إنها مأساة كبرى، صنعها الاستعمار الفرنسي إبداعيًّا، عندما جعل الأديب الجزائري يكتب عن مأساة وطنه الرازح تحت الاستعمار، بلغة المستعمِر، فيصوغ أحاسيسه بلُغَةِ مَن يُفترَض أن يتمرَّد عليه، ويثور ضده.
كثير من المسلمين لا يعرفون أن لهم إخوانًا في العقيدة، يعيشون في عزلة تامة عن
الحياة؛ حيث يقبعون في جُزرٍ مجهولة وسط المحيط الأطلنطي، يُباعون في أسواق الرقيق
الجديدة بثمنٍ بخسٍ، ويُتاجر الغربُ في نسائهم وأطفالهم في أغراض الدعارة، وتجنيدهم
كمرتزقة في كثير من الأحيان!
إنهم المسلمون المنسيون في (جُــزر العبيد)!
فمَن هم؟ وما حكايتهم؟ وما تاريخ وجودهم في تلك الجزر؟ وكم يبلغ عددهم؟ ولماذا
تجاهلهم العالَم الإسلامي طوال هذه القرون؟ وماذا عن مستقبلهم؟
في المحيط الأطلنطي، تُوجد مساحة صغيرة وسط أمواج المحيط العاتية، تُسمَّى
«سَانْ
تُومِي»،
وهي عبارة عن جزيرتيْن:
«الأولى
هي جزيرة بِرِنْسِيبْ»،
وتقع في مواجهة غينيا الاستوائية، و«الأخرى
هي جزيرة سان تومي»،
وتقع في مواجهة
«الجابون».
وتوجد الجزيرتان في خليج غينيا شمال خط الاستواء، وتُعرف منذ عام 1975م بجمهورية
«سان
تومي وبر نسيب»؛
إذْ حصلت على استقلالها بعد فترة طويلة من الاستعمار البرتغالي، وقد انضمَّت إلى
الأمم المتحدة في 12 يوليو عام 1975م.
هذا، وتُعدُّ
«سان
تومي»
من أصغر الجمهوريات الإفريقية؛ حيث تبلغ مساحة أراضيها (964) كيلو مترًا مربعًا،
ويبلغ عدد سكانها (120) ألف نسمة، منهم (30) ألف مسلم، يُمثّلون ربع عدد سكان
البلاد، واللغة البرتغالية هي لغتهم الرسمية؛ إذْ خضعت للاستعمار البرتغالي لمدة
تزيد عن خمسة قرون، مثل باقي الجزر الإفريقية في المحيط الأطلنطي، كما توجد هناك
لهجات إفريقية محلية يتحدث بها سكان البلاد من الأفارقة. والعملة المتداولة هناك
اسمها
«اسكودو»،
وينص دستور الجمهورية على حرية العقيدة.
هذا، وقد عاشت جزر
«سَانْ
تُومِي»
في عزلة تامة عن الأفارقة؛ حيث فرَض عليها الاستعمار البرتغالي العزلة، ومَنع اتصال
شعبها بأصوله الإفريقية.
دور الدعــاة المغاربة
لقد عرفتْ
«سان
تومي»
الإسلامَ منذ القرن الثالث الهجري، فقد وصلتها بعثات إسلامية من المغرب العربي،
ونشروا الإسلام بين سكانها، فاعتنق السكانُ الإسلام طواعيةً؛ لسهولة تعاليمه السمحة
ولمزاياه التشريعية، وقد هاجر إلى (سان تومي وبرنسيب) عددٌ من مسلمي الدول
الإفريقية التي تقع في غرب إفريقية ووسطها منذ القرن الرابع الهجري، خاصةً من
نيجيريا والكاميرون والكونغو والجابون، فاستقبلهم الدعاةُ المغاربة أحسن استقبال،
وبعثوا في نفوسهم الأمل، وعلَّموهم القراءة والكتابة، وغرسوا في نفوسهم مبادئ
الإسلام وأخلاقه، وأسَّسوا في الجزيرتين نهضة إسلامية واعدة، ونشروا الإسلام
وأقاموا العديد من مؤسسات الدعوة والتعليم، فانتعشت حركة المد الإسلامي بصورة
لافتة.
أيضًا، نشط المسلمون من قبائل
«الفانج»
و«البانتو»
و«والبوبى»
و«البربر»
و«العرب
المغاربة»
في نشر رسالة الإسلام في الجزيرتين، وأسهموا في تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد،
واستقدموا القضاة الشرعيين من المغرب العربي في عام 493هـــــ (الموافق عام 1099م).
لكنَّ هذا الأمر لم يكن غائبًا عن عيون الأعداء المتربصّين، فالرحَّالة البرتغالي
«دي
جو كام»
قد وصل إلى هناك في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، وأسَّس هناك مركزًا لتجارة
العبيد؛ إذْ تمَّ شَحْن نصف مليون إفريقي من سان تومي إلى العالم الجديد في
الأمريكتين.
وقد عمد المستعمر البرتغالي إلى محاربة الإسلام هناك، فتمَّ إلغاء القضاء الشرعي،
وإغلاق المساجد والمدارس الإسلامية، وقام بمصادرة الكتب الإسلامية، وأحال البلاد
إلى مركز لتجميع الرقيق الإفريقي، وبالَغ في سياسته المعادية للإسلام والمسلمين،
حتى لم يَبقَ في الجزيرتين مَن يُجاهر بإسلامه بين سكان البلاد... وهكذا قضى على
مظاهر الإسلام وشعائره في سان تومي.
خمسة قرون بعيدًا عن الإسلام
ليس هذا فحسب، بلْ فرَض المستعمر البرتغالي لُغته وقانونه وثقافته على سكان البلاد،
بعد أن ضرب كل مرتكزات العمل الدعوى والتعليمي؛ حتى نشأت أجيال لا تَعرف شيئًا عن
الإسلام! لكن منذ عام 1970م حدثت انفراجة في التواصل مع الأفارقة الموجودين في غرب
القارة، فحدثت هجرات نسبية عن طريقهم إلى سان تومي، فتأسّست جاليات إسلامية جديدة،
وانتعشت الدعوة الإسلامية، خاصةً بعد حصول البلاد على الاستقلال في عام 1975م، ومِن
ثمَّ حدثت هجرات إسلامية معاصرة ركَّزت جهودها على نشر الإسلام، وهكذا عاد الإسلام
من جديد إلى
«سان
تومي»
بعد خمسة قرون قاسية.
أول جمعية إسلامية
يقول الداعية النيجيري
«طاهر
الصالح»:
«لقد
بلغ عدد المسلمين اليوم هناك (150) أسرة مسلمة، يمثلون 25% من عدد السكان، وهذه
الأُسَر ذات جذور إسلامية، ولا يوجد اختلاف عقائدي داخل هذه الأُسَر، وقد تأسست في
«سان
تومي»
منذ سنوات أول جمعية إسلامية لتنظيم شؤون المسلمين في البلاد، وحصلت على ترخيص من
السلطات بإنشاء بعض المدارس القرآنية وبعض الكتاتيب، وبعض المساجد الصغيرة».
وقد وافقت الحكومة على إنشاء أول مركز إسلامي في العاصمة
«سان
تومي»،
وتم تخصيص الأرض اللازمة للبناء والتشييد، وخرج من البلاد وفد إسلامي برئاسة الشيخ
محمد ليما، وهو من أبرز الدعاة هناك لجمع التبرعات من الدول العربية لإقامة أول
مركز إسلامي جامع في سان تومي، على أساس أن هذا هو البداية الصحيحة للعمل الإسلامي
الجاد؛ حتى تسترد
«سان
تومي»
هويتها الإسلامية التي فقدتها إبَّان الاستعمار الغربي لها.
الجزر المنسيَّة في المحيط
إلى جانب ذلك، هناك عدد من الجزر الأخرى المنسيَّة في وسط المحيط التي صار المسلمون
فيها نسيًا منسيًّا، منها:
«جزر
الرأس الأخضر»،
وهي جمهورية إفريقية تقع في مياه المحيط الأطلنطي، وتبعد عن السنغال وغينيا بيساو
بحوالي (500) كيلو متر؛ أيْ: أنها إحدى دول غرب القارة الإفريقية، يبلغ عدد سكانها
(385) ألف نسمة، بينما بلغ عدد الجزر التي تتكون منها هذه الجمهورية (10) جزر،
وعاصمتها هي مدينة
«بَرَايَا»،
وتوجد في جزيرة (سَانْتْ دِيَاجُو)، واللغة الرسمية هي اللغة البرتغالية؛ فقد
استعمرتها البرتغال لمدة تزيد عن خمسة قرون من عام 1462 ميلادية حتى حصلت على
استقلالها في عام 1975 ميلادية، وتبلغ مساحة هذه الجزر (4033) كيلو مترًا مربعًا،
وقد انضمت إلى الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية بعد حصولها على الاستقلال.
ومن أكبر الجزر التي تتكوّن منها جمهورية جزر الرأس الأخضر؛ جزر: (سانت لويزا)
و(سانت نيكولو) و(سال) و(فوجو) و(برافا) و(مايو) و(سانت دياجو) التي توجد بها
العاصمة (برايا) وسكانها (50) ألف نسمة.. وسكان هذه الجزر مجموعة من القبائل
الإفريقية التي هاجرت إليها من غرب إفريقية، خاصةً من السنغال وجامبيا وغينيا بيساو
وسيراليون.
استراحــة العبيد
هذا، ويشير الداعيةُ
«طاهر
الصالح»
إلى أنَّ
«جزر
الرأس الأخضر»
تُعرَف في التاريخ الإفريقي بأنها جزر استراحة العبيد؛ إذْ قامت البرتغال منذ
احتلالها لهذه الجزر عام 1462م بتحويلها إلى مركز لتجميع الأفارقة الذين تاجرت بهم
ونقلتهم إلى الأمريكتين، في سفنٍ لا تليق بنقل البشر، وشهدت هذه الجزر العديد من
المآسي التي تَعرَّض لها الأفارقة الذين وقعوا في براثن الرِّقّ، فقد كان الأفارقة
يُبَاعُون بثمنٍ بخس، فالإفريقي كان يُبَاع مقابل قطعة من القماش أو سيخ من الحديد،
ولمَّا انتعشت تجارة الرقيق، باعت البرتغال الرجل بـ(13) سيخًا من الحديد، بينما
كان ثمن المرأة تسعة أسياخ. أمَّا الشباب والصبية فقد تراوحت أثمانهم بين خمسة
وسبعة أسياخ من الحديد ... إذْ كانت هذه الأسياخ تُستخدَم في صناعة السهام والحراب،
وهي من أهم الأسلحة التي كانت سائدة في إفريقية في ذلك الوقت.
وقد اعتُبِرَت
«جزر
الرأس الأخضر»
من أهم مستودعات جمع الرقيق الإفريقي، ومن أهم الأسواق العالمية في ذلك الوقت،
وكانت رحلة نقل الأفارقة إلى العالم الجديد
«الأمريكتين»،
رحلة شاقَّة تستغرق ثمانية أسابيع دون طعام أو شراب، لذا تراوح عدد الموتى ما بين
35 إلى 45% من إجمالي حمولة السفن البرتغالية من الأفارقة، أمَّا الذين يتعرَّضون
للمرض خلال الرحلة إلى الأمريكتين، فكان البرتغاليون يُلقون بهم -وهم أحياء- في
مياه المحيط الأطلسي.
جدير بالذّكر أن البلدان الأمريكية تضم أكثر من (82) مليون إفريقي من سلالات
إفريقية، تمَّ نقلهم من غرب إفريقيا، ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية نحو (26)
مليون إفريقي، ومثلهم في دول البحر الكاريبي، وفي هايتي وحدها نحو (8) ملايين
إفريقي، وفي البرازيل أكثر من (30) مليون زنجي!
وعلى الرغم من هذه الحقائق التاريخية؛ إلاَّ أنَّ الغربَ نسب -زُورًا- إلى العرب
اتجارهم بالرقيق! مع أنَّ المنصفين من المؤرخين والمستشرقين -غير المسلمين- أكدوا
أنَّ الرق صناعة غربية، أمَّا الإسلام فهو دين الحرية الذي حرَّر العبيد، ودافَع عن
كرامة الإنسان، وصان الحقوق الإنسانية.
تهميش الإسلام
كانت
«جزر
الرأس الأخضر»
قبل وقوعها في براثن المستعمر البرتغالي، تضم قبائل إفريقية مسلمة، وكان الإسلام هو
الدين السائد بين سكان جميع الجزر، وقد أسَّس المسلمون هناك العديد من المساجد
والمدارس القرآنية، لكنَّ المستعمر البرتغالي عمل على تفريغ الجزر من كل أثر
إسلامي، وكان عدد سكان جزر الرأس الأخضر في القرن الخامس عشر الميلادي (800) ألف من
الأفارقة، نُقِلَ أغلبهم إلى مستعمرات في الأمريكتين؛ للعمل في زراعة الأراضي بدلًا
من الهنود الحمر الذين تمَّت إبادتهم، ثم اتَّسعت رقعة تجارة الرقيق الإفريقي على
يد الدول الغربية المستعمِرَة.
وقد تكوَّن في جزر الرأس الأخضر وفي غينيا بيساو حزب سياسي واحد سعى لاستقلال
البلاد، فحصلت بيساو على استقلالها في عام 1974 ميلادية، ثم حصلت جزر الرأس الأخضر
على الاستقلال في العام التالي، وأصبحت جزر الرأس الأخضر جمهورية منذ عام 1975م،
ولكنَّها طبّقت الشيوعية لمدة 15 عامًا، ولم تسمح السلطات الشيوعية في الجزر بالعمل
الإسلامي.
ومع انتهاء الحكم الشيوعي في عام 1990م؛ فتحت جمهورية جزر الرأس الأخضر صدرها لقبول
دعوة الإسلام، وإقامة العلاقات مع الدول الإسلامية والعربية؛ فقامت سفارة السنغال
في العاصمة
«برايا»
بإنشاء مسجد صغير حتى يتمكن المسلمون من إقامة شعائر دينهم الإسلامي الحنيف،
واستقبلت جزر الرأس الأخضر القوافل الإسلامية من دول غرب إفريقية للتعريف بالإسلام،
والتقت بالمسؤولين هناك، وقد رحَّبت السلطات بافتتاح مركز إسلامي هناك يضم مسجدًا
ومدرسة إسلامية، وطالبت الدول العربية بافتتاح المساجد في جميع الجزر، وقد أدَّى
ذلك إلى زيادة أعداد المسلمين في البلاد، ولم يصدر حتى الآن إحصاء بعدد المسلمين،
لكنَّهم لا يزالون أقلية قليلة تُعدّ بالمئات.
الدور الإسلامي الغائب
هذا، وقد طالَب الشيخُ
«طاهر
الصالح»
بضرورة قيام بعثات دعويَّة من مختلف الدول الإسلامية بعمل زيارات دورية إلى
«جزر
الرأس الأخضر»،
وتفقُّد أحوالهم، وتزويدهم بألوان المعرفة والثقافة الإسلامية؛ فهُم في حاجة ماسَّة
إلى دعاة ومعلّمين، سيّما مِن الذين يجيدون اللغة البرتغالية لنشر الإسلام والتعريف
به، ولا بدَّ من تزويدهم بترجمات معاني القرآن الكريم، فجزر الرأس الأخضر أرض خصبة
للإسلام، وفي حاجة عاجلة إلى دعاة موهوبين لخَلْق يقظة إيمانية بين الشباب، ونهضة
فكرية؛ حتى لا تَجرفهم أمواج التغريب، ورياح العلمنة العاتية.