فالعبادات تتماشى مع الفطرة والـ(بساطة) وتتقبّلها، ولا تتلاءم مع الميكنة والتقنين والتعقيد -وإن كانت تؤدي الغاية منها بكفاءة مع كافة الظروف-، لكن دون قصد للتكلُّف أو اتخاذه هدفًا يُربط به تنفيذ العبادة
جاءت الشريعة الغراء متَّفقة مع الفطرة السليمة؛ قال تعالى: ﴿فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد علَى الفِطْرة»[1]، وجاءت التكاليف متوافقة مع هذه الفطرة ومُوجّهة لها ومُكمّلة ومُغذّية.
والتكليف بقدر الطاقة سلوك عامّ في الإسلام، تآزرت عليه آيات القرآن الكريم -بصِيَغ مُتعدّدة-، وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فما يَقدر عليه فرد قد يَعجز عنه آخر، فيُطالَب من الأداء بقَدْر طاقته.
والحديث في هذا ينتظم في عددٍ من المناحي والمسارات، نتناول ههنا منها جانبَ فطرية العبادات وتوافقَها مع طبيعة النفس البشرية، بما يُعرَف في المفاهيم الدارجة بـ(البساطة).
ورغم أن الأصوليين يُعبِّرون عن عبادات الفعل والترك بـ«التكاليف»؛ إلا أنها في واقعها لا تتجاوز حدود الطاقة والإمكان بلا عسر؛ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:١٨٥]، فضلاً عن ارتقاء فئة من المؤمنين إلى درجة الاستمتاع والتلذذ بالعبادة -التي ربما استثقلها غيرهم-؛ لما يجدون من فَيْضها عليهم طمأنينةَ نفسٍ، وراحةَ بالٍ، ورضوانًا من الله وبركات، رائدهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ القائل: «يا بلالُ، أقِمِ الصَّلاةَ، أرِحْنا بها»[2]، والقائل: «وجُعِلَت قُرّة عيني في الصلاة»[3].
فالعبادات تتماشى مع الفطرة والـ(بساطة) وتتقبّلها، ولا تتلاءم مع الميكنة والتقنين والتعقيد -وإن كانت تؤدي الغاية منها بكفاءة مع كافة الظروف-، لكن دون قصد للتكلُّف أو اتخاذه هدفًا يُربط به تنفيذ العبادة؛ فهذا عمران بن حصين -رضي الله عنه- يقول: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: «صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»[4].
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَزِعًا خائفًا، يقول: يا رسول الله، هلكت! -فقد وقع على امرأته في نهار رمضان، ووجبت عليه الكفارة المغلظة-، فتدرَّج معه النبي صلى الله عليه وسلم نزولاً في سُلّم الاستطاعة؛ مِن عتق رقبة، إلى صيام شهرين متتابعين، إلى إطعام ستين مسكينًا، إلى أن دفَع إليه النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ (مكتل) فيه تَمر ليتصدق به، فيقول الرجل: أعلى أفقر منّي يا رسول الله؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطْعِمْه أهلك»[5].
وأعظم مؤتمرات الدنيا انعقد في الصحراء تحت شجرة؛ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨]، ولعل من أسباب ذِكْر الشجرة -رغم عدم أثرها في موضوع البيعة نفسه- بيان فطرية العبادات، وسهولة وسائلها، وعدم التكلف في الاستعدادات لها.
وأعظم خُطَب التاريخ كانت تُلْقَى بجوار جذع نخلة، في أشرف مسجد -بعد المسجد الحرام-[6].
ومُتّكأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستندُه في مسجده كان جذعَ نخلة[7]، وصلواته كانت في مسجد صغير المساحة، وفرشه الحصباء[8]، وأعمدته جذوع النخل، وسقفه من جريدها، إذا نزل مطر وَكَفَ على مَن فيه؛ قال الإمام البخاري -رحمه الله-: «باب: بُنْيَان المسجد، وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جَرِيد النخل. وأمَر عُمر ببناء المسجد، وقال: أَكِنَّ النَّاسَ من المطر، وإياك أن تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ الناس. وقال أنس: يَتَبَاهَوْنَ بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً. وقال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كما زخرفت اليهود والنصارى»[9].
ونلحظ من كلام أنس -رضي الله عنه- التلازم العكسي بين انصراف الهمة إلى العناية بالمظهر والتكلّف فيه، وما ينصرف بقَدره من العناية بالمخبر.
فالخلاصة:
• لا تتكلّف مفقودًا، ولا تَذُمّ موجودًا.
• إن توفرت لك الوسائل المساعِدة على الأداء والراحة فبها ونعمت، وإلا فلا تتكلّفها.
• خذ من المتاح المباح بقدر الحاجة من غير تكلُّف، وسَايِر ما أُبيح من معطيات عصرك، من غير مبالغة في الطلب ولا في التواضع.
• تذكر أن الميزان في هذا كله قول الله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ 14 وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14- 15].
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه البخاري (1319)، ومسلم (2658).
[2] أخرجه الإمام أحمد (22578)، وأبو داود (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7892).
[3] أخرجه الإمام أحمد (14037)، والنسائي (3940)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124).
[4] أخرجه البخاري (1066).
[5] أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1111).
[6] انظر صحيح البخاري (3392)، وصحيح مسلم (2658).
[7] انظر صحيح مسلم (573)، و(1214)، وأصله في صحيح البخاري (1172).
[8] أخرجه مسلم (945)، وأصله في صحيح البخاري (1260).
[9] صحيح البخاري (1/171)، وانظر الحديث (638).