• - الموافق2025/05/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أسطورة القبر النبوي  في الخرائط الأوروبية

وارتبطت مكة المكرمة عند الغرب الأوروبي بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما ذكره أيضًا فيليكس دي فابري في مستهلّ حديثه عن الجزيرة العربية؛ حيث ادَّعى زيارة مكة المكرمة، على الرغم من عدم ذهابه إليها، واقتصار رحلته على الأراضي المقدسة في فلسطين


تحوَّلت البادية العربية وصحراؤها وسُكّانها لفكرة أسطورية بفضل التشكيل المخيالي عند الغرب الأوروبي؛ لما أدَّته التصورات الذهنية في بناء وصناعة «الآخر» ليناسب التمثيلات المتوهَّمة والمتخيَّلة في المنظومة الفكرية والأيديولوجية الغربية، فجاءت الصُّوَر مرتجلةً، نمطيةً، مكررةً، بعيدةً عن الموضوعية لا تعكس الوجه الحقيقي للآخر الذي تم اختزاله في هيئة مرعبة ومخيفة تنحصر وظائفه وأدواره في ما يرغبه ويرضاه الغرب الأوروبي، فأضحوا يُشكِّلون شعورًا بالرعب في الخيال الأوروبي[1].

كما تميل الصور والوحدات الذهنية والأفكار المسبقة لدى الغرب، فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين والعرب؛ إلى كونها ذات طبيعة دينية إقصائية بحتة، فمقاربة الإسلام تتم في غالب الأحيان بطريقة تغلب عليها القبليات المشوّهة التي تحمل في ثناياها نُكران الآخر، وتَخلق له صورًا مهولة تُسهّل عليها عملية إبعاده وإقصائه بأقل الجهود.

وأسهمت الأساطير القديمة في تشكيل صورة ممزوجة بالخرافات التي التصقت بالإسلام وبرسول الله صلى الله عليه وسلم  في خرائط العصور الوسطى؛ لكونها مزيجًا من حقيقة صغيرة مصحوبة بخيال خِصْب ذي طابعٍ متحيّزٍ وغير مُنْصفٍ، وبطبيعة الحال لجأ رسامو الخرائط لتسجيلها على خرائطهم لتكون أساسًا ومرجعًا يُعتمَد عليه؛ لأنَّهم استقوا معلوماتهم من بعض السِّيَر والروايات المتناقلة والمتوارثة في المتون والسرديات الرحلية والسّفريّة العتيدة التي غلب عليها الجانب الخرافي والطابع الغرائبي والعجائبي؛ لافتقاد مُروّجيها الفرصة الحقيقية لمعايشة الحضارة العربية الإسلامية بشكل مباشر.

انعكاس الفهم الخاطئ لصورة النبي صلى الله عليه وسلم  على الخرائط القديمة:

قدَّمت خرائط العصور الوسطى أسطورة لطالما لاقت رواجًا وصدًى في المجتمعات الأوروبية المسيحية، صدى يُغذّي ويلبّي الكراهية التي زرعها البعض من الباباوات ورجال الدين الذين رفضوا قبول الآخر ورسّخوا ذلك في نفوس الشعب الأوروبي، فأنتجت لها أشعارًا وملاحم وقصصًا استطاعت أنْ تُبقِي على تلك الأساطير حتى وقت قريب، فكلّ الخرافات والسّخافات القديمة المنتشرة في الغرب ما وُضِعَت إِلَّا لتشويه صورة الإسلام في عيون أهل الغرب المسيحي، ويبدو أنَّ هذه الصورة أضحت قوية ومترسّخة الجذور «فكانت تتغلّب بسهولة على أيِّ اتصال موضوعي بالمسلمين الحقيقيين»[2].

ومن بين أساطير خرائط العصور الوسطى: أسطورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي وُصِفَ بالقبر -أو التابوت- المُعلّق على حد تعبيرهم، الطافي في الهواء بفضل الجاذبية أو المغنطة التي تُحيط بقبره -صلى الله عليه وسلم؛ من وجهة نظرهم-.

ويعود أصل تمثيل هذه الأسطورة لكتابات أودوريكو دا بوردينوني (حوالي 1265- 1331م)؛ التي أشار إليها في كتابه ltinerarium، بأنَّ قبر النبي محمد يتم تعظيمه وتقديسه هناك، بنفس الطريقة التي يُقدّس بها المسيحيون القبور المقدسة لديهم عند رحلات الحج؛ «مكة هي المكان الذي دُفِنَ فيه محمد، يذهب المسلمون هناك للحج كما يذهب المسيحيون إلى القبر المقدس»[3]. وقد ارتبطت تلك الأسطورة دائمًا بالمدن الدينية الشرقية المهمة سياسيًّا ودينيًّا، مثل مكة المكرمة وبيت المقدس.

علاوةً على ذلك، يجب ألَّا ننسى أنَّ الجزيرة العربية كانت للغرب مهدًا للإعجاب بالشرق، لذلك سيكون هناك مجال لبعض الغرائب والعجائب والأساطير، كتلك الأسطورة التي اتسقت بالعقل الأوروبي من خلال تابوت القديس توما الأكويني، والذي اعتقد البعض أنَّه معلّق في الهواء، لذا ربط رسامو الخرائط بينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم [4].

ومن بين خرائط العصور الوسطى المتناولة: تلك الأسطورة المتعلقة بخرائط أنجيلينو دولسيرت والمؤرخة بين أعوام 1325- 1339م، من خلال تمثيل مكة المكرمة كأنها بقعة سوداء بين برجين عاليين ممثلين على الخريطتين. ويقدّم النص التوضيحي المجاور للشكل على الخريطة أنَّ «في هذه المدينة يوجد قبر محمد مُعلّقًا في الهواء بحكم الجاذبية»[5].

ويفسّر البعض اللون الأسود الموجود بأنه تمثيل الحجر المغناطيسي الذي يجعل التابوت معلقًا، وهو ما أشارت له الدراسة المتعمقة التي كتبها Sandra Sáenz-Lápez Pérez؛ والتي توضّح أنَّ بعض الخرائط أشارت لـ«تابوت محمد» -على حد تعبيرهم-، يُمثّل الوعاء الذي تُحفَظ فيه رفاته؛ لأنَّه يتّخذ شكل النعش، ومُشابه للهيكل المرتبط بالقبر المقدّس في العقيدة المسيحية، والتوابيت والأواني الجنائزية إبَّان العصور الوسطى والمستخدَمة لحفظ آثار ورفات القديسين، الأمر الذي دعا رسّامي الخرائط الغربيين لتمثيل أشياء مألوفة لديهم وتتطابق مع الغرض المراد تمثيله؛ لأنَّ رؤيتهم لقبره صلى الله عليه وسلم  في هذه الخرائط تعود لفكرة أنَّه صلى الله عليه وسلم  يُعْبَد مِن قِبَل المسلمين، لذا يجب تقديسه والإشارة لتابوته وقبره[6]؛ على حدّ زعمهم.

فكان لا بدَّ من ربط هذه الصورة بالتوابيت ذات التقاليد العريقة والمألوفة لهم في عالم العصور الوسطى والمرتبطة بجِرَار حِفْظ رُفَات القديسين[7]، وهو ما أشار له جويلم سولير في خريطته المؤرخة في 1380م؛ حيث جاء تمثيل قبره صلى الله عليه وسلم  مرتكزًا على أرجل صغيرة في قاعدته، ولكنها لا تدعمه فيظهر الشكل معلقًا في الهواء، يصاحبه نصّ يشير لتلك الأسطورة: «مكة: في هذه المدينة قبر محمد النبي...[8] يأتي المسلمون إلى هنا من جميع الأنحاء لرؤية محمد»[9].

 كما ربَط بعض الباحثين ممن اهتموا بدراسة أسطورة التوابيت المعلقة؛ بين أسطورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم  وبعض الأحداث الإسلامية، ومنها رحلة الإسراء والمعراج، والصخرة المعلقة ببيت المقدس التي صعد من عليها النبي صلى الله عليه وسلم  ليمتطي البراق ليعرج به إلى السماء.

كما ربط البعض بينها وبين الحجر الأسود الموجود بالكعبة المشرفة؛ حيث اعتقدوا بأنَّه حجر مغناطيسي، وهو ما أشار له رودريجو خيمينيز دي رادا (حوالي 1170- 1247م) رئيس أساقفة طليطلة[10]، وكان ممثلاً للكنيسة الإسبانية في مجلس ليون الكنسي عام 1245م، والذي تبنَّى فكرة الحرب ضد المسلمين في الأندلس واسترجاع الأراضي من يد المسلمين[11].

ومثَّلت رحلة الإسراء والمعراج حدثًا ذا أهمية في العقيدة الإسلامية، فضلًا عن محتواها الإعجازي، فاحتلت مركزًا جوهريًّا في التأويل والسرد؛ كونها من أَجَلّ المعجزات وأعظم الآيات التي تفضَّل بها المولى -سبحانه- على نبيِّه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم ، دون بقية الأنبياء؛ فلم يَسبق لبشرٍ أن قام برحلة مشابهة[12]، فالقائم بالرحلة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  عبر رحلة ليلية «أُفقية» عبر الزمان والمكان، أُسرِي به فيها من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى على ظهر البراق، مع صعود معراج- «رأسي» إلى السماء[13].

وارتبطت مكة المكرمة عند الغرب الأوروبي بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما ذكره أيضًا فيليكس دي فابري في مستهلّ حديثه عن الجزيرة العربية؛ حيث ادَّعى زيارة مكة المكرمة، على الرغم من عدم ذهابه إليها، واقتصار رحلته على الأراضي المقدسة في فلسطين، ولم تُتَح له زيارة مكة، ولكنه اختلق عددًا من القصص لتؤكد على الخرافات التي شاعت في أوروبا آنذاك وانتشرت حتى نحو قريب؛ أنَّ الكثير من المتعبّدين يأتون لمكة ليشاهدوا فيها تابوت النبي محمد المعلّق في الهواء؛ تلك الأسطورة المسيطرة على أذهان الغرب لفترات طويلة.

واحتفظت إيطاليا كباقي دول أوروبا في وعيها الجمعي بتلك الصور القاتمة التي صاغها الكُتّاب البيزنطيون عن الرسول صلى الله عليه وسلم  من قبل، فأصبح لدى كُتّابها حقيقة متوارثة ومُسلّمات بديهية وثابتة وقناعات لا تقبل الشك أو المراجعة أو التناول العلمي الصحيح، وبذلك لم يكونوا أُمناء نزهاء في نقل حقيقة الدين الإسلامي ونبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم [14]. ومن ذلك ما ذكره المستشرق الإيطالي لودفيوو دي فارتيما (908هـ/ 1503م)، عن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حيث وصفه بأنه تابوت «كان يتأرحج في الهواء بقوة جاذبة لحجر مغناطيس»[15].

جاء ذلك الوصف في إطار تناوله لمكة المكرمة، ووصفه الكعبة المشرفة بأنَّها برج يبلغ أطوال أضلاعه الأربعة ست خطوات، غُطِّي هذا المبنى بالحرير الأسود الكسوة-، وبه باب من الفضة الخالصة بارتفاع قامة الإنسان، عن طريقه يمكن دخول الكعبة، وعلى جانبي الباب جرّتان يقال إنهما مليئتان بالبلسم من إهداء السلطان، وعند كل ركن من أركان الكعبة توجد حلقة كبيرة، ووصف الطواف وصفًا مقتضبًا، بقوله: «وفي الرابع والعشرين من شهر مايو يبدأ كل الناس قبل طلوع النهار في الطواف حول الكعبة سبعة أشواط، وهم في هذه الأثناء يتمسحون بأركانها ويُقبّلونها»، وهنا لم يُشِر لأيِّ طواف يقصد، ولعله طواف الإفاضة بحسب سياق تواريخه. ذلك الوصف الذي يعكس حالة التخبُّط وعدم الفهم لدى فارتيما، والنابعة من منطلق خلفيته ومعتقده فاختلق وصفًا جانَبه الصواب في العديد من الأمور على الرغم من حالة الانبهار والإعجاب الملازمة له، ما يظهر في وصفه للمسجد الحرام، بأنَّه يقع في وسط مكة معبد جميل يشبه (الكولوزيوم) في روما إِلاَّ أنَّه غير مبني من الحجارة الضخمة، وإنَّما من الطوب الأحمر، وله تسعون بابًا مبنيًّا أو مئة باب، ذات أقواس عقود-، ويواصل وصفه، بقوله: «وعند دخولنا هذا المعبد -المسجد- انحدرنا عشر درجات أو اثنتي عشرة درجة، وحول هذا المدخل كان يجلس باعة يبيعون الجواهر، ولا شيء غير الجواهر، وعندما تنزل الدرجات المذكورة تجد كل أنحاء هذا المسجد، وكل شيء حتى الجدران مغطاة بالذهب، وتحت أقواس المسجد»، ويواصل انبهاره بقوله: «والحق أقول لكم: إنه من الصعب أن أصف لكم روعة الروائح التي شممتها في هذا المعبد -المسجد-، إنها تظهر كرائحة أو إبهاج»[16].

وفي خريطة أنجيلينو دولسيرت والمؤرخة في عام 1325م [شكل رقم (1)]، تظهر بشكلٍ أبسط من ذلك الممثل في خريطة 1339م، فجاءت في صورة بناية محاطة ببرجين بنهاية مثلثة الشكل على غرار أبراج الكنائس الأوروبية، يظهر في البرجين عدد من الفتحات تُشير لنوافذ، وجاءت فتحتا الباب باللون الأحمر، ويتوسط البرجين جزء صغير تم تلوينه باللون الأحمر المموج بالأبيض، تعلوه بقعة سوداء. ولا شك أنَّ التفسير الأولي لهذه البقعة السوداء سيقع على الكعبة والحجر الأسود، ومع ذلك فإن المخيال الأوروبي ربط بينها وبين أسطورة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم  في تمثيل رمزي لقبره صلى الله عليه وسلم ؛ كما اعتقد الغرب الأوروبي!

بينما في خريطة أنجيلينو دولسيرت والمؤرخة لعام 1339م [شكل رقم (2)]؛ لجأ للمخطّط التقليدي للمدينة، فتم تصورها من خلال تجاور سورين دائريين من منظور مائل تنبثق منه بعض الأبراج والمباني، الأبراج تعلوها قبة كما في المدن الإسلامية الأخرى الممثلة على الخريطة، ومن خلال الرسم التوضيحي لمكة المكرمة والشكل الأيقوني لها يظهر تكرار للأسوار الجدارية؛ في إشارة واضحة للمسجد الحرام، بوضعه في مقدمة التصميم ليكون أكثر وضوحًا، مع ظهور البقعة السوداء في أعلى الشكل[17].

 

[شكل رقم (1)]

 

 

[شكل رقم (2)]

وفي خريطة بيزيجانو والمؤرخة 1367م [شكل رقم (3)]، يظهر شكل مفرّغ من الداخل ذو مخطط دائري مفصلي بوجود مجموعة من العقود يظهر من خلالها جزء أسود مكعب الشكل، ولعل بيزيجانو يشير لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ من وجهة نظره. سمح ذلك الشكل برؤية القبر، أو كما أشار رسامو الخرائط تابوت أو نعش محمد-، فيظهر مُعلّقًا في الهواء، تعلو تلك البناية أقواس وقبة مرتفعة يعلوها هلال ونجمة في دلالة رمزية إلى الإسلام.

[شكل رقم (3)]

وأشار الأطلس الكتالوني والمؤرخ في عام 1375م [شكل رقم (4)] إلى أنَّ مكة المكرمة قِبْلَة المسلمين ومَعْلَم مُقدّس، وأخذت اللون الأزرق، وهي المدينة الوحيدة المحدَّدة بذات اللون على الخريطة، ويظهر بجوار موقعها نص توضيحي مكتوب يذكر «مكة: في هذه المدينة يوجد قبر محمد نبي المسلمين؛ الذين يأتون إلى هنا من جميع المناطق لرؤيته، ويقولون: إنه بعد رؤية قبره لم يعودوا يستحقون رؤية أيّ شيء آخر، ويغمضون أعينهم تكريمًا لمحمد»[18].

وهنا خلط بين موضع دفن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  والكعبة المكرمة؛ ولأنَّ إبراهم كريسك يهوديّ فقد جانَبه الصواب، وبدأ يخلط بين مكة والمدينة؛ فهو يعتقد بأنَّ القبر المزعوم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  في مكة وليس في المدينة وهو اعتقاد سابق- تكرر في العديد من الخرائط.

هذا، ولم يُقدّم الأطلس الكتالوني الوصف التفصيلي لمكة المكرمة، فلم يُشِر إليها بأنَّها البيت الحرام الكعبة-، بل أشار إليها بمكة كمنطقة، والتي تبرز عن بقية المواضع الموضحة في الأطلس فحجمها مختلف عن حجم باقي المدن من حيث التخطيط فهي بارزة واضحة، بالإضافة لتعدُّد المآذن الموجودة الأبراج-، ويظهر الجزء الداخلي منها باللون الأزرق، على النقيض من باقي المواضع المشار إليها في الأطلس، والتي اتخذت اللون الأحمر، ويتوسط ذلك المخطط بقعة ذات لون ذهبي مستطيلة الشكل غير واضحة، ويمكن رؤية بعض الدعامات الصغيرة في قاعدتها تحمل هيكلاً -أو تابوتًا- معلقًا في الهواء.

 

[شكل رقم (4)]

وتكرّر ذلك التمثيل في خريطة جافودا كريسك والمؤرّخة لعام 1375م [شكل رقم (5)]، بنفس النمط الذي جاء في الأطلس الكتالوني باستثناء خلفية المسجد الكبير جاءت متعددة الألوان خاصة اللون الأحمر، بينما البقعة الذهبية الموجودة داخل الشكل تظهر بشكل أكبر من الأطلس، في الوقت الذي يظهر فيه تابوت النبي صلى الله عليه وسلم  في شكل بناية متعددة الأضلاع مغطاة بصفائح تُشكّل ثلاثة صفوف متراكبة على أرجل صغيرة كدعم وقاعدة لها تطفو في الهواء. والنص التوضيحي مُشابه لذلك الموجود في الأطلس الكتالوني: «في مدينة مكة هذه يوجد قبر نبي المسلمين محمد، الذين يأتون إلى هنا من كل المناطق للحج، ويقولون: إنَّ هناك أشياء لا تستحق الرؤية من دون النظر إلى قبر محمد»[19].

ومِن المُلاحَظ أنَّ فكرة إصابة بعض المسلمين بالعمى بعد رؤية قبر النبي صلى الله عليه وسلم  والذي يُعدّ شيئًا ثمينًا، كما أشار رسامو الخرائط، لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يبصروا بعدها. ويظهر ذلك التقليد في الأطلس الكتالوني، والخريطة المنسوبة إلى جافودا كريسك وخريطة جوليام، بأنَّ المسلمين المكفوفين يتلقون تقديرًا اجتماعيًّا عاليًا؛ لأنَّهم يُعتبرون قدّيسين مِن قِبَلهم ويكرمونهم ويحظون بتكريم كبير.

 

[شكل رقم (5)]

وبالعودة لأسطورة التابوت المعلق؛ نجد في خريطة ميسيا دي فيلاديستيس والمؤرخة لعام 1413م [شكل رقم (6)]، شكلًا ممثلًا على الخريطة، وهو قطعة ذهبية اللون منتهية بأشكال ذات فصوص، تطفو أعلى تصميم مكة على الخريطة، وبفضل النص التوضيحي الذي يُشير إلى أنَّ تابوت محمد محمول في الهواء بفضل المغناطيس؛ «مكة: حيث تابوت محمد الذي يُحمَل في الهواء تحت الكثير من المغناطيس، والذي يرغب في زيارته جميع المسلمين».

وهو ما جاء أيضًا في خريطة جنوة من أواخر القرن السابع الهجري/الرابع عشر الميلادي، والتي تشبه لحدّ بعيد تلك الموجودة في الخرائط السابقة بأنَّه «في هذه المدينة -مكة- يأتي بعض المسلمين من جميع الأنحاء لزيارة مكة من جهة، ويرون قبر محمد نبيهم؛ حيث قالوا بعد أن رأوا قبره المقدس: إنهم لا يستحقون أي شيء أكثر من ذلك، والبقية التي حُرمت من رؤيته يجعلون أنفسهم أقل درجة ممن رأوه».

 

[شكل رقم (6)]

وتُظهر خريطة جوليم سولير والمؤرخة لعام1380م [شكل رقم (7)]، مكة المكرمة دون اختلافات، فتأتي الإشارة لتابوت محمد صلى الله عليه وسلم  في شكل صندوق يظهر معلقًا في الهواء يعتقد أنَّه ذلك القبر المزعوم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء في شكل صندوق مستطيل بغطاء مائل للجنب، وربط البعض هذه الصورة النمطية لتمثيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم  بالتوابيت أو الأواني الجنائزية والتي انتشرت في المجتمع الإسباني في العصور الوسطى، ويذكر النص التوضيحي: «مكة: في هذه المدينة قبر النبي محمد...[20]، المسلمون يأتون إلى هنا من أجل الحج من جميع المناطق».

 

[شكل رقم (7)]

وأما عن خريطة فالسيكا والمؤرخة لعام 1437م [شكل رقم (٨)]، فتأتي مكة بصورة مغايرة إلى حدٍّ ما، فجاءت على غرار المدن الأوروبية ذات السقوف المقرمدة الحمراء، فصُمِّمت على هيئة بناية لها خمسة أبراج مُدبَّبة القمَّة بخلاف المدن الإسلامية ذات القبة الحمراء التي جاءت في الخرائط السابقة، ويظهر في البناية عدد من الفتحات الأبواب-، غير أنَّ الشيء اللافت للنظر هو تلك الراية الكبيرة التي تعلو البناية باللون الأزرق الداكن، يتوسطها بعض الخطوط الطولية ذهبية اللون، فهي الراية الوحيدة الظاهرة في صورة الجزيرة العربية على الخريطة.

  

[شكل رقم (٨)]

بينما في خريطة بورجيا المؤرخة لعام 1430م [شكل رقم (٩)]، تظهر بعض الصور الظلّية التخطيطية والمُعبّرة بدورها عن مسلمين اثنين في الصلاة في مكة المكرمة، تُصوّر المدينة على أنها خيمة يعلوها قبة وراية صغيرة، وهي بعيدة كل البعد عن الصورة التي جاءت بها المدن على هذه الخريطة، وتشبه تلك الخيمة الخيام الأخرى الممثلة في منطقة بلاد المغرب ومنطقة جبال الأطلس، وتحملها الجِمَال الهودج- من ناحية أخرى، ويظهر جانبا الخيمة مزخرفين بنقاط رأسية، كما يظهر باب الخيمة مفتوحًا يمكن من خلاله رؤية داخلها؛ حيث يظهر هيكل رباعي الزوايا يُظنّ أنَّه قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  كما يشير النص المصاحب، والذي يذكر ثراء المدينة المرتبط والناتج عن تجارة التوابل والأحجار الكريمة.

 

[شكل رقم (٩)]

 


 


[1] مكي سعد الله، البقاع المقدسة في الرحلة الغربية -رحلة في بلد العجائب- (حجُّ مسيحيٍّ إلى مكَّة والمدينة)، مجلة دراسات استشراقية، ع (16)، السنة الخامسة- خريف 2018م/ 1440هـ، ص43.

[2] راجح إبراهيم السباتين، شبهات ومطاعن الاستشراق الديني في مواجهة الإسلام ونبوّة محمدٍ (الحكاية الوافية والردود الشافية)، كتاب الألوكة، عمان، الأردن، 2010م، ص50.

[3] Sandra Sáenz-Lápez Pérez: La Peregrinación A La Meca En La Edad Media A Tra Vés De La Cartografía Occidental, Revista de poética medieval , 19 (2007),, p.195.

[4] Sandra Sáenz; op.cit., p.202.

[5] Ibid., p.183.

[6] Sandra Sáenz-López Pérez: La pluralidad religiosa del mundo en el siglo XV a través de la carta náutica de Mecia de Viladestes (1413),  Anales de Historia del Arte, (2012), Vol. 22, Núm. Especial, p.399.

[7] Sandra Sáenz: La Peregrinación A La Meca., p.184-185.

[8]  حذفنا وصفًا لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم .

[9] Sandra Sáenz: La pluralidad religiosa del mundo, p.184

[10] Sandra Sáenz: La Peregrinación A La Meca., p.200-201.

[11] María Florencia Mendizábal: Op.Cit., p.58.

[12] مكي سعد الله: المرجع السابق، ص76.

[13] Jorge Rigueiro Y Gerardo Fabián Rodríguez: El Milagroso Viaje De Mahoma? La Imagen En Una Obra Prohibida (S Xv), En Lecturas Contemporáneas De Fuentes Medievales: Estudios En Homenaje Del Profesor Jorge Estrella. Mar Del Plata (Argentina): Universidad Nacional De Mar Del Plata, P.2.

[14] محمد العمارتي، المرجع السابق، ص 17.

[15] حسن سعيد غزالة، أسلوب النقض في كتابات الرحالة الأوروبيين، مجلة جذور، الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي بجدة، مج 9، ج20، 2005م، ص95.

[16] محمد حسن المزني، وصف مكة ومظاهر الحج في رحلة المستشرق الإيطالي لودفيوو دي فارتيما (908هـ/ 1503م)، بحث منشور ضمن الملتقى العلمي الثامن عشر لأبحاث الحج والعمرة والزيارة بمعهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة، جامعة أم القرى (15 - 16 شعبان 1439هـ الموافق 1 - 2مايو 2018م)، ص 26-27.

[17] Sandra Sáenz-Lápez Pérez: La Peregrinación A La Meca, p.182.

[18] Sandra Sáenz-Lápez Pérez: La Peregrinación A La Meca, p.183.

[19] Sandra Sáenz-Lápez Pérez: La Peregrinación A La Meca, p.184.

[20] حذفنا وصفًا لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم .

أعلى