• - الموافق2024/12/18م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قِطَع الليل المظلم

هذه القلوب الرخوة والنفوس النَّزقَة أنَّى لها أن تَثْبُت على مبدأ؟! أو يكون لها قرار واحد؟! وهي لم تُنَشَّأ على ذلك، ولم تتعوَّد عليه، أو كانت مسرحًا مفتوحًا للتلاعب والتحكم من أهل الأهواء والأغراض.


عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يَبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا»[1].

وفي روايةٍ عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «تكون بين يدي الساعة فِتَنٌ كقِطَع الليل المظلم»[2].

خبرٌ عظيمٌ مِن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم  عن أزمنة متأخرة تزدحم فيها الفِتَن وتتراكم حتى تصير كقِطَع الليل المظلم، وكل ذلك بأمر الله وعِلْمه وحِكْمته؛ فهو -سبحانه- خالِق كل شيء، وهو الذي يُدبِّر الخلق والمقادير، ويُحْكِم صُنْعها حتى تبلغ غايتها التي خُلِقَتْ لها.

ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث إلى الإجراء المطلوب من الناس حيال هذه الفتنة التي من شأنها أن تُحْدِث زلزالاً نفسيًّا واجتماعيًّا مريعًا، فقال: «بادروا بالأعمال». والمراد من الحديث: سابِقُوا إلى عمل الصالحات والتمسُّك بالدين والاشتغال به قبل أن تَحلّ عليكم هذه الفتن فتَشغلكم بمدافعتها وردّها عنكم. قال القاضي عياض: «وفائدة المبادرة بالعمل إمكانُه قبل شغل البال والحشد بالفتن، وقطعها عن العمل»[3].

وسابقوا إلى عمل الصالحات حتى يجعل الله منها وقاءً يحميكم الله بها من شر الفتن، فلا يصل شرّها إليكم.

والإخبار بتحوُّل بعض الناس في دينهم يأتي في سياق التأكيد على خطورة وحجم الفتن المُخْبَر عنها.

والمبادرة هنا هي المسارعة والبدء بالعمل قبل أن تسبقنا الفتن فننشغل بها وتستهلك الوقت والعمر، وميزة المبادرة هي أنها تجعلك في موقع القادر المتحكم الفاعل -بإذن الله- لأنك سبقت الفتن، أما إذا سبقت إليك الفتن قبل المبادرة بالأعمال فستكون في موقع الضعيف المتأثِّر بها، وربما تحقَّق فيمن هذا حاله التحوُّل الكبير في إيمانه ومبادئه، قال أبو العباس القرطبي: «ومقصود هذا الحديث: الحضُّ على اغتنام الفرصة، والاجتهاد في أعمال الخير والبِرّ عند التمكُّن منها، قبل هجوم الموانع»[4].

ولكن ما الأعمال التي يمكن أن نُبادِر بها الفتن ونسبقها بها؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي بَحْثه هنا، لننتقل في قراءة الحديث من التأثر الوجداني إلى الترجمة السلوكية والعمل الإجرائي، فإن لهذا الحديث العظيم العديد من الدلالات التربوية، سنتناول -إن شاء الله- شيئًا منها، مستعينين بالله تعالى.

كما أن الحديث يشير إلى شدة الفتن القادمة؛ فإنه كذلك يشير إلى أن تلك الفتن ستُبيِّن عن نفوسٍ سرعان ما تنقلب عن إيمانها وترتدّ على أدبارها وتتنكب الصراط، فبين عشية وضحاها «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا»، وليس انتقاله من طاعة إلى فسق مع بقاء إيمانه؛ فإن هذا أهون وأخفّ، وإنما سيكون الانتقال من الإسلام إلى الكفر والخروج من دائرة الموحدين.

وهذا يدل على ضعفٍ في نفوس أولئك الناس في زمن الفتنة وجاهزية قلوبهم لتشرُّب الضلال -والعياذ بالله-، والمسألة عظيمة، ولا يزال البعض لا يرى شناعتها.

والمقصود أن المسألة ليست محصورة في ضعف البناء الإيماني لدى هؤلاء المنقلبين، فإنه يجدر التنبيه على أن من أسباب الافتتان حينئذ: الضعف في البناء النفسي والروحي كذلك، فلذلك سرعان ما ينتقل ذلك المنقلب من دين إلى آخر، ويرتد عن الإسلام، عياذًا بالله، ومثل هذا يُتوقَّع منه أنه مضطرب القلب ضعيف الإرادة، متردّد متوتّر، قَلِق نَزِق، تُغَيِّرُه الأحداث، وتُعيد تشكيله المواقف، وتُؤثِّر فيه الكلمة؛ إضافةً إلى ضعفه الإيماني.

هذه القلوب الرخوة والنفوس النَّزقَة أنَّى لها أن تَثْبُت على مبدأ؟! أو يكون لها قرار واحد؟! وهي لم تُنَشَّأ على ذلك، ولم تتعوَّد عليه، أو كانت مسرحًا مفتوحًا للتلاعب والتحكم من أهل الأهواء والأغراض.

ولقد كان ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخرج الإمام أحمد بسنده أن الحسن البصري قال: «والله لقد رأيناهم صورًا ولا عقول، أجسامًا ولا أحلام، فراش نار وذبان طمع، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن عَنْز»[5].

فإذا كان مثل ذلك ربما وقع في القرن الأول والثاني، فما الحال في القرن الخامس عشر؟! وأنت ترى اليوم كثرة الحديث عن الهشاشة النفسية وتقصّي أبعادها من ضياع الرأي وسوء التفكير وما يَتبعهما من سلوكيات لا تملك حيالها إلا أن تقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وتلاحظ أن ما استشكله الحسن البصري -رحمه الله- عامّ شامل، لا ينحصر في جانب البناء الإيماني وحده... فتأمل!

وهنا ينبغي أن نبادر -طاعةً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم ، في أمره بالمبادرة- بنوعين من الأعمال لدفع هذا البلاء والتخفيف من غلوائه ومحاولة إعادة الرشد الإنساني:

أولهما: البناء الإيماني الذي يعتني بإصلاح القلب وتقوية الاعتقاد، وتعظيم الله -عز وجل-، وتعظيم كتابه ورسوله وشريعته في النفس؛ فيكون الإنسان لديه تعظيم وحب قلبيَّان حقيقيان لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم  ولكتابه ولشريعته. لا أن يكون البناء الإيماني بناء شكليًّا هشًّا سرعان ما يتصدع؛ ولأدنى فتنة نازلة. قال هرقل لأبي سفيان، في سياق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ودعوته الجديدة آنذاك: «وسألتك أيرتدّ أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أن لا؛ وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب»[6].

هذا هو الإيمان الذي له طعم وحلاوة وذوق في القلب والنفس، هذا هو المراد لدفع شرّ هذه الفتنة.

والآخر: الاعتناء ببناء الشخصية القوية، وغرس مبدأ الثبات والصمود أمام التحديات المختلفة؛ فإن الفتن ليس لها شكل محدد، بل تأتي في نسق التحديات والإشكالات، وتقوية القلب تكون بتقوية الإرادة، والتعويد على الصبر والنَّفَس الطويل، وترك الاستعجال، والاستجابة العقلانية للمؤثرات، واستدعاء سِيَر الأبطال والصامدين والثابتين على مرّ تاريخ أمتنا المجيد، والدعوة إلى الاقتداء بهم ومحاكاتهم.

وإن مما يُقوِّي العزيمة في القلوب ويصنع النفوس الصلبة: البرامج المخالفة للشهوات، مثل الصيام والقيام والالتزام بالأوراد؛ قال الله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور﴾ [آل عمران: 186]. وكذلك ملازمة العلماء الربانيين والصلحاء والنجباء من طلبة العلم؛ قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف:28].

وإننا اليوم بحاجة إلى تعلُّم وتطبيق العديد من تقنيات تقوية القلب والإرادة، وإدارة الحاجات والرغبات، والإبداع في صناعة برامج تربوية تَعْتني بهذا الشأن المهم، ولا شك أن هذه مسؤولية تربوية مَعنيٌّ بها الآباء والأمهات والمربون والمربيات.

ويجدر التنبيه إلى أن بناء الشخصية القوية يبدأ من البيت، من حين ولادة الطفل، فيجعل الوالدان بوصلتهما التربوية متوجِّهة نحو هذا الهدف، فيصنعان له الأمان ويمنعان عنه الخوف، ويعوّدانه على ضبط انفعالاته، ويحكيان له قصص الأبطال، ويُحفّظانه قصائد البطولة والمروءة، ونحو ذلك مما لا يتسع له المقام، والمقصود أن دور الوالدين في صياغة الشخصية القوية عظيم ومؤثر ومهمّ، وقد تقول: إن له أعظم التأثير.

 


 


[1] صحيح مسلم: 118.

[2] أخرجه أبو داود: 4259، وابن ماجه: 3961.

[3] إكمال المعلم: 1/405.

[4] المفهم: 1/326.

[5] المسند: 18404.

[6] صحيح البخاري: 7.

 

  

أعلى