بدأت المؤسسة العسكرية الصهيونية بفرض حصار شرس على قطاع غزة منذ الأيام الأولى لطوفان الأقصى؛ سعيًا منها لصنع أزمة تستهدف المواد الغذائية والطبية، بهدف إرباك الحاضنة الشعبية للمقاومة
«الجبهة
الداخلية»
أحد المصطلحات التي صدّرتها آلة الدعاية الأمريكية في الحرب العالمية الثانية؛
للحفاظ على إمداد الجيش الأمريكي خلال المعارك التي يَخُوضها في الساحة الأوروبية
وخارج الأراضي الأمريكية، وكان هذا المصطلح يرمز إلى عملية التجييش التي استهدفت
المجتمع الأمريكي بوصفه الحاضنة التي يمكن الاستناد إليها في سلسلة التموين بالنسبة
للفِرَق المقاتلة؛ لتغطية احتياجات الحرب، وضمان استقرار وتماسك المجتمع وقت
الأزمة.
تردَّد هذا المصطلح كثيرًا في الحرب على قطاع غزة؛ باعتبار الجبهة الداخلية واحدة
من أكثر الأسلحة فتكًا، والتي تستهدف آلة الحرب الصهيونية استخدامها لاختراق منظومة
المقاومة في سياق حرب الأدمغة بين الطرفين، لذلك حينما نتحدث عن الجبهة الداخلية في
قطاع غزة؛ فإننا نشير إلى منظومة متكاملة تشمل القطاع الصحي والأمني والاجتماعي
والغذائي والعشائر، وليس فقط الإمداد العسكري لعناصر المقاومة.
لذلك بدأت المؤسسة العسكرية الصهيونية بفرض حصار شرس على قطاع غزة منذ الأيام
الأولى لطوفان الأقصى؛ سعيًا منها لصنع أزمة تستهدف المواد الغذائية والطبية، بهدف
إرباك الحاضنة الشعبية للمقاومة، وقد صرَّح بذلك وزير الجيش يوآف غالانت، وأقدمت
المنظومة العسكرية الصهيونية على إغلاق المعابر ومنع دخول الكثير من المواد
الغذائية التي اعتاد القطاع الخاص توريدها، باستثناء بعض الشحنات الخاصة بمنظومة
الإغاثة الدولية، لا سيما المطبخ الأمريكي الذي استُخْدِمَ كغطاء إنساني لتمرير
مسار الميناء الأمريكي العائم، والذي تكشفت أسباب وجوده عقب تنفيذ هجوم النصيرات،
الذي تم في 8 يونيو 2024م، مِن قِبَل قوة صهيونية خاصة، كانت تستقل شاحنات مساعدات،
انطلاقًا من الميناء العائم بإسناد ودعم أمريكي لتحرير عدة أسرى صهاينة وارتكاب
مجزرة راح ضحيتها أكثر من 270 فلسطينيًّا؛ استهدفتهم صواريخ الطائرات الصهيونية في
السوق المركزي في المدينة للتغطية على الهجوم الصهيوني.
ومنذ بداية الحرب، استهدفت المواجهة في الجبهة الداخلية مجموعة من المحاور الرئيسية
لاستنزاف المقاومة؛ أولها وأهمها: الجبهة الإعلامية؛ فقد استخدم الجيش الصهيوني
والشباك والاستخبارات العسكرية الصهيونية كل أدواتها لتتبُّع أثر الصحفيين
الفلسطينيين الناشطين في تغطية الحرب، وفضح جرائم الجيش الصهيوني، والترويج للخطاب
الإعلامي للمقاومة. وقد تم استهداف قرابة 200 صحفي، وثَّقت بياناتهم نقابة الصحفيين
الفلسطينيين، من خلال الاغتيال، واستهداف منازلهم وعائلاتهم.
وشكَّل هذا الأمر ضربة قاسية تعرَّضت لها الجبهة الداخلية الفلسطينية؛ حيث بدأت
الدعاية الصهيونية تحاول السيطرة على الرأي العام؛ من خلال الخطاب الموجَّه عبر
صفحة المنسق الصهيوني أو الخطابات والمنشورات التي تُلقيها الطائرات، وكانت تستهدف
بالدرجة الأولى: إعلان أنباء الاستهدافات، ومناطق النزوح، واستنزاف المدنيين؛ من
خلال تهجيرهم من منطقة إلى أخرى؛ للضغط على المقاومة، والتحكم في مواقع تمركزها.
وأمعنت آلة الحرب الصهيونية في استنزاف الجبهة الداخلية الفلسطينية كذلك من خلال
السيطرة على آلية توزيع المساعدات والموادّ التموينية، وحاولت السيطرة عليها من
خلال طرح مجموعة مقترحات بالتنسيق مع المخابرات الفلسطينية في رام الله وجهات
إقليمية؛ من خلال دعم تشكيل لجان عشائرية مسلحة تُدير المشهد في القطاع لإضعاف
المقاومة والوصول إلى اقتتال داخلي؛ لكنَّ العمق الاستخباري القويّ للمقاومة،
جعَلها تتحرك على جبهتين في نفس التوقيت؛ إذ قامت بقمع تلك المحاولات من خلال تصفية
شخصيات عشائرية تعاونت مع المخابرات الفلسطينية في هذا الأمر، ونشرت تحذيرات شديدة
لمن يحاول اختراق جدار الصفّ الوطني في قطاع غزة، وأفشلت هذه المناورة الصهيونية.
ثم واصلت الدولة العبرية، بالتعاون مع أطراف عربية في استنزاف الجبهة الداخلية؛ من
خلال سياسة التجويع التي امتهنتها، ثم اتجهت إلى السماح لطائرات دول عربية مطبِّعة
مع الدولة العبرية، لإلقاء المواد الغذائية في مناطق محددة سلفًا من الجيش
الصهيوني؛ بغية إجبار السكان على التجمع في منطقة المواصي غرب خانيونس لإنجاح سياسة
التهجير الصهيوني، وكانت هذه العملية بوابة اختبار لرد الفعل الدولي على إكمال حصار
القطاع بإغلاق معبر رفح ومحور فلادلفيا بأكمله، فقد ظهرت الطائرات العربية والغربية
التي تُلقي المساعدات بثوب الحمل، لكنها تُمارس دور الذئب في هذه المسرحية
الصهيونية القذرة.
ثم ذهبت الدولة العبرية بالتعاون مع جهات عربية، أولها السلطات المصرية والسلطة
الفلسطينية في رام الله، إلى تضييق الخناق على السِّلع والمساعدات التي تدخل قطاع
غزة؛ من خلال فرض ضرائب بلغت قيمتها 17.000 دولار أمريكي على كل شاحنة تحصل على
تصريح لدخول القطاع، وانعكس ذلك بصورة كبيرة على أسعار السلع، وكمية المساعدات التي
تدخل القطاع، وجاءت هذه الخطوة استكمالًا لطبيعة الحرب التي تستهدف الجبهة الداخلية
والاحتياج المعيشي والغذائي لسكان القطاع.
ولم تتوقف آلة الحرب الصهيونية فقط على ذلك، بل قامت بتوفير الحماية في مناطق
محددة؛ منها رفح؛ حيث توفر الطائرات الحربية الصهيونية غطاءً لعصابات من اللصوص
التي تستهدف شاحنات المساعدات التي تخرج من معبر كرم أبو سالم ليتم سرقتها
والاستيلاء عليها، أو إهلاكها؛ حتى لجأت المقاومة إلى تخصيص وحدة عسكرية لملاحقة
هؤلاء، ونجحت في إعدام العشرات منهم، لكنّ الجيش الصهيوني راهَن على هذه الأداة
بصفتها أهم أدوات الحرب على الجبهة الداخلية.
واستكملت الدولة العبرية المشهد باستهداف ممنهج للقطاع الصحي؛ من خلال استهداف
متعمّد للمستشفيات والمراكز الطبية التي تُعتبر أحد أهم عناصر صمود الجبهة الداخلية
في الحرب؛ فقد تم تدمير جميع المجمعات الطبية المركزية في القطاع، بالإضافة إلى
المستشفيات ومراكز الرعاية الطبية، بالإضافة إلى استهداف عربات الإسعاف ومراكز
الإمداد بأكملها؛ لزيادة الضغط على المقاومة واستنزافها، والضغط على السكان،
وتسبَّب ذلك في زيادة أعداد الوفيات بصورة كبيرة في صفوف أصحاب الحالات المرضية
المزمنة والخطيرة، كما منعت السلطات المصرية في بداية المواجهة مجموعة كبيرة من
عناصر المقاومة من تلقّي العلاج خارج قطاع غزة استجابةً لضغوط صهيونية.
ومن العناصر المؤثرة والحاسمة كذلك: القضاء على البنية التحتية للتعليم في قطاع
غزة؛ فقد تم استهداف المجمعات التعليمية والمدارس، وبحسب تقرير نشرته صحيفة
الغارديان البريطانية؛ فقد تضرَّر أكثر من 70% من البنية التحتية في قطاع التعليم،
بالإضافة إلى استشهاد قرابة 10 آلاف طالب وأكثر من 200 مدرس في التعليم الجامعي.
وكانت إستراتيجية استهداف التعليم أحد أهم محاور الحرب الصهيونية على الشعب
الفلسطيني؛ بهدف نشر الجهل وصناعة الفوضى والفقر في المجتمع، وقتل حاضنة المقاومة
الشعبية.
أما العنصر الأهم من عناصر المواجهة في الجبهة الداخلية فهو السيولة النقدية؛ فقد
سعى الجيش الصهيوني إلى استهداف القطاع المصرفي بعدة إجراءات؛ أولها: سرقة البنوك
وتدميرها؛ فقد تم توثيق سرقة 54 مليون دولار مع بداية الحرب من المقر الرئيسي لبنك
فلسطين في مدينة غزة، على يد عناصر الجيش الصهيوني، بالإضافة إلى استهداف جميع
البنوك العاملة هناك، ومع محاولة السكان إيجاد طرق بديلة من خلال مكاتب الصرافة
المرخَّصة قام الاحتلال بملاحقة مُلّاك هذه المكاتب والعاملين فيها؛ من خلال
الاغتيال أو التهديد أو استهداف عائلاتهم ومنازلهم، بينما شارك البعض منهم في
المؤامرة من خلال رفع نسبة الفوائد على الحوالات المالية حتى بلغت في الفترة
الراهنة 30%؛ لتقليل نسبة الأموال التي تدخل القطاع، وتحرم السكان من أهم مصادر
دخلهم.
وبالإضافة إلى الضغط الخارجي في هذا الجانب؛ فقد قامت منصة
«بيهانس»
للعملات الرقمية بحظر حسابات العديد من الفلسطينيين، بطلب من السلطات الصهيونية؛
كما فرضت بعض البنوك الإقليمية حظرًا على الحوالات المالية المُرسَلة إلى قطاع غزة؛
استجابةً لضغوط أمريكية.
كما اتجهت سلطات الاحتلال، بالتعاون مع وزارة الشؤون المدنية التابعة للسلطة
الفلسطينية، إلى تقديم تسهيلات لمجموعة محددة من التجار؛ للتحكُّم في طبيعة السلع
والموادّ التي تدخل القطاع، وبالتالي ضمان استخدامهم كأدوات ضغط على المقاومة.
لكن في مقابل كل ذلك، صدّرت غزة بجبهتها الداخلية نموذجًا لا نظير له في عالم
اليوم، بشأن تماسك جبهتها الداخلية وصمودها، ونجحت باستمرار في حرمان العدو
الصهيوني من تسجيل صورة النصر الأخيرة، بل أجبرت العدو دائمًا على الذهاب إلى طاولة
المفاوضات للبحث عن مصير أسراه، وجسَّدت بشكلٍ رائعٍ القول العربي المأثور:
«تجوع
الحرة ولا تأكل بثدييها».