مما يلفت النظر فيما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق- أنه أخبر ضمن ما أخبر به من نقص العلم ورفعه وتجهيل الناس وإعلاء منزلة الجهال، أنه مع ذلك أخبر بانتشار الكتابة والقراءة
دعاة على أبواب جهنم
ثمة نصوص تدل على وجود نقطة ينكسر فيها المؤشر العلمي، ويتجه نحو الأسفل؛ هذه النقطة هي «الأئمة المُضِلّون»؛ فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وإنما أخاف على أُمّتي الأئمة المُضلِّين، وإذا وُضِع السيف في أُمتي لم يُرفَع عنها إلى يوم القيامة»[1].
وفي معنى «الأئمة المُضلِّين» يقول المظهري: «الأئمة جَمْع الإمام، وهو رأس القوم، ومَن يدعوهم إلى فعل أو قول أو اعتقاد»[2]. ويقول أبو الحسن الملا القاري: «هو مُقتَدى القوم ورئيسهم، ومن يدعوهم إلى قول أو فعل أو اعتقاد»[3]. ويقول الأمير الصنعاني: «والإمام مَن يَقتدي به القوم ويتبعونه في أقواله وأفعاله؛ ضالًّا كان أو مهتديًا، وإنما كان أخوف شيء على الأُمَّة لأنه يَقتدي به كلُّ تابع، فيضلّ بضلاله الجماهير، قيل: ويُحتمل أنه أريد به مَن يُؤْتَم به فيشمل العلماء؛ لأن ضلال العالم سبب لضلال الجاهل، والحديث تحذير عن فتنة من ضلَّ، وأنه يحترز عنه من عرفه»[4].
فالأئمة المُضلّون هم رؤساء الناس وزعماؤهم الذين يحملون الناس على رأيٍ ما أو اعتقاد ما أو سلوك ما، ويستخدمون في ذلك سلطانهم على الناس الحسي والمعنوي، وقد يدخل فيهم العلماء لأنهم أهل تأثير في الناس، لكنَّ بعض الروايات تُمايز بين العالم وهذا الإمام، كما جاء عن زياد بن حدير، قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» قال: قلت: لا، قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المضلين»[5]. فالأئمة المُضلون هنا أهل سلطان وقوة. قال السهارنفوري: «كما وقعت فتنة القرآن في زمن الإِمام أحمد -رحمه الله تعالى-، وقُتِلَ فيها من علماء الحق بقدر لا يُحصى عددهم»[6].
فالمقصود أن نقطة الأئمة المضلين مرتبطة بزلة العالم، واللتين ستؤديان معًا إلى ضياع العلم ونشر الجهل، وأنت واجِد في مجتمعات المسلمين وغير المسلمين أن وسائل التأثير والتعليم والتثقيف تقع تحت سلطان أهل السلطان، وجُلّ مظاهر التراجع العلمي تمرّ من هنا.
وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- ما يشهد لخطورة الأئمة المضلين، فعن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافةَ أن يُدركني؛ فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهليةٍ وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير مِن شرّ؟ قال: «نعم». فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن». قلت: وما دَخَنُه؟ قال: «قوم يستنّون بغير سُنتي، ويهدون بغير هديي، تَعرف منهم وتُنكر». فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها». فقلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا. قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تَلزم جماعة المسلمين وإمامهم». فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تَعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»[7].
فالحديث ذكر في آخر الترتيب «الدعاة على أبواب جهنم»، وعرفنا بأنهم منا ويتكلمون بألسنتنا، قال العلماء: «هؤلاء مَن كان مِن الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة»[8].
ولكنّ نقطة الانكسار هذه -أعني الأئمة المضلين- ما كان لها أن تكون بهذه القوة في التراجع العلمي وتمكين الجهل إلا بعد حصول الاختلال العلمي؛ قال الطيبي في شرحه لأثر زياد بن حدير: «وإنما قُدِّمت زلة العالم؛ لأنها هي السبب في الخصلتين الأخريين»[9]. فهذا التخادم بين عالِم انحرفت بوصلته وحاكِم أغواه الشيطان من أكبر أسباب التراجع العلمي في المجتمعات وتجهيل الناس؛ إذ تُستخدم فيه وسائل التأثير وأدواته كوسائل الإعلام والأنظمة المفروضة ومؤسسات التعليم.
وبهذا التخادم بين أقوى المؤثرين في المجتمعات؛ تحصل الفتن المقترنة برفع العلم وتجهيل الناس، مثل: الانحدار الأخلاقي، وانتشار الرذيلة، وظهور النزعة العدوانية بين المجتمعات والأفراد، وشرب الخمور، حتى إنها لا تكون على مستوى الأفراد، أو أنها حالات نادرة، بل تُصبح مظاهر متمكنة في المجتمعات، فيصبح الخمر فيها أمرًا مشروعًا، وكذلك الزنا والعلاقات المحرمة، بل ربما تكون لها مؤسسات، مؤسسة للخمر، ومؤسسة للزنا، ومؤسسة للقتل، تحت مسميات يستسيغها الناس، وضمن إطار قانوني وهياكل إدارية. كما هو حاصل اليوم في جزء كبير منه.
نقص العلم وزيادة القلم!
مما يلفت النظر فيما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق- أنه أخبر ضمن ما أخبر به من نقص العلم ورفعه وتجهيل الناس وإعلاء منزلة الجهال، أنه مع ذلك أخبر بانتشار الكتابة والقراءة، ففي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين يدي الساعة: تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تُعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وفشوّ القلم، وظهور الشهادة بالزور، وكتمان شهادة الحق»[10]. والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفشوِّ القلم بين يدي الساعة، وأخبر في الأحاديث الأخرى بنقص العلم، فكيف يكون ذلك؟
الحق أننا اليوم في أوضح صور الجمع بين نقص العلم وفشو القلم، فأمر القراءة والكتابة أصبح مُشاعًا بين أكثر الناس، ووجود المدارس للطلبة في أغلب بلدان المسلمين شاهِد على ذلك، يتعلمون فيها القراءة والكتابة وعلومًا شتَّى، منها الدينية ومنها الدنيوية، لكن الذين يستفيدون من العلم الشرعي تحديدًا قلة قليلة لا تُمثِّل نسبة مع القراء الجهلة، وأنت واجد اليوم كثيرين يكتبون في صفحات التواصل الاجتماعي ويشاركون، لكنَّ أثَر العلم الشرعي عليهم وعلى أطروحاتهم قليل جدًّا، وكثير منهم يتحدثون اليوم عبر المدونات الصوتية وبرامج الحوارات، ولكنَّ أثر العلم الشرعي فيهم وفي أطروحاتهم قليل جدًّا، والمكتبة العربية اليوم تزخر بإنتاج كثير ومستمر، ولكنّ أثر العلم الشرعي فيها قليل جدًّا. ويمكنك قياس ذلك على العديد من المؤسسات والظواهر.
وعلى هذا يمكن تقسيم التعلم في زماننا المتأخر إلى قسمين: التعلم الواعي والعميق والمنهجي والمؤصل؛ وهذا قليل جدًّا، والتعلم السطحي الهلامي السائل الذي ليس له بوصلة؛ وهذا هو الأغلب. ويقتضي ذلك أن القراء على ضربين: ضرب لديه قراءاته المؤصلة والواعية والعميقة، وضرب له قراءاته المنبتة العاطفية التي لا تبني عقلاً علميًّا. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه يُخبر عن زماننا الذي كثرت فيه الكتابة والقراءة، وكثر فيها الجهل وأُعلي من منزلته.
إن فشوّ القلم لا يلزم منه تعلُّم المجتمعات وتحضُّرها ورقيها، فإنما هو أداة ووسيلة، وليس هدفًا وغاية. إنما الهدف والغاية فيما ينبغي أن تنتجه العلوم من التديُّن والرقي والتحضر والإفادة والنماء، لذلك حين ينقص العلم الشرعي النافع ويفشو القلم بين جمهور الناس؛ تكثر الفتن والقلاقل والحروب والرذيلة. والله المستعان.
إيقاف المدّ التجهيلي
ونحن في آخر الزمان، وأمام عَلَم مِن أعلام النبوة وشَرْط من أشراط الساعة، وقد علمنا من خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن مِن أسباب حلول الفتن وتفشّي الموبقات والاقتتال بين المسلمين: نقصَ العلم وخفاءه؛ فإنه يجب علينا أن ننظر في خطة الإصلاح التي تجعل «العلم» ركيزة فيه، فيُضَمِّن أهل الدعوة والإصلاح اليوم البرامج العلمية في خططهم الإصلاحية ولا بد، وقد روى جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز، وقال في كتابه: «ومُرْ أهل الفقه من جندك، فلْينشروا ما علَّمهم الله في مساجدهم ومجالسهم»[11]. فكان نَشْر العلم جزءًا من خطة الإمام المجدد عمر بن عبد العزيز -يرحمه الله-.
بل هذا سبيل الأنبياء، فإنهم يُبْعَثُون على حين فترةٍ من الرسل، وعلى حين خفاء من العلم، فيُبْعَثُون إلى المجتمعات وقد غرقت في وَحل الشهوات وتلطَّخت بألوان الشرك والموبقات، وأحلت ما حرَّم الله وحرَّمت ما أحل الله، وقد جاء في حديث عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «أَلا إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ، ممّا عَلَّمَنِي يَومِي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّياطِينُ فاجْتالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطانًا. وإنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلى أَهْلِ الأرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلَّا بَقايا مِن أَهْلِ الكِتابِ، وَقالَ: إنَّما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ، تَقْرَؤُهُ نائِمًا وَيَقْظانَ... الحديث»[12].
هذه الوظيفة الرسالية العظيمة تتجلى في تعليم الناس وتربيتهم على الدين، فلا بد من العلم الشرعي والاعتناء به تعلمًا وتعليمًا؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]. ولذلك فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، يرثون الشرف ويرثون التكليف، فصار تعليم الدين لونًا من ألوان الجهاد في سبيل الله، وفرضًا من فروض الكفاية؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن تعلُّم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد، ومن أنواع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات»[13]. ويريد من قوله: «الجهاد» إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ودفع العدو الكافر، سواء فكريًّا أو عسكريًّا. ولو يفطن المعلمون وطلبة العلم إلى فضيلة الثغر الذي يعملون فيه لَلَزِمُوه وأحسنوا تطويره.
وللسلف عبارات في تعظيم نشر العلم، منها قول الإمام عبد الله بن المبارك -المتوفى سنة 181هـ-: «لا أعلم بعد النبوة أفضل من بثّ العلم»[14]. وقال الإمام البخاري -المتوفى سنة 256هـ-: «أفضل المسلمين رجل أحيا سُنّة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِيتَت، فاصبروا يا أصحاب السنن -رحمكم الله-؛ فإنكم أقل الناس»[15].
لا بد، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أننا في هذه الأزمنة المتأخرة سنرى خفوت العلم وظهور الجهل وكثرة الفتن وتفشي المنكرات والعداوات؛ لا بد أن ندافع ذلك الأمر، فننشط في تعليم الناس العلم الشرعي، وأن ندعو كل طالب علم ومتعلّم إلى بذل ما يستطيعه في سبيل ذلك، لا سيما ونحن في عصر انتشار المعرفة وكثرة وسائلها -ولله الحمد-، ويمكن أن يُوصَى ببعض الأمور المهمة في هذا الإطار:
1- إدارة المعرفة؛ فإن مما يُميِّز زمننا هذا ظهور وسائل الإعلام وقنوات التعليم والمعرفة، فهذه الأدوات مع وجود العلم في صدور أهله وطلبته، يمكن أن يُصنَع منها تأثير قويّ إذا أُحسنت إدارتهما.
2- الاستفادة من شبكة الإنترنت والقنوات الفضائية؛ لأنها وسائل تحتشد عندها جماهير الناس، بمختلف أعمارهم وثقافاتهم وأجناسهم.
3- الاعتناء بالأوقاف التعليمية؛ والتوعية بأهميتها؛ وذلك لأنها تطيل -بإذن الله- زمن التأثير العلمي في المجتمعات، وهي أقدر على مواجهة التحديات الحضارية التي تُهدِّد التقدم العلمي، وأطول عمرًا. والأوقاف التعليمية باب واسع ومؤثر في نفس الوقت.
4- الاعتناء العام والخاص بطلبة العلم والمعلمين، وتفريغهم لهذا الشأن، وتمويلهم، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك، وهذا الإمام عبد الله بن المبارك كان يُولِي طلاب العلم عنايةً خاصةً ويُموّلهم؛ ليتفرغوا للعلم. وسيرته في ذلك جديرة بأن تُفرَد بكتابة خاصة، قال حبّان بن موسى: عُوتِب ابن المبارك فيما يُفرِّق المال في البلدان، ولا يفعل في أهل بلده؟ قال: «إني أعرف مكان قوم لهم فَضْل وصِدْق، طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب للحديث، يحتاج الناس إليهم. احتاجوا، فإن تركتهم ضاع عِلْمهم، وإن أعنَّاهم بَثُّوا العلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بثّ العلم»[16].
[1] أخرجه أبو داود (4252) المسند (22395).
[2] المفاتيح 5/357.
[3] مرقاة المفاتيح 8/3389.
[4] التنوير 4/174.
[5] مسند الدارمي (220).
[6] بذل المجهود 12/286.
[7] أخرجه البخاري (7085) ومسلم (1847).
[8] المنهاج 12/237. وانظر: فتح الباري 13/36.
[9] الكاشف 2/714.
[10] الأدب المفرد (1049).
[11] الآداب الشرعية 2/104.
[12] صحيح مسلم (2865).
[13] المستدرك على مجموع الفتاوى 3/103.
[14] تاريخ الإسلام 4/891.
[15] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/112.
[16] تاريخ الإسلام 4/891.