما يشعر به بتلك الصور المتلاحقة التي يشاهدها الإنسان في حركة الإبل.

وقول زهير:

فشدّ ولم ينظر بيوتًا كثيرة

لدى حيث ألقت رَحْلها أُمّ قشعم

وهذا البيت من معلّقته الشهيرة.

وهناك فئة أخرى شاركت في بيان الملحوظات النقدية والبلاغية المتصلة بجمال الشعر ومحاسنه؛ وهذه الفئة لم يكن لها علم عميق بالشعر والنحو واللغة مثل العلماء الرواة، ولكنهم كانوا كُتَّابًا وأصحاب نظر في خصائص البيان، ومنهم الكاتب ابن المقفع (المتوفى سنة 142هـ)، فهذا الأديب كان على دراية بأساليب الترسّل، والملحوظات التي أثبتها لتعريف البلاغة تنبئ بأنّه كان مُلِمًّا بوجوه المعاني التي تأتي على وجهها الصحيح، فمن ذلك قوله في تعريفها: «البلاغة اسم جامع لمعانٍ تَجْري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السّكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامّة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة»[12].

لقد فسَّر ابن المقفع البلاغة بطرق علمية، ووقف عند جميع ما يطلب فيها عند المبدع والمتلقي الذي يفترض فيه أن يكون مُلِمًّا بتلك المحاسن البيانية؛ وهناك إشارة في غاية الأهمية في هذا النصّ وما يُطلب في الكلام البليغ، وهي «الإيجاز»، فهذا الفنّ جمع كل الفنون البيانية إذا أحسن استعماله بدون إخلال ونقص وغموض وإشكال وتداخل.

وهذا كاتب آخر وهو جعفر بن يحيى (المتوفى سنة 187 هـ)، يسأله أحد الناس عن مفهوم البيان فيوضحه بهذه العبارات الجامعة لما يطلب فيه لفظًا ومعنًى ومقصدًا، فقال: «أن يكون الاسم يُحيط بمعناك، ويُجلِّي عن مغزاك، وتُخرجه عن الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذي لا بدّ منه أن يكون سليمًا من التكلّف، بعيدًا عن الصّنعة، بريئًا من التعقّد، غنيًّا عن التأويل»[13]. فأيّ تعريف أكثر من هذا يكون جامعًا لسلامة الأساليب من كلّ عيب في التركيب والمضمون والمقصد؟

هذه بعض القضايا البيانية التي أشار إليها العلماء والكُتّاب في مرحلة نشأة البلاغة، وهي في مجملها دالّة على أنّهم كانوا رُوّادًا، لقد وضعوا لها أُسُسها الواضحة، وذلك بتحديد التعريف والمصطلح، وذكر الشواهد، ولو كان منهجنا في هذا البحث الإشارة إلى ما بذلوا من جهود في علوم العربية وآدابها لرأينا شمولية في المعرفة التي برهنت على عمق تكوينهم في اللغة العربية.

 

 

 


 


[1] المنزع البديع: ص372.

[2] رفع الحجب: 1/164 - 165.

[3] المنزع البديع: 370 - 371.

[4] المدثر: 4.

[5] المنزع: ص245.

[6] رفع الحجب 1: 190- 191.

[7] المصدر نفسه.

[8] قواعد الشعر: 40.

[9] المصدر نفسه: 49 - 50.

[10] كتاب الصناعتين: 298.

[11] قواعد الشعر: 57.

[12] البيان والتبيين: 1/ 115 - 116.

[13] المصدر نفسه: 1/ 106.

 

  

أعلى