• - الموافق2025/05/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سوريا  وأمنية «الاستقلال»

ترامب تاجر بارع، وهو قد رفَع الثمن عاليًا جدًّا لرفع العقوبات عن سوريا، والتي ما كان لها أصلًا أن تكون سلعة يُقايض بها ترامب الشرع، لو أن العالم كان عادلًا؛ فتلك العقوبات، لم تُفرَض على نظام الشرع، ولا الفصائل السورية جميعها، وحيثيات إقرارها تأسست على «فر


يعرف الرئيس الأمريكي أهدافه جيدًا، ولا يُجهد نفسه كثيرًا في تجميلها، فهو يتَّسم بصراحةٍ واضحةٍ فيما يتعلق بمتطلباته، ولا يُحبّذ -غالبًا- التخفّي خلف شعارات الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل يُفضِّل أن يتعامل كرجل أعمال أو تاجر حاذق يتحيّن الفرص، ليعقد الصفقات المربحة، حتى مع ألدّ أعدائه، ولهذا فهو يتمتع بجرأة كبيرة في اتخاذ القرارات، ما دام يراها في صالح مشروعه لنهضة الولايات المتحدة.

 

ولذا فهو لم يتردّد طويلًا في المُضِي قُدمًا في تنفيذ رؤيته الجديدة لمنطقة «الشرق الأوسط»، والتي تتلخّص في إعادة تموضع الولايات المتحدة فيها، والإفادة من نفوذها وفق سياسة مغايرة لأسلافه، ينأى فيها ببلاده عن التورُّط في الصراعات، والمشكلات الطويلة، وإنما ينزع إلى ترتيب المنطقة وفق سياسة تُركّز على تحقيق أكبر فائدة اقتصادية لبلاده، وإيكال تنفيذ تفاصيل خطوطه العريضة لحلفاء إقليميين. ويرغب كذلك في حسم القضايا، ولا يميل إلى العمل في فضاء «الفوضى الخلّاقة»، ويريد التفرُّغ أكثر لتحقيق مكاسب في سباقه الأخطر مع الصين على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية.

وعليه؛ تبدو الصورة واضحة في عينَي ترامب فيما يتعلق بأبرز ملفات المنطقة، الخليج وتركيا و«إسرائيل» وإيران، وما يتفرع عنها من مشكلات سوريا ولبنان وغزة والسودان، وغيرها.

ولعل من أوضح ملامح رؤية ترامب للمنطقة:

- الرغبة في تبريد الملفات الساخنة.

- تحبيذ التعامل مع «الأقوياء» كضامنين ومؤثرين وضابطين للأوضاع في المنطقة، سواءٌ كانت القوة عسكرية أم اقتصادية.

- تقليص وجود وتأثير الميليشيات والفصائل.

- الوصول إلى توقيع اتفاقات «الإبراهيمية» مع دول المنطقة جميعًا، وتطبيع العلاقات بين «إسرائيل» ومحيط فلسطين المحتلّة في دائرته العربية الواسعة، ولكنْ وفق سياسة أمريكية، وليست «إسرائيلية» بالضرورة.

- إبرام اتفاقات اقتصادية تَعُود على الاقتصاد الأمريكي بالنفع.

وفي ضوء ذلك، كانت استجابته للمطالبات الخليجية والتركية والأوروبية (على الترتيب)؛ من أجل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وإعلانه أن «تلك العقوبات كانت تشلّ الاقتصاد السوري، وكانت ضرورية في وقتٍ سابق، لكن آنَ الأوان لتبدأ سوريا في التألق»؛ على حد ما صرَّح به في منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي بالرياض خلال زيارته للسعودية، منتصف شهر مايو 2025م، والتي أطرَى فيها على الرئيس السوري أحمد الشرع بشكلٍ بدا مفاجئًا للكثيرين؛ حين قال: إن الشرع «عظيم، أعتقد أنه جيّد جدًّا. شابّ جذاب وقويّ البنية، وله ماضٍ قوي. ماضٍ قوي للغاية، مقاتل»؛ حسبما نقلت صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست.

هذه العظمة، وهذا الماضي، وهذا القتال، كان كله يُسمَّى «إرهابًا» في أدبيات حزب ترامب الجمهوري، حتى شهور قليلة مضت، لكنّ براغماتية الإدارة السورية الجديدة، غيَّرت البوصلة الأمريكية، أو ربما أظهرت وجهة واشنطن الحقيقية في الملف السوري، والتي قد لا تكون غائبة عن دهاليز صُنع القرار الأمريكي قبل أن تبدأ عملية «ردع العدوان» التي انتهت بسقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وهي البراغماتية السورية التي فاجأت العالم بـ«مرونتها الشديدة» إزاء ملفات تتعلق بكل أعدائها وخصومها الحاليين والتقليديين، ومنح امتيازات استثمارية طويلة المدى لشركات غربية.

من بينها الامتياز الذي حصلت عليه شركة «سي إم إيه سي جي إم» الفرنسية العملاقة للخدمات اللوجستية، بتوقيعها عقدًا لمدة 30 عامًا مع الإدارة السورية في الأسبوع الأول من شهر مايو 2025م، لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية، والتوقيع المنتظَر لعقود احتكارية كذلك للشركات النفطية الأمريكية للعمل في سوريا، وما كشفت عنه صحيفة تايمز البريطانية (12 مايو)، من ترجيح تقديم الحكومة السورية «عدة تنازلات، بما في ذلك إتاحة الفرصة للشركات الأمريكية لاستغلال الموارد الطبيعية في صفقة معادن على غرار ما حدَث في أوكرانيا».

وكذلك ما انتهجته دمشق من سياسة هادئة جدًّا حيال العدوان «الإسرائيلي» على أراضي سوريا، ونَأْي مسؤولي سوريا عن توعُّد جيشهم بالانتقام من تل أبيب. وأيضًا انفتاح دمشق على العالم، خصوصًا الغرب، وتبنّيها اقتصاد السوق (الرأسمالي)، ومنحها أوضاعًا تمييزية إيجابية للأقليات الدينية والعرقية لا سيما النصيرية (8- 10% من تعداد السكان)، والدروز (1.5 -2%)، والكردية (3%) [تقريبًا ووفقًا لتقديرات أوردتها دراسة الجيش والسياسة في سوريا، المستندة إلى معطيات رسمية قبل وأثناء حكم آل الأسد].

وكما تقدم، فإن ترامب تاجر بارع، وهو قد رفَع الثمن عاليًا جدًّا لرفع العقوبات عن سوريا، والتي ما كان لها أصلًا أن تكون سلعة يُقايض بها ترامب الشرع، لو أن العالم كان عادلًا؛ فتلك العقوبات، لم تُفرَض على نظام الشرع، ولا الفصائل السورية جميعها، وحيثيات إقرارها تأسست على «فرضية» الضغط على نظام الأسد من أجل أن يَكُفّ عن إجرامه، فلم تَضُرّ نظامه بل شعب سوريا، حتى انقضى عهد الأسد، وفرَّ مُحمَّلًا بمليارات الدولارات التي نهبها، وتُرِكَت له لينعم بها هو وذريته ما امتدت بهم الحياة!

وبقي جاثوم العقوبات على صدر الشعب المظلوم، ليتم مقايضته في الأخير بما كشفت عنه كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض في بيان تلا لقاء الشرع مع ترامب، جاء فيه أن «الرئيس ترامب حدّد 5 مطالب موجّهة إلى الرئيس السوري؛ الأول هو التوقيع على اتفاقية إبراهام للتطبيع مع إسرائيل؛ والثاني مطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة سوريا؛ والثالث ترحيل عناصر من حركات فلسطينية مسلحة؛ والرابع مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة داعش؛ والمطلب الخامس والأخير هو تحمُّل مسؤولية مراكز احتجاز داعش في شمال شرقي سوريا».

هذا علاوة على شروط أخرى ذُكرت أو تسرّب بعضها مِن قبل، كالاحتكار الاستثماري النفطي، وصفقات المعادن، ومساهمة الشركات الأمريكية في عملية إعادة إعمار سوريا، والتقيُّد بنظام اقتصاد السوق، ومنح الأقليات حُكمًا شِبْه ذاتي.

وكأن العقوبات قد فُرِضَت على سوريا لتُوقِّع في النهاية اتفاق إذعان مع «إسرائيل»؛ تُقِرّ فيه بشرعيتها المزعومة، وتُوقّع على اتفاقية «إبراهام»، وتقيم علاقات مع «إسرائيل»، وتَطْرد ما تبقّى من فصائل فلسطينية في سوريا، وتُدير ظهرها لرفقاء سلاح الثورة.

وهذا كله هو ما كشف عنه الجانب الأمريكي، وما تريَّث أو تحفَّظ الجانب السوري عن البوح به، ولكنّ ترامب نفسه قد صرَّح به، والعهدة على الراوي؛ حيث قال لصحفيين على متن الطائرة الرئاسية أثناء توجُّهه إلى الدوحة «قلت له (الشرع): آمل أن تنضمّوا (إلى اتفاقية إبراهام) بمجرد أن تستقر الأمور، فقال: نعم. لكنّ أمامهم الكثير من العمل».

ويبدو أن ترامب يكذب فيما قاله؛ فجملة من المؤشرات تدلّ على أن القيادة السورية تدرك تمامًا أن فكّ الحصار عن سوريا، اقتصاديًّا، والاعتراف بها كسلطة أمر واقع، وحلّ المعضلات الكردية والدرزية والنصيرية، لا بد أن يَمُرّ عبر تل أبيب؛ ولهذا كان الحديث الصوتي لمدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام السورية علي الرفاعي، على قناة كان «الإسرائيلية» الرسمية، الذي أعلن فيه عدم ممانعة بلاده من عقد اتفاق سلام مع «إسرائيل»، وأصبح بذلك أول مسؤول سوري يتحدث مع إعلامي «إسرائيلي» من عام 1948م، وما رشح عن لقاءات تمت بين مسؤولين سوريين و«إسرائيليين» في دولة حليفة لـ«إسرائيل».

مؤيدو الإدارة السورية الجديدة، يرون أنها مضطرة لكل هذا؛ وإلا فإن العقوبات الأمريكية تُقيِّد التعامل بنظام سويفت، وتَحُول دون تحويل دولار واحد إلى سوريا، وتعزل البلاد عن العالم، وتمنع بناءها تمامًا، لا سيما أنها دولة تكاد تفتقر إلى جيش، وآليات عسكرية ثقيلة، ونُظُم دفاع جوي، ومدنها الرئيسة شبه مُدمَّرة، وكثير من بلداتها مُدمَّرة تمامًا، واقتصادها غاية في الهشاشة، وسواء عليها أقَبِلت بالتعامل مع «إسرائيل» أم لم تقبل؛ فبوُسْع قوات الأخيرة التوغُّل في أراضيها، واستهداف كل أهدافها العسكرية والإستراتيجية والمدنية، فسماؤها مستباحة تمامًا بإرث تمالؤ وتواطؤ نظام الأسد مع «إسرائيل»، وليس النظام الحالي مسؤولًا عن تلك الهشاشة وهذا الضعف، وبالتالي؛ فليس أمامه واقعًا ولا سياسة ولا كياسة أن يستكمل تدمير سوريا عبر «إسرائيل» من بعد نظام بشار، ولا أن يواجه العالم كله بإخضاع المتمردين من الأقليات، ولا أن يُوصِد أبوابه أمام الغرب بتحدّيه في لحظة الضعف تلك.

أما معارضوها، وهم من كلّ الأطياف، من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار؛ فيرى بعضهم أن قبول نظام الرئيس الشرع بتنازلات «مرعبة» على حدّ وصف بعضهم، لا مُبرِّر له، في حين أنه من الممكن اكتساب الشرعية الدولية بطرق أخرى؛ منها: توسيع دائرة الحكم، وإقامة نظام ديمقراطي مُتعدّد منذ البداية، وبعضهم -من معسكر الأقليات وبقايا النظام- يقول يوم رفَع ترامب العقوبات: «أهم شيء أن الجدل البيزنطي بخصوص أن الدروز عملاء إسرائيل، والكرد عملاء أمريكا قد انتهى اليوم، فلقد أصبحنا جميعًا متشابهين»!

وبعضهم يرى أن سلوك طريقة طالبان في التنمية المتدرّجة، المعتمدة على الإمكانات الشعبية البسيطة والمشاريع الفردية، والحكومية الصغيرة المتدحرجة؛ ستُقوِّي عُود النظام يومًا من بعد يوم، ثم إن السماح بتسليح أهل الجنوب بأسلحة أكثر كفاءة كان كفيلًا بأن يُنغِّص على «الإسرائيليين» توغلاتهم؛ إذ يناوشهم المقاومون غير النظاميين.

ولقد اختار النظام السوري أن يبدأ رحلة البناء بالتحوُّل من معسكر الروس والإيرانيين إلى المعسكر الغربي، وهذا -يقينًا- لا يمنح سوريا استقلالًا تتمنَّاه، بل هو يمنح الأمريكيين والأوروبيين نفوذًا هائلًا في سوريا، ربما لا تستطيع الانفكاك منه. لكنّ ما يتعلق به قادة سوريا الجدد هو أن بمقدورهم المناورة قليلًا، فالتطبيع سيكون مرهونًا بالانسحاب «الإسرائيلي» من المناطق المحتلة (غير معلوم إن كان ذلك يشمل الجولان أم لا)، مثلما قال غير مسؤول سوري. والتوقيع على اتفاقات إبراهام سيكون مرهونًا بمناسبة الحال، وهو لن يناسب الآن! ووعود الأقليات مرتبطة بإقامة نظام جديد قد يتأخر نظرًا لظروف البلاد الحالية، وهكذا.

ولربما لدى قادة سوريا شَغف بتجربة أردوغان منذ بدايتها، وربما يُعوِّلون على مسافة، يتحدَّث عنها مُحلّلون عديدون، بين ترامب وقادة «إسرائيل»؛ ستجعل الترتيب الإقليمي لا يُحقّق كل ما تصبو إليه «إسرائيل»؛ فقناة «12» العبرية قالت: «لم تنكر إسرائيل أن رئيس وزرائها نتنياهو طلب من ترامب إبقاء العقوبات على سوريا، ولكن رُفِضَ طلبه». وذيَّل الصحفي بالقناة «عميت سيغال» صورة لقاء ترامب مع الشرع، بقوله عبر منصة إكس: «لقاء ترامب مع الجولاني، الذي وصفه وزير خارجية إسرائيل جدعون ساعر قبل شهرين فقط بأنه جهادي يرتدي بدلة».

ومثلها من الشواهد التي يرى من خلالها «الإسرائيليون» أن هناك ترتيبًا جديدًا للمنطقة، مرَّ بعضه من خلف ظهر «إسرائيل»، وبعض الترتيبات برضاها تتشكّل، وأن الشرع قد يجد طريقة ينفذ من خلالها إلى بناء دولته دون أن يلتزم بحرفية ما طلبه ترامب، لكن أبدًا، ليست «إسرائيل» ولا الولايات المتحدة ولا الغرب ذو الخبرة «الاستعمارية» الطويلة، غافلين عن سيناريو كهذا، ولهذا تنقل صحيفة معاريف عن مسؤول «إسرائيلي» لم تُسمِّه -وصفته بأنه رفيع المستوى وليس هو كذلك- قوله: إن «الرئيس ترامب يمنح سوريا فرصة لإثبات أن سياسة القيادة الجديدة مختلفة تمامًا عن سياسة الأسد، فإذا لم يحدث ذلك فإن رفع العقوبات ليس حدثًا لا رجعة فيه. ما يَهُمّ هو مَطالب الرئيس ترامب من سوريا. من بين أمور أخرى، طرد الإرهابيين، وعدم وجود تهديد لإسرائيل»؛ على حد تعبيره.

ونقلت الصحيفة عن آخر لم تُسمِّه أيضًا قوله: «حتى بعد رفع العقوبات عن سوريا، لن تتغير سياسة «إسرائيل»، فإذا رأينا حشدًا عسكريًّا، أو محاولة لإرسال قوات إلى جنوب سوريا، فسنهاجم دون تردُّد».

والمقصد أن مناورة الشرع -إن حصلت- سيقابلها تراجع من ترامب، لكن ربما كان ثمة سبيل للخروج من فلك الولايات المتحدة التي باتت نافذة كثيرًا في سوريا، بسيف عقوباتها، وبقواتها في شرق سوريا، وبعلاقاتها بقوات سوريا الديمقراطية «قسد»، وبتأثيرها على تل أبيب، النافذة كلمتها على فريق لا يُستهان به من الدروز، والحليفة مع متمردي النظام السابق في الساحل، وبقوتها الضاربة، واحتلالها لجبل الشيخ على بعد 35 كلم من دمشق.

ولهذا؛ فإن من الواقعية القول بأن سوريا لم تستقل بعد، ويحدو المخلصين فيها الأمل في حصولها على هذا الاستقلال بأدواته المختلفة، العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهذا كله يواجه تحديات لا حَصْر لها، ولعل الله أن يَهَب المخلصين فيها بصيرةً لتخليصها من ربقة الانتقال من تبعية فارسية إلى أخرى رومية.

 

 

أعلى