للإحسان درجات وأنواع، ومن ضمن أنواع الإحسان ما يُطلَق عليه «جبر الخواطر»، فجبر الخواطر عبادة جليلة، تحتاج من كلٍّ منا أن يتخلَّى عن ذاتيته وفرديته، وأن يتحلَّى بخُلق الإيثار والإحساس بمشاعر الآخرين، وقد يكون جبر الخواطر بابتسامة أو لمسة حنان، أو كلمة طيبة
الجَبْر في اللغة معناه إصلاح الكسر، فما يُجْبَر إلا كسير؛ فيقال: جبَر الفقير، وجبر اليتيم، ومعناه: كفاه حاجته، وأصلح حاله، وأحسن إليه. ويقال جَبر بخاطره: أي أجاب طلبه، وأزال انكساره، وأرضاه.
وجبر الخواطر عادة ما يكون لأمور معنوية تكشف عن معاناة تسبّب بها قريب أو بعيد، أو حتى حبيب، وقد يكون جبر الخواطر بكلمة، وقد يكون بتحقيق طلب، أو مواساة أو تعزية، أو لمسة عطف أو حنان على شعر يتيم أو مسكين، أو دعوة صادقة من القلب، أو غيرها مما يُريح النفس المنكسرة ويُخفِّف من معاناتها.
وفي السطور التالية، نستعرض بعض نماذج جبر الخواطر في القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، ومواقف الصحابة والتابعين، والحاجة إلى تلك القيمة الإنسانية النبيلة في عصر طغيان القِيَم المادية والفردية.
جبر الخواطر قيمة وثقافة إنسانية نبيلة
عندما يطرق آذاننا مصطلح «عبادة»؛ فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا: الصلاة والصيام، وبِرّ الوالدين وصلة الأرحام، وغيرها من العبادات التي تتبادر إلى الذهن عادةً، ورغم عِظَم شأن هذه العبادات وكبير فضلها؛ إلا أن هناك عبادات أصبحت خفية -ربما لزُهْد الناس بها وغفلتهم عنها-، وأجر هذه العبادات في وقتها المناسب يفوق كثيرًا من أجور العبادات والطاعات، ومن هذه العبادات: عبادة «جبر الخواطر».
فجبر الخواطر عبادة جليلة، وقد نصَّ أهل المعتقد من أهل التوحيد والسُّنة على ذلك حتى في بعض مصنَّفاتهم في العقيدة؛ فقال الإمام إسماعيل بن محمد الأصبهاني في كتابه «الحجة في بيان المحجة»: «ومن مذهب أهل السُّنة: التورُّع في المآكل والمشارب والمناكح»، ثم قال: «ومواساة الضعفاء، والشَّفقة على خلق الله، فأهل السُّنة يعرفون الحق، ويرحمون الخلق، وأئمة أهل السُّنة والعلم والإيمان فيهم العدل، والرحمة، والعلم، فيريدون للناس الخير».
إن جبر الخواطر ثقافة مجتمعية كانت متداولة منذ القدم، حتى صار من الأقوال المأثورة أن «من سار في الناس جابرًا للخواطر أدركته عناية الله ولو كان في جوف المخاطر». وكان الناس يستعملونها بالفطرة الإنسانية، فما أجمل أن يشعر الإنسان بأخيه الإنسان، ويشاركه آلامه ومشاعره! وما أجمل أن يقول كلمة تُخفّف من معاناة الآخر! ولكن صارت هذه المعاني غائبة مع تسارع أحداث الحياة، وصار كلٌّ منا منشغلاً بذاته ومتقوقعًا حولها، وصرنا نفتقد هذه المعاني الإنسانية النبيلة. وإذا حدث أي خلاف بين شخصين نجد أن كبرياء كلّ منهما تمنعهما من الصلح، وتمنع المخطئ من الاعتذارـ وهذا خطأ إضافي يؤدي إلى نشوء الكراهية وتنامي الأحقاد والضغائن، وتفكُّك المجتمعات.
كما أن من أسماء الله وصفاته «الجبار»، ومن معانيه الجبر؛ فالجبار -كما يُفسِّره العلماء- هو الذي يجبر الضعيف، وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير، ويغني الفقير، وييسر على المعسر، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر.
جبر الخواطر في القرآن الكريم:
تتضمَّن آيات القرآن الكريم المواقف والتوجيهات التي تُبيِّن أهمية جبر الخواطر، ورحمة الله الواسعة بعباده، فالإسراء والمعراج أكبر مثال لجبر الخواطر، وجاء عقب ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من معاناة في عام الحزن من موت عمه أبي طالب، وموت زوجته الوفية أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، وما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من عناء مع أهل الطائف، ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم شاكيًا إلى ربّه: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس...»؛ فجاءت معجزة الإسراء والمعراج وما فيها من مواقف جبرًا لخاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وتطييبًا لفؤاده، وبشرى له وللمؤمنين كافة بأن الله -عز وجل- إلى جانبهم، وأنهم على الحق.
ومثل ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضلالٍ مُّبِينٍ} [القصص: 85]؛ فهنا نجد الوعد الرباني الذي يتضمَّن جبر خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ الذي أحبَّ مكة، وهي التي وُلِدَ بها، ونشأ فيها، وأحبّها لأنها أحبّ بلاد الله إلى الله، ثم أُخْرِجَ منها ظلمًا، فاحتاج في هذا الموقف الصعب وهذا الفراق الأليم إلى شيء من المواساة والصبر، فأنزل الله -تعالى- عليه آية من القرآن تبشّره بحفظ الله له، وأنه كما أنزل عليك القرآن وأرسلك رسولًا، وأمرك بتبليغ شرعه؛ سيرُدّك إلى موطنك مكة عزيزًا منتصرًا، وهذا ما حدث بالفعل.
واهتم الإسلام بالمرأة المطلقة، ونظر إليها بعين العطف والرحمة؛ فموقف الطلاق موقف كَسْر في غالب الأحوال، يحمل في ثناياه انكسارًا لفؤاد المرأة، لذلك جعل الإسلام متاعها جبرًا لخاطرها، ومُتنفَّسًا لجروحها؛ يقول الله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [سورة البقرة: 236]. وقال أيضًا عن تخيير أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } [سورة الأحزاب: 28].
كما فرَض الإسلام الدية جبرًا لخاطر أهل القتيل الذي قُتِلَ خطأً، وذلك تطييبًا لنفوسهم. ونهى الإسلام عن نهر السائل وتقريعه، بل أمر بالتلطُّف معه، وتطييب خاطره، حتى لا يجمع بين ذُلَّيْن؛ ذلّ السؤال، وذلّ النَّهْر والطرد والأذى.
نماذج كثيرة شرعها ديننا الحنيف لجبر الخواطر وتطييب النفوس؛ لأجل ذلك كان من السُّنة: تعزية أهل الميت وتسليتهم ومواساتهم، وتخفيف الألم الذي أصابهم عند فَقْد ميّتهم. وكذلك عند مشاهدة بعض الفقراء أو اليتامى شيئًا من قسمة الميراث؛ فمن الأفضل أن يُخصَّص لهم من المال شيء يَجْبر خاطرهم ويسدّ حاجتهم، حتى لا يبقى في نفوسهم شيء؛ قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قولاً مَّعْرُوفًا}. [النساء: 8]، وفي قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ 9 وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] ، أجمل تطييب للخاطر، وأرقى صورة للتعامل.
جبر الخواطر في السُّنة النبوية
تشهد السُّنة النبوية بالكثير من المواقف التي وقف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الجابر للخواطر، فهو يعطف على الطفل اليتيم ويُقبِّله، وهو صلى الله عليه وسلم يقف إلى جانب كل ضعيف أو منكسر الفؤاد،
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «إِنْ كانَتِ الأمَةُ مِن إماءِ أهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بيَدِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَنْطَلِقُ به حَيْثُ شاءَتْ»[1]، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة السوداء التي كانت تنظف المسجد عندما فقدها، وذهب وصلى على قبرها، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوقوف بجانب كل ضعيف، ومساعدته؛ فالمؤمنون في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أُصِيب منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وتلك الصورة الرائعة أحد مقوماتها هو التعاطف والمشاركة في المشاعر بين أفراد المجتمع الإسلامي، ومحاولة تقديم كل صور المساعدة لمن يحتاجها، ومن هنا دعا الإسلام إلى زيارة المريض، ومواساة أهل الميت، والوقوف بجانب كل إنسان في أيّ محنة من المِحَن.
وهناك العديد من الأمثلة على جبر الخواطر في السنة النبوية، ومن ذلك:
ما رواه جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما- قال: «لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا جابر، ما لي أراك منكسرًا؟ قال: قلت: يا رسول الله استُشْهِد أبي، قُتِلَ يوم أُحُد، وترك عيالًا ودينًا، وليس إلا جابر، قال -عليه الصلاة والسلام-: أفلا أُبَشِّرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا، فقال: يا عبدي تمنَّ عليَّ أُعْطك، قال: يا رب تحييني فأُقْتَل فيك ثانيةً، قال الرب -عز وجل-: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يُرْجَعُون... »[2].
وفي موقف آخر كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يُطيِّب خواطر هؤلاء الذين أثقل الدَّيْن كاهلهم، ولا يجدون ما يواجهون به متطلبات الحياة؛ فقد دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: يا أبا إمامة، ما لي أراك جالسًا في غير وقت الصلاة؟ قال: همومٌ لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: أفلا أُعلّمك كلامًا إذا أنتَ قلته أذهب الله -عز وجل- همَّك، وقضى عنك دَيْنك، قلت: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال». قال أبو أمامة: ففعلتُ ذلك، فأذهبَ الله -عز وجل- همّي وقضى دَيْني[3].
جبر الخواطر عبادة جليلة
للإحسان درجات وأنواع، ومن ضمن أنواع الإحسان ما يُطلَق عليه «جبر الخواطر»، فجبر الخواطر عبادة جليلة، تحتاج من كلٍّ منا أن يتخلَّى عن ذاتيته وفرديته، وأن يتحلَّى بخُلق الإيثار والإحساس بمشاعر الآخرين، وقد يكون جبر الخواطر بابتسامة أو لمسة حنان، أو كلمة طيبة تدعم إنسانًا منكسر الفؤاد وتعضده، فهي رحمة وحنان للصغير، وتوقير واهتمام بالكبير.
ولا بد من استرجاع تلك الثقافة، وجبر خواطر الأهل، سواء في ذلك الصغير والكبير، وعدم التخلي عن مكسور الفؤاد، وديننا الإسلامي الحنيف يدعونا إلى ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، وَمَن يَسَّرَ على مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ»[4].
والتنفيس يمكن أن يكون بالكلمة الطيبة، أو المؤازرة المعنوية وإبداء التعاطف، والمساندة، أو إزالة أسباب الحزن، أو المساعدة في حلّ أسباب المشكلة.
ولا بد من نشر تلك الثقافة بين الناس؛ فقد صارت غائبةً في كثير من مجتمعاتنا، ولا بد من تذكيرهم بأنَّ جبر الخواطر عبادة جميلة دعا إليها ديننا الحنيف، لربما تكون طريقنا إلى الجنة، وسببًا في راحة البال ونزول السكينة وكفّ الأذى في الدنيا، وما أحوجنا اليوم إلى تلك الثقافة[5]!
[1] صحيح البخاري: ٦٠٧٢.
[2] رواه الترمذي 3010، وحسَّنه الألباني.
[3] رواه أبو داود 1557، وقال الشوكاني: لا مطعن في إسناد هذا الحديث.
[4] صحيح مسلم: ٢٦٩٩.
[5] محمد المغربي (2019)، فن جبر الخواطر... الثقافة المجهولة، المجلة العربية، العدد (510)، ص ص 134-135.