قبل أسابيع قليلة أعلن وزير الصحة بولاية شمال دارفور «إبراهيم خاطر» عن خروج المستشفى الجنوبي -وهو المستشفى الرئيسي في مدينة الفاشر الذي يستقبل حالات الطوارئ- عن الخدمة بعد هجمات قوات الدعم السريع.
لا يمكن وَصْف قوات الدعم السريع في السودان بأكثر من أنها حركة تمرُّد عسكري، ولا ينزع عنها هذا الوصف كونها حَظِيت بمظلة اعتراف رسمي في فترة من الفترات. فتاريخ التمردات حافل بانشقاق قادة عسكريين وجنود نظاميين عن مؤسسات الدولة والخروج عليها، وهؤلاء حتى لم يكونوا لا قادة عسكريين ولا جنودًا نظاميين.
لا يشغلنا الوصف بقَدْر ما تشغلنا الرؤية والأهداف، أو لنقل المشروع السياسي الذي يطمح إليه قائد حركة التمرد «محمد حمدان دقلو» الشهير بـ«حميدتي».
في تصنيف حركات التمرُّد ثمة حركات تسعى لتكون بديلًا عن النظام السياسي القائم، وأخرى تسعى للاستقلال بمنطقة ما أو إقليم معيَّن، وربما كان الداعي للتمرد الحصول على شروط أفضل لعِرْقية أو إثنية دينية، أو تحسين آليات التعامل معها، خاصةً إذا كانت تعرَّضت للتهميش أو العنصرية.
في حالة الدعم السريع، تخرج هذه الطغمة القاتلة عن كل هذه الأوصاف بنموذج فريد من نوعه؛ فقوات الاحتلال فقط هي مَن تسعى لقهر الشعوب وتدمير مقدراتهم وإذلالهم؛ والمحتل فقط هو الذي يقتل المدنيين بدون داعٍ، أو يُهجّرهم؛ والاحتلال فقط هو مَن يقصف المستشفيات ويروّع المرضى والأطباء... هذا ما نراه بأعيننا في فلسطين، وما رأيناه مِن قبل في سوريا. إنها سياسة الأرض المحروقة التي لا تُستخدَم إلا مع الأعداء، والهدف منها هو إتلاف الأرض؛ بحيث لا تصلح للاستفادة منها بعد تركها لتصبح غير قابلة للاستخدام؛ فيخسرها العدو والصديق.
قبل أسابيع قليلة أعلن وزير الصحة بولاية شمال دارفور «إبراهيم خاطر» عن خروج المستشفى الجنوبي -وهو المستشفى الرئيسي في مدينة الفاشر الذي يستقبل حالات الطوارئ- عن الخدمة بعد هجمات قوات الدعم السريع.
وقال خاطر: «المستشفى متوقف تمامًا بعد إجلاء المرضى والمرافقين والكوادر الطبية». وكشف أن أفرادًا من قوات الدعم السريع مدجّجين بالأسلحة الثقيلة والخفيفة اقتحموا المستشفى الجنوبي، واعتدوا على العاملين بالمستشفى والكوادر الطبية والمرضى وكل الموجودين بالمستشفى بطريقة وحشية.
وفي غضون أشهر قليلة، أحرقت قوات الدعم السريع في شمال دارفور أكثر من 50 قرية، ومسحت من الخريطة أحياءً بأكملها في الفاشر؛ وفق تقرير لوموند.
ويقول ناثانيال ريموند، مدير مختبر البحوث الإنسانية في جامعة ييل الأمريكية: «التطهير العِرقي بدأ بالفعل، وهذا ليس مفاجئًا. قوات الدعم السريع تستخدم الطريقة نفسها منذ بداية الحرب. بالنسبة لهم، هذا هو استكمال الإبادة الجماعية التي بدأت عام 2003م».
وفي «الجنينة» بغرب دارفور، قُتِلَ ما يقرب من 15 ألف شخص، بحسب الإندبندنت.
فإذا أردنا وصف الرؤية العسكرية لقوات الدعم السريع؛ فيمكن إجمالها بكلمتين: «سياسة الأرض المحروقة»، التي تقوم على: القتل العشوائي، وارتكاب المجازر والفظائع بحق السكان المدنيين، واغتصاب النساء، وتدمير المقدرات من المستشفيات والمباني والمرافق الحكومية. وهي ممارسات قوات أعداء، وليست ممارسات فصيل معارض يسعى للإصلاح.
لتضيف مليشيا الدعم السريع هدفًا آخر للتمرد؛ وهو تمزيق البلاد، وتفكيك وحدة السودان لصالح قوًى خارجية.
ومما يُؤيد ذلك أنه بجانب الممارسة العسكرية العدائية تجاه السودانيين؛ فإن ما يقدمه «حميدتي» في الجانب السياسي من مشاريع ومسودات سلام، يدعمها تحالف «تقدُّم» -وهو مجموعة من القوى المدنية اليسارية على رأسها رئيس الوزراء السابق «عبد الله حمدوك»، والتي يراها كثير من المراقبين مجرد ذراع سياسي لميليشيا عسكرية-؛ ما هي إلا مشاريع تجزئة وتفتيت -هي الأخرى- لما بقي من السودان، فتضمين «حق تقرير المصير» في أيّ وثيقة الآن في تلك الأجواء المشحونة بالقتل والدمار ما هي إلا وصفة خراب للبلاد.
لا تبدو ممارسات الدعم السريع عسكريًّا وسياسيًّا تسعى في اتجاه إبقاء السودان كيانًا موحدًا، فالذي يريد أن يكون بديلًا لكيان موحَّد لا يَخلق ثارات وأحقادًا بين مكونات الشعب، وجراحًا لن تندمل!
الذي يسعى أن يكون بديلًا إصلاحيًّا لما أفسده النظام السابق، لا يُدمّر المستشفيات والمدارس والمكتبات، وينهب البنوك والمصالح الحكومية!
الذي يسعى لأن يكون منقذًا للبلاد لا يتركب مجازر واغتصاب وإبادة جماعية!
الذي يسعى أن يُحقّق أحلام الشباب في القوة والمكانة، لا يطرح مشاريع سياسية في جوهرها تدعو إلى التقسيم والانفصال.
إن «مليشيا الدعم السريع» لا تعدو أن تكون مخلبًا في يد مَن يريد أن يجعل من السودان كنتونات صغيرة يُديرها أفراد قبائل أو مليشيات خاضعة.
منذ أسابيع قليلة أعلن رئيس الإدارة المدنية بولاية جنوب دارفور، الخاضعة للدعم السريع، محمد أحمد حسن، عن تشكيل هياكل الحكومة المدنية بالولاية، والتي تكونت من عشرة وزارات؛ في خطوةٍ يُتوقَّع تعميمها على ولايات وسط وغرب وشرق دارفور.
سريعًا أعلن الجيش السوداني، على لسان العميد نبيل عبد الله، عن رفض الجيش إعلان قوات الدعم السريع، عن تشكيل «أول حكومة مدنية» مستقلة عن السلطة التابعة للجيش في بورتسودان. وقال عبد الله: «هذه محاولة لذرّ الرماد في العيون، ولتجميل صورتهم أمام الناس، وكذلك محاولة لإضفاء شرعية زائفة مزعومة على هذه المناطق، ولكن تبقى الحقائق، ويبقى الواقع كما هو عليه».
والحقائق تقول: إن الوضع لن يبقى كما هو عليه، بل يندفع السودان بقوة إلى سيناريوهات دول الجوار، تمامًا كما يحدث في ليبيا؛ حكومة في الغرب معترَف بها دوليًّا، وأخرى في الشرق، وفي اليمن، حكومة في الشمال، وأخرى في الجنوب.
والخشية أن السودان الكبير والعظيم سيكون نصيبه من التقسيم أكبر؛ فتصبح لدينا دولة شرق السودان، وأخرى غرب السودان، والأخيرة بينهما شمال «جنوب السودان» الذي انفصل حديثًا.