• - الموافق2025/05/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مفاوضات طهران - واشنطن...  ودور الجغرافيا السياسية في تحديد مصيرها

إن ما يجري بين واشنطن وطهران لا يتجاوز تحديد أُطُر اتفاق جديد على إدارة العلاقات في المرحلة المقبلة، لا سيما بعد خسارة إيران في سوريا، وكذلك انتكاسة حزب الله في جنوب لبنان، فالتقارير الصادرة من إيران تقول بأن جولات المفاوضات أكَّدت حرص واشنطن على إبرام ات


أظهرت الطريقة التي تعاطت بها واشنطن مع ميليشيات الحوثي في اليمن الأشهر الماضية، وانسحابها من المواجهة في البحر الأحمر؛ أن الإدارة الأمريكية لا تتبنَّى المُواجَهة المُسلَّحة كأحد الخيارات في التعاطي مع إيران، وهذا السبب غالبًا لا يُبرِّره الاستنزاف المادي الكبير لمثل هذه المواجهة بقدر ما يؤكد احتياج الصراع الحضاري المُتوارَث بين العرب والترك والفرس لوجود إيران بعقليتها التوسعية الاستيطانية التي تُجبر العرب على علاقات التبعية لواشنطن.

في مجلة «فورين أفيرز» نُشِر مقال حول جولة المفاوضات الحالية بين الطرفين، كشف أن التجارب التفاوضية السابقة -التي بدأت في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وتواصلت في عهد بايدن وترامب عام 2015 وعام 2018م- استغلتها إيران للمماطلة، وإنتاج ما يكفي من اليورانيوم المخصب لإنتاج أسلحة نووية ورؤوس حربية متعددة.

فرضت الجغرافيا السياسية في المنطقة على الترك والعرب -الذين يجمعهم جوار مشترك وعمق حضاري مرتبط بالهوية الإسلامية السُّنية، وحدود بحرية أظهرت تكاملية تحالفاتهم-، معركة واحدة متشعّبة الأوجه والأهداف يتصدرها عدوّان استعماريان يقودان المنطقة بأَسْرها لحالة من الفوضى والتقسيم. وهنا تبرز أهمية إدراك أن الحرب والمواجهة بين واشنطن وطهران تعني خسارة الولايات المتحدة وإسرائيل نقطة ارتكاز حيوية في الصراع مع القوى السُّنية الموجودة.

ففي الوقت الذي طرحت فيه الولايات المتحدة على الطاولة مسألة تخفيف العقوبات؛ رفعت الدبلوماسية الإيرانية سقفها للتفاوض، وهدَّدت بإفشال هذه الجولة من المحادثات، ولربما استشعرت إيران من انسحاب واشنطن من المواجهة مع جماعة الحوثي في اليمن، بأن الإدارة الأمريكية بحاجة شديدة لوجود إيران كقوة فاعلة ومؤثرة في المنطقة؛ رغم صدامها مع مخططات واشنطن.

لقد وضعت خطة العمل الشاملة المشتركة التي وُقِّعت في صيف 2015م قيودًا مُهمَّة على البرنامج النووي الإيراني؛ إلا أنها سمحت في نفس الوقت بتخصيب اليورانيوم ضمن قيود دولية صارمة؛ إلا أن إيران كانت ستخرج من أهمّ قيود الاتفاق في عام ٢٠٣٠م، بنفس البرنامج النووي تقريبًا كما كان في عام ٢٠١٥م.

انسَحب ترامب في مايو 2018م من خطة العمل المشتركة، ومنَح إيران فرصة كبيرة لاستئناف عملية البحث والتطوير في أنشطة التخصيب، وتجاهَل الرئيس جو بايدن هذا الأمر، لكنَّ الضغوط الصهيونية أجبرت الإدارة الأمريكية الحالية على العودة مرة أخرى للضغط على إيران؛ تجنبًا لعملية عسكرية صهيونية منفردة ضد إيران.

ورغم النقاش المتضخم بشأن برنامج إيران النووي؛ إلا أن كافة المعطيات لا تشير إلى جدية أمريكية في منع إيران من الحصول على أسلحة نووية؛ لاعتبارات تتعلق بتوزيع القوى في المنطقة، فإهمال وتجاهل المشروع الإيراني طوال عقد من الزمان، ثم العودة مرة أخرى لمتابعته هو فقط مشروع إلهاء لإرضاء الصهاينة وتهدئة مخاوف حلفاء واشنطن من العرب؛ لأن واشنطن لا تستشعر خطورة وجود الأسلحة النووية والكيميائية إلا إذا كانت تحت سيطرة قوى سُنية، وهذه الحقيقة ظهرت جليًّا في العراق وليبيا، ومعاقبة تركيا على امتلاك صواريخ أس_400 الروسية.

المُبرِّر الآخر أمام واشنطن لتقييد طموحات إيران النووية يدلّ على جديتها مَطالبُ المملكة العربية السعودية بإنشاء برنامج نووي خاص بها، والتفاوض مع روسيا بهذا الشأن، والذي كان محل رفض قاطع مِن قِبَل الدولة العبرية والنُّخَب السياسية في مجلس الشيوخ الأمريكي، وكذلك المشروع التركي والمحاولة المصرية السابقة في محطة الضبعة، وهذا الأمر سيُعرِّض بالتأكيد الدولة العبرية للخطر، لذلك نجحت واشنطن في احتواء المطلب السعودي من خلال اتفاقية ثنائية بين الجانبين لتحقيق تطلعات المملكة في هذا الجانب، بينما قد تواجه أيّ محاولات تركية مصرية مشابهة مقاومةً وصدامًا مع واشنطن، بينما سيبقى الخيار الإيراني على الطاولة بهدف ترويض إيران بما يخدم مصالح الأمن القومي الأمريكي.

ربما يمكن القول: إن ما يجري بين واشنطن وطهران لا يتجاوز تحديد أُطُر اتفاق جديد على إدارة العلاقات في المرحلة المقبلة، لا سيما بعد خسارة إيران في سوريا، وكذلك انتكاسة حزب الله في جنوب لبنان، فالتقارير الصادرة من إيران تقول بأن جولات المفاوضات أكَّدت حرص واشنطن على إبرام اتفاق ضمن إطار زمني محدود، بينما إيران تبحث عن اتفاق مرحلي يضمن لها تخفيف العقوبات؛ فالرئيس الأمريكي يعتقد أن اتفاق فيينا لعام 2015م كان سيئًا؛ إذ يسمح لإيران بتخصيب يورانيوم بنسبة 3,67 في المائة، ويُقيّد مخزون اليورانيوم المخصب لديها، ولا يمنعها من تخزينه.

وهذا الأمر يؤكد أن صعود القوة العسكرية لإيران يتم السماح به والتغاضي عنه، بما يوازي الصعود التركي العسكري؛ لصُنْع حالةٍ من توازن القوى في المنطقة، فلم تُحدّد القنوات الرسمية الأمريكية القضايا المطروحة للتفاوض خلال الجولات الماضية، ولم تظهر تفاصيل بشأنها، لكنها تميل، على ما يبدو، إلى اعتبار المحادثات سياسيةً وإستراتيجيةً، تتناول دور إيران ووظيفتها في المشهد الجيوستراتيجي الإقليمي.

يمكن تأكيد ما سبق بشأن طبيعة الحوار الإستراتيجي الدائر بين طهران وواشنطن من خلال ما أشار إليه ديفيد ريجوليت روز -الباحث في معهد العلاقات الإستراتيجية والدولية وخبير شؤون الشرق الأوسط-، الذي أشار إلى أن اختيار ستيف ويتكوف مبعوثًا خاصًّا لترامب في هذا الملف، وليس ماركو روبيو، مؤشر على أن ترامب يبحث عن صفقة دون خسائر، مستبعدًا المواجهة المُسلَّحة؛ فالرجل من عالَم الأعمال وجمع الثروات، وليس النزاعات السياسية والحروب، ولذلك فهو على الأرجح يبحث عن صفقة محاصصة مع إيران في المنطقة، ولم يأتِ لصنع المزيد من الخصومات.

وصرَّح «جوناثان بيرون»، -المتخصص في التاريخ الإيراني في مركز إتوبيا للأبحاث في بروكسل-، بأن هذه حقيقة لم تَغِب عن طهران. وأشار إلى تصريحات الرئيس الإيراني «مسعود بزشكيان» بأن بلاده منفتحة على الاستثمارات الأمريكية.

وأضاف: «موقف إدارة دونالد ترامب الجديدة تجاه إيران يختلف اختلافًا ملحوظًا عن موقف إدارته الأولى». وأوضح أنه بين عامي 2016 و2020م، كان هناك موقف أكثر تشددًا؛ بسبب وجود مجموعة من المحافظين المحيطين به والقريبين من الدولة العبرية، أمثال: وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي السابق جون بولتون؛ الذي دعم سابقًا ضرب العراق وأفغانستان، وكذلك رودي جولياني. لكن هذه المرة تبحث واشنطن عن علاقة مستقرة مع طهران بخلاف المرات السابقة، لذلك تحاول الوصول إلى نقاط تفاهم والتقاء بشأن إدارة المنطقة في المرحلة المقبلة، وهذا الأمر شاهدناه سابقًا من خلال العمل المشترك بين الجانبين في الملف الأفغاني والعراقي.

لذلك، فإن ما يجري ليس له علاقة بالملف النووي الإيراني، وإن كان هو ركيزته، بقدر ما هو مرتبط بالمتغيرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، وهي غالبًا ليست في مصلحة الدولة العبرية.

 

 

أعلى