وإسلاميات العقاد تدل على أنه فهم الإسلام بوصفه القضية الكبرى في هذا الوجود، ولا بد من الإخلاص لها، والجهاد في سبيلها حتى آخر لحظة في العمر، وتدلّ كثرة إسلاميات العقاد وتنوُّعها على الإيمان العميق الذي كان يتغلغل في قلبه
حصل الكاتب والمفكر والشاعر عباس محمود إبراهيم مصطفى العقاد (يونيو 1889- مارس 1964م) على الشهادة الابتدائية عام 1903م من مدرسة أسوان الأميرية، وعمره أربع عشرة سنة، ولعدم توافر المدارس الحديثة، وعَجْز موارد أُسرته المحدودة عن إرساله إلى القاهرة لإكمال تعليمه -كما كان يفعل أعيان أسوان في ذلك الوقت-؛ اقتصرت دراسته على المرحلة الابتدائية فقط.
وَلِع العقاد بالقراءة في مختلف المجالات، بعد أن أغراه الشيخ أحمد الجداوي -تلميذ الشيخ جمال الدين الأفغاني- بالقراءة الحرة، فلم يُفارقها إلى آخر عمره.
التحق العقاد في سنّ مبكرة بعمل كتابي بمحافظة قنا، ثم نُقِلَ إلى محافظة الشرقية ليعمل بوظائف حكومية كثيرة بها، منها: مصلحة التلغراف، ومصلحة السكة الحديد، وديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها وتركها.
وعندما تُوفِّي والده، انتقل العقاد إلى القاهرة، واستقر بها، وبدأ يعمل بالصحافة. ثم اختاره العلامة محمد فريد وجدي ليعمل معه محررًا بجريدة الدستور عام 1907م، وفي عام 1908م أحرز نجاحًا باهرًا بمقابلة أجراها للصحيفة مع وزير المعارف سعد زغلول.
وبعد توقف الجريدة عام 1912م، عاد إلى الوظيفة بديوان وزارة الأوقاف بالقاهرة. ثم تركها وعمل مع رفيق عمره الأديب إبراهيم عبد القادر المازني مُعلِّمًا بمدرسة الإعدادية الثانوية بالقاهرة. ثم بمدرسة النيل الخاصة. ثم ترك التعليم، وعاد إلى الكتابة بالصحافة.
بدأت صلة العقاد الحقيقية بالكتابة عام 1917م؛ عندما عمل مع محمد عبد القادر حمزة بجريدة الأهالي التي كان يُصدرها، وفي عام 1919م عمل العقاد بجريدة الأهرام، ثم البلاغ عام 1922م، ارتبط العقاد بجريدة البلاغ، وملحقها الأدبي الأسبوعي لسنوات طويلة حتى عام 1935م، وبعد هذا العام وجَّه العقاد تدريجيًّا نشاطه إلى التأليف الأدبي والفكري.
العقاد والإسلام
بعدما نفَض العقاد يديه من العمل الصحفي والسياسي؛ اتجه بعقله وقلبه صوب الإسلام، باحثًا عن الحقائق الإيمانية، للرد على أباطيل الخصوم، وتشكيك المتعطلين والمتردّدين، ولجاجة الماديين والمتكلمين.
وإسلاميات العقاد تدل على أنه فهم الإسلام بوصفه القضية الكبرى في هذا الوجود، ولا بد من الإخلاص لها، والجهاد في سبيلها حتى آخر لحظة في العمر، وتدلّ كثرة إسلاميات العقاد وتنوُّعها على الإيمان العميق الذي كان يتغلغل في قلبه، والذي أفصَح عنه في قوله: «أؤمن بالله وراثةً، وشعورًا وبعد تفكير طويل؛ أما الوراثة فإنني قد نشأت بين أبوين شديدين في الدِّين، لا يتركان فريضة من الفرائض اليومية، وفتحت عيني على الدنيا وأنا أرى أبي يستيقظ قبل الفجر ليؤدي الصلاة ويبتهل إلى الله بالدعاء، ولا يزال على مصلاه إلى ما بعد طلوع الشمس، فلا يتناول طعام الإفطار حتى يفرغ من أداء الفرض والنافلة وتلاوة الأوراد. ورأيت أمي في عنفوان شبابها تؤدي الصلوات الخمس، وتصوم وتُطعم المساكين، فللوراثة شأن عندي من سليقة الاعتقاد. أما الإيمان بالشعور فذاك أن مزاج التدين ومزاج الأدب والفن يلتقيان في الحسّ والتصور والشعور بالغيب، وربما كان وعي الكون أو الوعي الكوني الذي يتعلق به كل شعور بعظمة العالم وعظمة خالق العالم، والوعي الحيوي مصدر النفس، والوعي الكوني مصدر الدين.
أما الإيمان بالله بعد تفكير طويل، فخلاصته أن تفسير الخليقة بمشيئة الخالِق العالِم المُريد أوضح مِن كل تفسير يقول به الماديون، وما من مذهب اطلعتُ عليه من مذاهب الماديين إلا وهو يُوقِع العقل في تناقض لا ينتهي إلى توفيق أو يُلجئه إلى زعمٍ لا يقوم عليه دليل. وبعدُ، فإيماني كله في العقيدة والأخلاق والمعاملة والأدب يُوزَن بميزان واحد، وهو ميزان المثل الأعلى أو طلب الكمال؛ لأنه إيمان يُغنينا عن طلب الجزاء إلا من الله، ويُعزينا عن فقدان الحمد والثناء من الناس».
العقاد حاجًّا
في العام 1946م، وقبل زيارة الملك عبدالعزيز إلى مصر، تشكَّلت بعثة من كبار رجال الدولة المصرية لتكون في شرف مصاحبته خلال رحلته بالباخرة من جدة إلى السويس، وكان الكاتب الكبير عباس العقاد أحد أعضاء هذه البعثة الذين توجهوا من جدة إلى مكة لأداء فريضة الحج، ولقاء الملك عبدالعزيز؛ حيث دار بين العقاد والملك حديث طويل حول العروبة والإسلام وأمن الحجيج، ومستقبل الأمة.
وقد طرب العقاد كثيرًا لآراء الملك وأفكاره وحماسته لخدمة قضايا الأمة، وسجل العقاد مشاعره وتأملاته في أثناء زيارته لمكة المكرمة والحرم الشريف في مقالين نشرهما في مجلة الرسالة (العدد 655 بتاريخ 21 يناير 1946م، والعدد 659 بتاريخ 18 فبراير 1946م).
في هذين المقالين يُحدّثنا العقاد عن وعثاء السفر ومشقة الرحلة، كما حدَّثنا عن رفقاء الرحلة الذين استقلوا سيارة خاصة بهم، وأنه استأذنهم عندما أشار قائد السيارة إلى غار حراء، قائلًا لهم: «لا بد أن أصعد بنفسي الجبل، وأجلس في المكان ذاته الذي اجتمع فيه أمين الوحي مع الصادق الأمين حينما قال له: اقرأ».
وتساءل العقاد بعد أن خاض تجربة الصعود إلى غار حراء: «كيف كان النبي الكريم يُخاطر بنفسه في الصعود إلى هذا المكان المظلم لكي تشعّ منه أنوار الوحي، وتنبعث منه هدايات السماء، وتنطلق منه أعظم حضارة شهدتها البشرية جمعاء».
ثم قال العقاد واصفًا غار حراء: «هو قمة مرتفعة في جبل كأنما بُنيت بناءً على شكل التبة المستطيلة إلى الأعلى، ولكنها عسيرة المرتقى، لا يبلغها المصعد فيها إلا من شعاب وراء شعاب، وأخبرني مَن صعده أنهم كانوا يعانون شديد العناء من وُعورة مرتقاه، وأن القليل من الناس يصمد في صعوده إلى نهايته العليا؛ حيث كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتنسك ويبتهل إلى الله تعالى».
ثم يقول العقاد: «وحسبك نظرة واحدة إلى الجبل ومرتقاه لتحيط بعض الإحاطة بتلك النوازع المرهوبة التي كانت تنهض بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في شبابه إلى ذروة تلك القمة مرات بعد مرات وأيامًا بعد أيام. وبعد النزول من الجبل عبرنا خاشعين مطرقين، وسكتنا لأن مهبط الوحي هنالك قد ألهمنا السكوت».
ثم يقول العقاد: «مكان آخر كان له في قلوبنا مثل هذا الخشوع ومثل هذا الرجوع مع الزمن إلى أيام الرسالة وأيام الجهاد؛ ذلك هو موقف الدعاء الذي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يختار الوقوف فيه كلما طاف بالكعبة ودعا إلى الله. أنت هنا لا ريب في مقام قام فيه الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-، الإنسان الذي يُذْكَر اسمه في صلوات الألوف بعد الألوف باسم خالق الكون العظيم. أنت هنا تقف حيث وقف، وتدعو حيث دعا، وتنظر حيث نظر، وتحوم بنفسك حيث حام، في اليقظة لا في المنام. قيل لنا: هنا يُستجاب الدعاء. قلنا: نعم؛ هنا أخلق مكان يُستجاب فيه دعاء. وألهَمَ الله كلًّا من الواقفين معنا أن يدعو دعاءه، وأن يستجمع في الدنيا والآخرة رجاءَه، وساق الله إلى لساني هذه الدعوة فدعوت: اللهم ناولني ما أريد لي وللناس، واجعل الخير كل الخير فيما أُريد لي وللناس، وما بي من حاجة في الحياة إذا استجيب هذا الدعاء».
ثم يقول العقاد: «مكان آخر أخذني بجماله في جوار البيت الحرام، وهو منظر الحمام الآمن الوادع في ذلك المقام، لا يخشى ولا يفزع، بل يظل طوال نهاره في طواف على أرض وطواف على الهواء، وأعجب ما سمعتُ ورأيت أنه يطوف حول الكعبة، ولا يعلو عليها فرادى ولا جماعات، وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحرَّيت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره، فإذا هو -كما سمعت- يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور. أدب الناس في هذا المقام المهيب نعرف سرّه ونعرف مصدر الوحي منه إلى القلوب الآدمية، أما أدب الطير في هذا المقام فسرّه عند الله».
ثم يقول العقاد: «وفي الطريق إلى غار ثور لم أستطع أن أُخفي شوقي الجارف وحنيني القديم إلى رؤية بيت الصِّدِّيق، ولما دخلتُ الدار شعرتُ كأنني أحاوره فيما كان من شأن الدعوة في مهدها، وكأنه دعاني إلى زيارة غار ثور الذي مكث فيه وصاحبه الكريم؛ للوقوف على حقيقة الأمر، فقصدت الغار، وقطعت ما يقرب من ثلاثة كيلو مترات، وتذكرتُ أسماء بنت أبي بكر، وهي تغدو وتروح في هذه الطريق التي لا يمكن أن يأمن فيها المرء على نفسه، ولو بصحبة حراسة مشددة، وتساءلت: كيف خاطرتْ هذه السيدة بحياتها؟ فوالله لقد باغتتني هذه الخواطر، وبكيت بكاءً حارًّا لجهاد السيدة أسماء».
وختامًا
حينما عاد العقاد إلى مصر سُئِلَ عن مشاعره وهو يؤدي فريضة الحج؟ فقال: «كانت رحلة وجدانية إيمانية شعورية، تمتزج فيها العواطف الجياشة بحلاوة الإيمان، مما يجعل التعبير عنها من الصعوبة بمكان، لذلك فهي تُحَسّ أكثر مما تُوصَف. إن الحج هو الفريضة التي تتمثل فيها الأخوة الإنسانية، على تباعد الديار واختلاف الشعوب والأجناس، وهي بمنزلة صلة الرحم وتبادل الزيارة بين الأسرة الواحدة، يجمعها الملتقى في المكان الذي صدرت منه الدعوة، وهو أجدر مكان في كل بقاع الأرض أن يتم فيه هذا اللقاء».