• - الموافق2025/06/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
وقفات مع قول الله تعالى:  ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلًاءً حَسَنًا﴾

نحن أمام سورةٍ بدريَّةٍ بامتياز من خلال سورة الأنفال، ولكنها تتَّخذ من بدر أنموذجًا للمستقبل الإسلامي، ولمستقبل العلاقة بين المؤمنين وبين ربهم بصفةٍ عامةٍ.


تُبيِّن هذه الآية الكريمة أن الله -عز شأنه-، يمكن أن يضع قوَّته في أشخاصٍ، فتتحقَّق مشيئة الله من خلالهم. وهنا فإن هؤلاء الأشخاص يكونون فقط أسبابًا لمدَّةٍ محدَّدةٍ ريثما ينتهي الأمر الذي يريد الله -تعاظمَ شأنُه-.

فترى هذا الشخص تبدر منه بوادر غير عادية، وغير مألوفة بَشَريًّا، وكما أن الناس يعجبون لها، فهو أيضًا يعجب لها؛ لأنه يُدرك أن ما يقوم به، يفوق إمكاناته وقدراته، بل حتى توقُّعاته. فترى شخصًا يضع مخططًا لحياته، ولمستقبله، ولكن بعد سنواتٍ، تتحقَّق له أمورٌ ما كان يحلم بها، وما خَطَرَ له قط أنه سيبلغها ذات يوم.

يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلًاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ١٧].

أنموذج قابل للتكرار

تعود بنا الآية الكريمة إلى معركة بدر لتكون أنموذجًا لأهل الحق على مرّ الزمن؛ ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾؛ اعلموا بأن الواقع الطبيعي في معركة بدر، يقول بأن نحو ثلاثمائة شخص ليسوا على استعدادٍ لدخول الحرب، يصعب عليهم الانتصار على نحو ألفٍ من المقاتلين الذين تجهَّزوا وتزوَّدوا تمامًا لخوض حربٍ، كل التوقّعات والمُعطَيات تقول بأن النصر سيكون حليفَهم، بل حتى الثلاثمائة ليسوا على رأيٍ واحدٍ، والبعض بات يريد تجنُّب المواجهة؛ لأنه بالأصل لم يأتِ إلى هذا المكان للحرب التي جاء خبر قرب وقوعها بشكلٍ مفاجئٍ، بل المجيء كان من أجل التعرُّض لقافلة قريش التجارية.

 لكن فجأة تغيَّرَت المُعطَيات، وعَلِم قائد القافلة أبو سفيان بذلك، واستطاع أن يُغيِّر وجهتها، ويَفرّ بها، وعندما عَلِمَ أبو جهل بذلك، على الفور، جهَّز الجيش، وقاده للدخول في معركةٍ مُفاجئة مع هؤلاء، بل حتى الظروف الطبيعية كانت ضدّهم من خلال الموضع الذي كانوا فيه عند وقوع المعركة.

ولكن حَصَلَت المُعجِزةُ التي أذهَلَتهم، وكذلك أذهَلَت قُريشًا، وكلَّ مَن سَمِعَ بها؛ حيث استطاعوا أن يقتلوا حتى قادةً مِن هذا الجيش، ويأسروا الذين استسلموا، ويُحقّقوا نصرًا مؤزّرًا سوف يبقى علامةً بارزةً في المواجهة بين قوتَي الإيمان والكفر.

وهذا أنموذجٌ قابلٌ للتكرار عبر الزمن في أيّ مكان، ولأي إنسان. فإذن، عندما يَمُدّك الله بهذه العطايا والقدرات الاستثنائية، فلا تقل: أنا فعلت، وأنا قمت بذلك. دون أن تذكر الله، بل تذكَّر، واذكر أن ذلك كان بتوفيق الله -سبحانه وتعالى-.

﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ في بدر ﴿وَلَـكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾. ولن ﴿تَقْتُلُوهُمْ﴾ بعد بدر، ﴿وَلَـكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾؛ لأن هؤلاء يسعون إلى إطفاء الحق، والتنكيل بأهل الإيمان والصلاح، فلا يأذن لهم الله بذلك، ولكن بشرط أن تقاوموا، وتتشجَّعوا، وتستغيثوا بالله، وتسألوه المَدد، لا أن تولُّوهم أدباركم وتنهزموا، وتجبنوا عن لقائهم؛ ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123]؛ واحذروا الوهن والهزيمة النفسية؛ ﴿وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]؛ وخذوا بالأسباب المشروعة وتوكلوا على الله؛ ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 14].

المستقبل الإسلامي

نحن أمام سورةٍ بدريَّةٍ بامتياز من خلال سورة الأنفال، ولكنها تتَّخذ من بدر أنموذجًا للمستقبل الإسلامي، ولمستقبل العلاقة بين المؤمنين وبين ربهم بصفةٍ عامةٍ.

وهي بذلك سورة تأسيسية، تُؤسِّس الإنسان المسلم الجديد الذي اصطفاه الله تعالى، ليكون به كمال الدين، وتمام نعمة الله على البشريَّة.

فهؤلاء قد لاقوا أسوأ أشكال العنف الذي مُورِسَ بحقِّهم نتيجة ممارستهم لحريّتهم الشخصية في المُعتَقد، ولذلك بقدر ما لاقوا من ألوان وأشكال العنف، فإن النزوع الإنساني يترسَّخ لديهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم  يُعزّز فيهم الحالة الإنسانية؛ فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم : «مَن أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه»[1].

فالمسلم هو الخُلاصة الكَماليَّة من أبناء آدم -عليه السلام-، ولذلك، فهو دينٌ عامٌّ، يصلح للناس جميعًا.

وإن قول الله -عز وجل-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]؛ هو قولٌ مفتوحٌ للناس أجمعين؛ لأن ما أنزله الله من قبل، قد اجتمع في الكتاب الخاتم الذي وصفه الله -تعالى- بالكمال المُطلَق الذي لا كمال قبله، ولا كمال بعده.

والنبي -عليه الصلاة والسلام- غير منفصل عن الأنبياء والرسل من قبله، بل هو متّصل معهم، وقد أمره الله -سبحانه وتعالى- أن يقتدي بما كانوا عليه من هدًى؛ فقال: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]؛ لأنه مُكمِّل لمسيرة دِين الله منذ آدم -عليه السلام-، وخلال كل هذه الفترة الزمنية، كان هذا الدِّين في طَور الإكمال، حتى أتمَّ الله نعمته على أبناء آدم، ورضي لهم ﴿الإِسْلاَمَ دِينًا﴾، وقد أكمله لهم بالقرآن.

وبدون القرآن يبقى الدين ناقصًا، وبدون الإيمان بالقرآن يكون الإيمان كذلك ناقصًا، بل حتى المسلم سيكون إيمانه ناقصًا دون الإيمان بما أنزل الله من قبل على أنبيائه ورسله، ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم  قوله: «مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى بُنْيانًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ مِن زَواياهُ، فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ به ويَعْجَبُونَ له ويقولونَ: هَلّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟! قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النبيِّينَ»[2].

فإذن كما أن القرآن أصبح الكِتاب المُصطفى، والنبي هو الرسول المصطفى، فإن المؤمن بهذه الرسالة المُصطفاة، المُتَّبِع ما فيها من تشريع، هو الإنسان المُصطفى، وبالتالي فهو الإنسان الذي بلغ من الكمال الإنساني، بقِيَمه، وأخلاقه، وصلاحه، وعدله، وخيره، وتقواه، ما لا يبلغه سواه، فهي رسالة جعلها الله صالحة لإنسان كل زمانٍ ومكان، ولا أحد قط لا تصلح له، ولا يصلح بها.

  رمية الله -عز وجل-

قال -عز وجل-: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧]؛ ما رَمَتْ يَدُك يا مُحَمَّد، ولكن يَد الله رَمَتْ بِيَدِك. وقَد حَصَلَ ذلك استجابة من الله -تعالى ذِكْره- لرسوله -عليه الصلاة والسلام-، عندما رأى نفسه مع المسلمين الذين يقودهم، في ضيقٍ شديدٍ، بل وخطرٍ شديدٍ يمكن أن يَقضي عليهم جميعًا.

فذلك أمرٌ خارقٌ للطبيعة البشرية، لكنه متوافقٌ مع قدرة الله -سبحانه وتعالى- على كل شيء.

فالطبيعة البشرية تقول بأن حفنة من التراب لا تستطيع أن تُخيف جيشًا بأكمله، وتودي به إلى الهزيمة في ساحة المعركة، ولو وضع المشركون هذا الاعتبار، لَما أتوا بالأصل؛ لأن رجلًا واحدًا يمكن له أن يُهزِمهم بحفنة تراب واحدة، فهذا لعلّه لم يخطر ببال أحدٍ، بِمَن فيهم رسول الله، ولذلك سأل الله مَخرَجًا من المِحنة، فاستجاب له الله، وأرشده إلى أمرٍ يسيرٍ ومُتاحٍ، وفي مُتناول اليد، فكانت رمية الله -سبحانه وتعالى- بيد رسوله -عليه الصلاة والسلام-.

وقيل: لما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذه قريش قد جاءت بخُيَلائها وفَخْرها يُكذِّبون رُسلك، اللهم إني أسألك ما وعدتني»، فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: «خذ قبضة من تراب فارمهم بها»، فلما التقى الجمعان قال لعليٍّ -رضي الله عنه-: «أَعْطِني قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبقَ مشرك إلا شُغِلَ بعينيه، فانهزموا».

لقد تحقق النصر، ولكنه لم يكن بقوة المسلمين، بل كان من عند الله. ﴿وَ﴾ اعلم يا مُحَمَّد أنك ﴿مَا رَمَيْتَ﴾ حفنة التراب على أعين القوم ﴿إِذْ﴾ عندما ﴿رَمَيْتَ﴾ هم بها، ﴿وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾. ولذلك ما فَعَلَته هذه الرمية، لم تكن بفعل رميتك، بل بفعل رمية الله، وهذا يبقى مفتوحًا عبر الزمن لِمَن يستغيث بالله كي يرى له مَخرَجًا من أمرٍ لا قدرةَ له على مواجهته، فيؤازره الله -سبحانه وتعالى-، ويُغيثه بما يشاء من أسباب.

قال الله -تعالى شأنُه-: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا﴾[الأنفال: ١٧]؛ ﴿وَ﴾ الغاية من مؤازرة الله للمؤمنين، هي أن يُحقّق لهم نصرًا طيبًا؛ ﴿ولِيُبْلِيَ﴾ لينصر ويُظفر ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين آمنوا بالله، وأصلحوا العمل ﴿مِنْهُ بَلاء حَسَنًا﴾ ظفرًا طيّبًا.

 واختُتِمَت الآية الكريمة بخاتمةٍ دقيقةٍ؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾؛ فأي استغاثة من مؤمنٍ، يسمعها الله، وهو ﴿عَلِيمٌ﴾؛ لا شيء يخفى عن علمه.

 مُوهِن كيد الكافرين

يبيِّن الله -عز وجل- بقوله: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [سورة الأنفال: 18].

هُنا بيانٌ وإخبارٌ من الله -عز وجل-، بأنه -سبحانه وتعالى- مُضعِف تآمرِ الكافرين على المؤمنين. فمهما رأيتَ الكافر في قوةٍ ونفوذٍ، يُخبرك الله ويُطمئنك بأنه جعل في بنيته وهنًا، ومهما بدا المؤمن أدنى من ذلك، فإن الله جعل في بنيته قوة.

فالوهن مع الإيمان، يُشكِّل قوةً، والقوة مع الكُفرِ، تُشكِّل وهنًا. ﴿ذَلِكُمْ﴾ النصر الذي حقَّقناه لكم رغم ضعفكم، والهزيمة التي جعلنا ﴿الْكَافِرِينَ﴾ يُمْنَوْن بها رغم قوتهم، اعلموا بأن ﴿ذَلِكُمْ﴾ قد وقع من الله. وهذا مثالٌ رأيتموه وعشتموه، وهو قابلٌ للتكرار مع أيّ مؤمن، وأي كافر، خاصةً إذا أراد الكافر أن يعتدي، أو يستقوي على المؤمن.

 وما جعله الله إلا بشرى

يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة الأنفال: 10].

﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ﴾، جَعَلَ الإمداد ﴿إِلاَّ بُشْرَى﴾، فهذه بشارة خَير، بشَّر بها الله -عز وجل- المسلمين. وهذه الـ﴿بُشْرَى﴾ ترفع من معنوياتهم، وتجعلهم أكثر ثقةً، وهم ينظرون إلى المستقبل الإسلامي، فقال -جل شأنه-: ﴿إِلاَّ بُشْرَى﴾، وليس ﴿بُشْرَى﴾؛ لأن الـ﴿بُشْرَى﴾، قد تكون لمرةٍ واحدةٍ، أمّا ﴿إِلاَّ بُشْرَى﴾، فهي ﴿بُشْرَى﴾، تتبعها بشارات.

 وكلمة ﴿بُشْرَى﴾ بذاتها، وَرَدَت بدقّةٍ، فالـ﴿بُشْرَى﴾، عادةً تكون لأمرٍ سارٍّ يخصّك وقد تَحقَّق دون أن تعلم به، فيأتيك مَن يُبشِّرك بتحقيقه.

والبشارة بطبيعتها تكون لوقوع حدث سعيد نفيس، هذا الحدث الذي يُفرح الإنسان المُبَشَّر، ويُحْدِث نقلةً نوعيةً في مسار حياته، فالبشارة في جميع مستوياتها، هي سماعك عن وقوع حدثٍ سارٍّ يُبلّغك به شخصٌ ما لأوّلِ مرَّةٍ.

﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى﴾؛ جاءت ﴿وَمَا﴾، أيضًا في منتهى الدقَّة، ثم أعقبها ﴿إِلاَّ﴾ لتُثبتها أكثر، وتُضفي إليها دلالات أخرى. فتكاملت جملة بيانية مُتناسِقة، مُتعاضِدة، تغتني بجماليّات الجَوهَر، إلى جانب جماليّات المَظهَر. ولننظر إلى الجملة إذا تم منها حذف ﴿وَمَا﴾، وحذف ﴿إِلاَّ﴾، لأصبحنا أمام: (جعله الله بشرى). هنا ستبدو الجملة ركيكة، ومقتصرة على بُعدٍ واحدٍ، وحالةٍ واحدةٍ، رغم أنَّها تُعبِّر عن ذات المعنى. لكن لننظر إلى براعة السبك القرآني: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى﴾؛ ﴿وَمَا﴾، أي أن ذلك مقدِّمة، ليسَتْ سوى ﴿بُشْرَى﴾، ﴿وَ﴾ -لكن لماذا؟-: ﴿لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾.

إذن الـ﴿بُشْرَى﴾، هي طمأنينةٌ للقلب؛ لأن الإنسان يُبَشَّر بِما يعنيه، ويهمّه أن يتحقَّق.

تُخبرك الآيةُ الكريمةُ في هذا المقام، بأن الله -سبحانه وتعالى-، لا يتخلَّى عن الذي يستغيثه.

وفي الجملة الثانية من الآية، سوف تتكرَّر ﴿وَمَا﴾، كما تتكرَّر ﴿إِلاَّ﴾، لتُصبح الآيةُ أكثر تماسكًا، وأكثر بلاغةً في إظهار المعنى؛ ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾، بشكلٍ مفتوحٍ، أي نصر، سواء أكان لكم، أم عليكم، سواء أكان على الصعيد الجماعي، أو على الصعيد الفردي؛ ﴿إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ لأن الأمر اتَّسَعَ وأصبَحَ عامًّا.

جاء ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ دون ﴿مِنْ عِنْدِ﴾ ربِّكم؛ لكون الخِطاب رغم أنه يعني نصرهم في بدر، لكنه تحوَّل إلى خِطابٍ مستقبليٍّ مفتوحٍ. فبعد هذا النصر الذي حقَّقَه الله لكم، اعلموا أنه ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾ -في الآتي أيضًا في كل زمانٍ ومكان- ﴿إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾.

 فكونوا أهلًا لذلك، وخُذوا بالأسباب حتى ينصركم الله، أو ينصر مَن يأخذ بالأسباب ويكون أهلًا للنصر رغم كفره، فيجعله الله منتصرًا على المؤمنين الذين يكونون قد تقاعَسوا، أو انشقّوا عن بعضهم البعض، أو بَطَروا النعمة، ولم يأخذوا بأسباب النصر، ولم يتهيّؤوا له، فيُمْنَون بهزيمةٍ نكراءٍ، وتكون خسارتهم في الأنفس والأموال، مروّعة، وتُكسَر شَوكتُهم، وتذهب ريحهُم، وتُصبح أرضهم وممتلكاتهم وأعراضهم مُستباحة؛ لأنهم ركنوا إلى الكَسَل، والخمول، والبَطَر، وإثارة النَّعَرات، والانشقاقات، والجور، والاستهلاك، والتبذير.

﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾؛ جملةٌ خاصّةٌ موجَّهةٌ إلى كلِّ مَن يَمُدّه الله بالاستغاثة، ثم تعقبها الجملةُ المفتوحةُ لسائر الناس؛ ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ عندما تكونون أهلًا للنصر، وتستعدّون له كل الاستعداد، وتأخذون بالأسباب التي تجعلكم مُؤهَّلين للنصر، سوف يُمدّكم الله بمقوِّمات النصر، وينصركم، ﴿إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

صدق الله العظيم، والحمد لله رب العالمين.


 


[1] أخرجه مسلم (٢٦١٦).

[2] أخرجه البخاري (٣٥٣٥)، ومسلم (٢٢٨٦).

 

  

أعلى