• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مستقبل النظام الإيراني

وهناك أربعة معايير يحاول بها هنتنجتون قياس درجة مؤسسية النظام السياسي، باعتبار أن تلك المؤسساتية هي معيار علمي لمعرفة قوة النظام السياسي... هذه المعايير الأربعة هي: التكيف، التعقيد، الاستقلال، التماسك.


جدَّدت حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي الجدال حول أداء النظام الإيراني وقدراته ومدى كفاءته.

وسواء كان سقوط الطائرة ناجمًا عن عمل تخريبي متعمَّد، أو مجرد حادث ناتج عن خلل ليس متعمدًا؛ فإن النظام الإيراني يتحمَّل مسؤولية ما حدث في كلتا الحالتين؛ سواء كان الحادث بسبب خلل أمني، أو بسبب إهمال تقني.

فالشخص الذي لقي مصرعه، وكان موجودًا في الطائرة، هو أهم شخصية إيرانية مُنتخَبة، على الرغم من كونه ليس صاحب القرار السياسي الأصلي في هذه الدولة.

وإن المرء ليتملّكه العجب؛ فإيران التي تتمدد في العالم الإسلامي، وتظهر كأنها دولة كبرى، تُرسل ميليشياتها، وتبعث مبعوثيها، وتنشئ مراكز لنشر المذهب الشيعي ليس في دول الجوار فقط، ولكنها تمتد إلى أواسط إفريقيا وجمهوريات أمريكا الجنوبية، وغير ذلك كثير... أبعد كل هذا تعجز عن أن تحمي رئيسها؟!

هل هذا النظام نمر عسكري واقتصادي حقًّا يحاول ابتلاع العالم الإسلامي كما يظهر لكثير من الناس؟ أم هو نمر من ورق، يتحرّك في فراغ إستراتيجي أوجَده البعض بتراجعهم وتخاذلهم، ولم يقابل حتى الآن قوة تردعه وتُوقفه عند حدّه؟

لذلك، ولكي تتعامل الأمة الإسلامية مع النظام الإيراني بجدّية، يجب علينا معرفة حقيقته كما هو، لا كما نرغب ونتمنى، ومِن ثَم نستطيع رسم سيناريوهات مستقبله.

مدخل منهجي

لإدراك سيناريوهات مستقبل النظام الإيراني، يجب استكشاف عناصر قوته وضعفه. وتعتبر المؤسساتية هي أحد مقاييس قوة النظم السياسية.

ويعرّف صمويل هنتنجتون المؤسساتية في أيّ نظام سياسي، بأنها: تكيف وتعقيد واستقلالية وتماسك تنظيماته وإجراءاته.

ويقوم هذا الاقتراب على شرح وتفصيل وصفي للمؤسسة، ثم إجراء مقارنة بين المؤسسات؛ من حيث التشابه والاختلاف، سواء داخل الدولة أو بين الدول.

وهناك أربعة معايير يحاول بها هنتنجتون قياس درجة مؤسسية النظام السياسي، باعتبار أن تلك المؤسساتية هي معيار علمي لمعرفة قوة النظام السياسي... هذه المعايير الأربعة هي: التكيف، التعقيد، الاستقلال، التماسك.

ولكنّ محاولة تطبيق هذه المقاييس لتقويم أداء النظام الإيراني تُواجه عدة صعوبات؛ من أهمها: أن النظام السياسي الإيراني منغلق على نفسه، وأن المعلومات المتوفرة عن التفاعلات داخل أركانه؛ سواء من داخله أو من خارجه مشوشة، إما بمحاولة تصويره بالمثالية والقدرات الفائقة، أو بالهجوم عليه وانتقاده بعاطفية دون مراعاة العلمية أو الموضوعية في تقويمه.

ولذلك سنحاول تحرّي المعلومات والأخبار الصحيحة، وسنستعين بالمصادر الرسمية الإيرانية قدر المستطاع، ثم نحاول تحليل تلك المعلومات في ميزان التحليل السياسي والمقارنات العلمية؛ للوصول إلى ما هو أقرب للحقيقة.

معيار تكيُّف النظام الإيراني

التكيُّف وعكسه التصلُّب، وهو يتأثر بعاملين؛ التحدي البيئي والعمر، فالبيئة الساكنة ذات التحديات الأقل لا يمكن أن تختبر مدى مؤسسية النظام، ولا تعكس قدرته على التعامل مع المتغيرات. أما العمر فيقسّمه هنتنجتون إلى: العمر الزمني، والعمر الجيلي، والعمر الوظيفي.

فالعمر الزمني يَعني به الزمن الذي استمر فيه عمل النظام، فكلما زاد هذا العمر؛ زادت قدرته على التكيف ونسبة مؤسسيته.

أما العمر الجيلي فيشير غالبًا إلى تعاقب القيادات بشكل هادئ وسلمي، ونقل السلطة من مجموعة إلى أخرى، دون أيّ مشكلات أو اضطرابات.

أما العمر الوظيفي للنظام والذي يتمثل في وظائفه، فعندما تكون تلك الوظائف غير مطلوبة يُواجه النظام أزمة، فإما يتمكن من إيجاد وظيفة جديدة له، أو يكون بذلك قد فقَد صلاحيته واتجه إلى التلاشي.

بالنسبة للعمر الزمني للنظام الإيراني: فإن العمر الزمني للنظام يقترب من أربعين سنة (بدأ في العام 1979م)، أي أربعة عقود كاملة، وهي فترة يمكن تقديرها من قصيرة إلى متوسطة؛ إذا تمت مقارنتها بغيرها من نُظم المنطقة؛ فالنظام الصهيوني له ما يقرب من سبعين عامًا (1948م)، والمصري يقترب من 65 عامًا (1952م)، والتركي يقترب من 95 عامًا (1924م)، ولذلك فإن هذا العمر الزمني، والذي يبلغ أربعين عامًا، يصعب الحكم عليه بأنه متكيف بدرجة كبيرة.

أما العمر الجيلي وتعاقب القيادات؛ فمستوى منصب المرشد الأعلى حدث فيه تغيير وحيد على مدى أربعين عامًا؛ حيث كان الخميني المرشد الأول، وتولى منصبه بعد الإطاحة بالشاه، وكان عمره 77 عامًا، ولبث في المنصب عشر سنوات حتى موته، ثم جاء بعده علي خامنئي؛ والذي تولى المنصب عن عمر 50 سنة في عام 1989م، وهو لا يزال في المنصب منذ ما يقرب من خمس وثلاثين سنة.

وبذلك يكون المنصب الأعلى في قيادة النظام الإيراني هو أقل تكيُّفًا، وإذا كانت عملية الانتقال قد جرت هادئة وبصورة سلمية وسلسة في السابق، فإن مزيدًا من الشكوك تطال هذه العملية مستقبلًا.

ففي العام الجاري (2024م) سيبلغ خامنئي الخامسة والثمانين من عمره، وهو يعاني أساسًا من وهن في ذراعه إثر إصابته في انفجار قنبلة، كما أشارت تقارير عدة إلى أنه يعاني مشكلات صحية، فقد انتشرت الشائعات بأنه يعاني من السرطان منذ أكثر من عقد من الزمن، وفي عام 2014م نشرت وكالة الأنباء التابعة للدولة صورًا له بعد تعافيه من جراحة البروستاتا.

ويشير تقرير لدورية فورين أفير الأمريكية إلى أن موت خامنئي سيُحْدِث أكبر تغيير سياسي في الجمهورية الإسلامية منذ وفاة المرشد الأعلى السابق الخميني الأب الروحي للثورة عام 1989م.

وبعد مصرع إبراهيم رئيسي مؤخرًا، أُثيرت شكوك كثيرة حول كون رئيسي كان مرشحًا لخلافة خامنئي، ولذلك فإن هناك احتمال أن تكون جهة داخلية إيرانية قد تورَّطت في اغتيال الرجل؛ لأن هذه الجهة ترغب بصعود شخص آخر.

والعنصر الثالث في تكيُّف النظام هو العمر الوظيفي، ونقصد به قدرته على تغيير وظائفه حسب الظروف والمقتضيات.

فقد أثبت النظام الإيراني قدرته الفائقة في ذلك، ففي بداية الثورة كانت هناك وظيفة أساسية للنظام ترتكز على خطاب سياسي قائم على تصدير الثورة والنموذج الفارسي الشيعي إلى العالم، ثم تراجع الخطاب المُعلَن بالتدريج، ليحاول أن يحقّق انفتاحًا على المستوى العلني مع الجيران والقوى الإقليمية والدولية، وتقديم النظام السياسي لنفسه على أنه نظام منفتح إقليميًّا ودوليًّا.

ولكن تبقى إستراتيجية النظام الرئيسية غير المعلنة هي تصدير الثورة السياسية، وهذا ما يؤكد عليه مركز كارنيجي الأمريكي في تقرير له؛ حيث أشار إلى أن السياسة غير المعلنة المتعلقة بتصدير الثورة جلبت لإيران مكاسب إستراتيجية، بالرغم من أنها أدَّت أيضًا إلى تعميق التصورات حول تحيّزاتها الطائفية.

معيار تعقيد النظام الإيراني

التعقيد أو التركيب هو تعدُّد الوحدات أو المؤسسات داخل النظام وتنوعها هيكليًّا أو وظيفيًّا.

والتعقيد قد يكون على مستوى الهيكل التنظيمي، وقد يكون على مستوى الأهداف، فكلما كان النظام أكثر تعقيدًا؛ كان أكثر مؤسسية، فإذا تعدَّدت الوحدات الجزئية التابعة للنظام تعددًا هرميًّا ووظائفيًّا؛ كان النظام أقدر على تأمين ذاته والحفاظ على ولاء قواعده. وكذلك إذا كان للنظام أهداف متعددة فإنه يكون أكثر تكيفًا إزاء خسارة أيّ هدف منها، وهذا أفضل من نظام ليس له سوى هدف واحد.

أولاً: التعقيد في مستوى الهيكل التنظيمي

بالتطبيق على حالة النظام الإيراني؛ فإن أبرز سمة يتصف بها هذا النظام، هي تعدُّد مؤسساته السياسية وتداخلها، فكل مؤسسة للدولة يقابلها مؤسسة أخرى ثورية، وهذا التعدد أو التعقيد أو التداخل يخدم وظيفة استمرار واستقرار نظام الحكم.

فعلى سبيل المثال، تم إنشاء الحرس الثوري كقوة عسكرية موازية بل ومتفوقة على القوات العسكرية النظامية، وإنشاء مجلس صيانة الدستور ليكون وصيًّا على مجلس الشورى (البرلمان)، ثم إنشاء مجمع تشخيص مصلحة النظام ليبتّ في الخلافات التي قد تقع بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور... وهكذا فهذه الثنائية الهيكلية بحجة الثورية تخدم توجهات النظام، وتقضي على أيّ تمرد أو انحراف داخل مؤسسات النظام أو توجّه مخالف للقواعد الفكرية التي تم تأسيس النظام عليها، وخاصةً قاعدة الولي الفقيه.

وإذا أخذنا مثال الحرس الثوري الإيراني، نجد أن النظام الإيراني قد حاول تحقيق عدة أهداف من إنشاء تلك القوات بعيدًا عن القوت النظامية.

فمنذ عدة سنوات وخلال استقباله عددًا من قادة ومسؤولي حرس الثورة الإسلامية، ومن بينهم قائد فيلق القدس المقتول اللواء قاسم سليماني، قال خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية: إن الحفاظ على البلاد والثورة الإسلامية مرتبط باستمرار ذلك الحرس وأفرعه المسلحة.

فخامنئي يحدّد بشكل مباشر، لا مواربة فيه، أن دور الحرس الأساسي هو حماية النظام، حتى لا يتكرر انقلاب عام 1953م، والذي أجهض ثورة مصدق آنذاك، وإيجاد جيش ثوري موازٍ للجيش الإيراني الذي كان يُعتقَد أن الكثير من ضباطه لم يتخلوا عن ولائهم للشاه.

لذلك في البداية ساعدت قوات الحرس الثوري جبهة الخميني في صراعه ضد حلفائه الثوريين كجماعة مجاهدي خلق، كما كان لها دور في قمع المعارضة في المظاهرات التي قامت وتقوم ضد النظام.

ولم تقتصر مهام الحرس الثوري على حماية النظام، بل تتعداه إلى تصدير النموذج الشيعي الإيراني، والقيام بتنفيذ مهامّ خارجية لصالح النظام ومشروعه في المنطقة.

ثانيًا: التعقيد على مستوى الأهداف

هنا يبرز التساؤل: هل لدى النظام الإيراني أهداف متعددة، وحينها سيكون أكثر تكيفًا إزاء خسارة أيّ هدف منها، أم هو نظام ليس له سوى هدف واحد؟

بعد قيام الثورة عام 1979م، تنوعت العبارات سواء في الدستور أو خطاب المسؤولين الإيرانيين في بداية تأسيس النظام، حول أهداف تتعلق بإقامة حكومة إسلامية على منهج الولي الفقيه ونصرة المستضعفين في الأرض والتحرر من التبعية.

ولكن على ما يبدو فإن هذه الشعارات لم تَعُد تُجْدِي نفعًا مع الأجيال الجديدة، التي رأت أنها أصبحت مجرد شعارات للاستهلاك المحلي، وأنها لا تُحقّق طموح الشباب أو الأجيال الجديدة... فكان لا بد من طرح جديد.

ففي أكتوبر من عام 2018م، طرح المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي مسودة وثيقة عنوانها (النموذج الإسلامي-الإيراني التأسيسي للتقدم)، وهي وثيقة تحدّد رؤيته للأعوام الخمسين المقبلة.

توقيت خروج هذه الوثيقة لا يتعلق بمأزق داخلي فقط، بل بتحديات خارجية وجد النظام نفسه محاطًا بها؛ تمثّلت في الضغوط الغربية المتزايدة، والضربات الاقتصادية المتعاقبة، وتصاعد الشكوك العامة حول استمرارية النظام وشرعيته.

وبمقارنة تلك الوثيقة بدستور عام 1979م، وتعديلاته عام 1989م؛ نجد أنها من حيث الصياغة تختلف كثيرًا في الأسلوب والمصطلحات المستخدمة؛ حيث إنها مصطلحات معاصرة، وصِيغَت الوثيقة بمناهج علمية، ولكن من حيث المضمون لم تختلف كثيرًا؛ إذ إنها مزجت بين المضمون الشيعي الذي يقدّمه النظام، وبين التقنية العصرية، كذلك لم تتحدّث الوثيقة عن تصدير الثورة إلى خارج إيران، بينما كان الدستور يمتلئ بالألفاظ والجمل الصريحة التي تدعو إلى ذلك، وهذه هي النقلة الحقيقية الوحيدة في الأهداف الظاهرية.

معيار استقلالية النظام

وتعني اتخاذ النظام القرارات غير متأثر بأيّ تكتلات وقوى اجتماعية داخلية، فعندما يتحول النظام السياسي إلى التعبير عن مصالح ورغبات فئة اجتماعية معينة، أو مجموعة اقتصادية معينة فهو يفقد الاستقلالية والمؤسسية.

إذن هناك مؤشر مهمّ يمكن من خلاله ضبط معيار استقلالية النظام الإيراني، وهو:

هل توجد طبقة معينة أو فئة من الناس تبدو متميزة في المجتمع بامتيازات خاصة، ويُعبِّر النظام عن مصالحها دون مصالح وطموحات باقي طبقات الشعب وفئاته المختلفة؟

وبقليل من التأمل، نجد أن علماء الشيعة هم الطبقة التي يُعبِّر عنها النظام السياسي الإيراني. وتتحكم فيه ويؤثر مصلحتها على مصالح باقي طبقات وفئات الإيرانيين.

فلقد استطاع رجال الدين الشيعة الهيمنة على المجتمع الإيراني بثلاث أدوات رئيسة: هيكل تنظيمي قوي، ووضع قانوني ودستوري، وأخيرًا المال.

أولًا: الهيكل التنظيمي

اشتهر النظام الإيراني الحالي بلقب نظام الملالي، ومصطلح الملالي يُقصَد به العلماء أو الفقهاء في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، ولم يختص به الشيعة، ولكنه صار في الأدبيات السياسية الأخيرة يرتبط بشكل ما بالنظام السياسي الإيراني، ويعبّر عن سيطرة رجال الدين أو (الملالي) عليه، وهذا الوضع ليس وليد الثورة التي قامت في إيران، بل إن هذه المصطلحات ظهرت قبل الثورة، وفرضت نفسها على الساحة الإيرانية بعدها.

ثانيًا: الوضع القانوني والدستوري

عمد رجال الدين الإيرانيين إلى التأثير على القانون والدستور؛ لجعل وضعهم داخل المجتمع يتخذ شكلًا مميزًا. فقد عمل دستور 1979م وقبله دستور عام 1960م على جعل وضعهم استثنائيًّا؛ كونه جعل من المذهب الشيعي الإثني عشري -وليس من الإسلام- الدين الرسمي للدولة. وهذا يُرْسِي بوضوح قاعدة قانونية يستطيع بموجبها رجال الدين الإشراف على العملية التشريعية وإجراءات إنفاذ القانون، والحفاظ على الطبيعة الشيعية للنظام السياسي.

ثالثًا: المال

كان المال ولا يزال هو أداة السيطرة؛ حيث مثَّل شريان الحياة للمؤسسات الدينية في إيران، فهذا الدعم كما أنه يساعد على تقوية هذه المؤسسات، ولكنه في نفس الوقت يثير حَنق قطاعات واسعة من الشعب في ظل ضيق الخناق الاقتصادي، والذي تزداد وطأته بعد كل موجة حصار من الغرب.

وبذلك يشير معيار استقلالية النظام الإيراني وفق مؤشره الرئيس، والذي يتمثل في وجود طبقة اجتماعية تستأثر بأدوات السلطة والثروة، وهي طبقة رجال الدين، وأن هذه الطبقة تنتظم بمراسيم خاصة في تنظيم قوي نشأ منذ عشرات أو مئات السنين، وأنه استمد تلك القوة من ميزانيته المالية المستقلة عن الدولة، والتي تحوَّلت بعد صعوده إلى سُدّة الحكم في أعقاب الثورة إلى ميزانية الدولة مباشرة، تنهل منها المؤسسة الدينية من غير رقيب ولا حسيب، مع وجود شبهات كثيرة بالفساد، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي، كما كفل وصول تنظيم رجال الدين إلى الحكم تكييف وضعه القانوني بل حتى الدستوري.

واستئثار تلك الطبقة بالحكم والمال أوغر الغضب وأجَّجه في نفوس طبقات كثيرة من الشعب، وأوجَد حالةً من التذمر، ولم تستثنِ منه أحدًا حتى المرشد الأعلى.

وهذا الوضع يجعل النظام بالتدريج يتَّجه إلى عدم الاستقرار بسبب تلك الحالة؛ أي استمرار هيمنة طبقة رجال الدين الشيعة.

معيار تماسك النظام

التماسك عكسه التفكك، فالتماسك أو الاندماج يعني في المقام الأول وجود حد أدنى من الاتفاق العام بين مؤسسات النظام أو التوافق حول القضايا الأساسية والأهداف العامة والإستراتيجية.

ويرى علماء السياسة، أن تصدُّع الأنظمة السياسية يأتي من عدة أمور: إما بسبب اختلاف الآراء حول السياسات التي تتبعها، وإما بسبب حدوث أزمات مستفحلة يعجز النظام عن حلها، وإما بسبب التنافس الشخصي بين أركان الحكم بسبب اختلاف ولاءات هؤلاء وارتباطهم بدول خارجية.

ولكن هل النظام الإيراني يعاني خلافات بالفعل؟ وأيّ حالة من الحالات السابقة ينطبق عليه؟

هناك بالفعل خلاف بين تيارين داخل منظومة الحكم، ويتمحور هذا الخلاف حول عدة قضايا؛ أهمها: صلاحيات المرشد المطلقة، والعلاقة بين الدين والسياسة، ودرجة التعامل والانفتاح مع الغرب، ثم الحرس الثوري ودوره في الاقتصاد والسياسة.

وقد درجت وسائل الإعلام في إيران وخارجها على تسمية طرفي الخلاف: المحافظين والإصلاحيين، وأحيانًا تتحدث بعض وسائل الإعلام الغربية عن المتشددين والمعتدلين، فما هي حقيقة هذا الخلاف؟ وما فُرَصه في زعزعة النظام؟

تحدث الدكتور طه الهاشمي، وهو أحد أشد المقربين من خامنئي عن جذور هذا الخلاف، وقد أوردت كلامه وتحليله لطبيعة الخلافات؛ لأنه من داخل النظام ويعبّر عنه، فرأيه يُعبِّر بشكل كبير عن وجهة نظر النظام. فقال ما ملخصه، بأن كلًّا من الفصيلين، يؤمن بالمبادئ الأساسية، خاصةً المبادئ الدينية والعقائدية وقضية ولاية الفقيه والقيادة في الجمهورية الإسلامية.

ولكن التيار المحافظ -والذي يسمى بتيار اليمين- يؤمن بأن المبادئ الدينية والعقائدية في الجمهورية الإسلامية بإمكانها أن تتدخل في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية، وأن تتحكم في جميع القضايا التي تتعلق بالناس، أما التيار الآخر فيؤمن بأن علينا أن نستفيد من تجارب القطاعات الأخرى في المحافل الدولية في إدارة الحكم، وأن نسير باتجاهٍ نستطيع من خلاله أن نطبّق الأمور وفق مقتضيات الزمن، وأن نجدّد الرأي في بعض المجالات.

ويضيف الهاشمي، أن داخل كل طرف سواء من الإصلاحيين أو من المحافظين عدة اتجاهات، وليسوا على قلب رجل واحد، ولكن التيار الغالب سواء في المحافظين أو في الإصلاحيين يؤمنون بالأصول الفكرية للنظام، ومن أهمها الولي الفقيه، ولكنهم يختلفون في السياسات التي من الواجب للنظام أن يتّبعها أو يسير عليها.

فالهاشمي يقصد هنا أن هذه الخلافات تقع داخل إطار النظام وليس خارجه.

وما لم يستطع الهاشمي فَهْمه، هو أن الخلاف في حقيقته كان حول موقع إيران في العالم الإسلامي؛ فهناك اتجاه يقول: إن على إيران تقديم تجربة شيعية ناجحة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا يعني التخلي عن فكرة تصدير الثورة والاهتمام بالشأن الداخلي أولًا، واتجاه آخر رفض أن يكون إعمار إيران، وطرح نظامها أنموذجًا يتمدد في العالم الإسلامي على حساب التخلي عن شعارات الثورة وأهدافها وفاعلية الدور الإيراني في العالم.

وفي النهاية يحاول خامنئي استيعاب أطياف الخلاف داخل النظام، عن طريق الانتخابات، سواء في الرئاسة أو البرلمان أو حتى مجلس الخبراء، ولكن بعد وفاته هناك شكوك حول مآلات الصراع بين التيارين.

سيناريوهات مستقبل النظام

في ضوء مؤشرات كفاءة النظام الإيراني، يمكننا استعراض عدة سيناريوهات لبقاء هذا النظام واستمراريته:

أولًا: سيناريو الممكن:

ونعني به استمرار النظام الإيراني بنفس نَهْجه الحالي، وذلك في حالة بقاء خامنئي، أو انتقال سَلِس لمنصب المرشد، مع استمرار الحرس الثوري وحدة متماسكة محتفظًا بقوته كأقوى مجموعة مسلحة، وإذا ظل رجال الدين الشيعة مستحوذين على النظام السياسي ومهيمنين عليه. وإذا بقي الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين على وتيرته ولم يُحْسَم لأيِّ طرفٍ.

ثانيًا: سيناريو محتمل:

وهو اهتزاز النظام ودخوله في حالة شبه انهيار داخلي، وذلك في حالة وفاة خامنئي أو عجزه عن إدارة البلاد، وحدوث نزاع بين المؤسسات حول خلافته، مع تفكك الحرس الثوري نتيجة تفجُّر صراعات داخله قد تكون بين الرتب الأصغر والأكبر، ويضعف تأثير رجال الدين في النظام السياسي، ولكنهم لا يزالون يحتلون مناصب مؤثرة، كما ينكسر الإصلاحيون تمامًا، ويهيمن المحافظون من غير رجال الدين على النظام.

ثالثًا: سيناريو محتمل آخر:

وهو تمكُّن النظام من تجديد نفسه، ويتجه نحو نموذج بعيد عن التوجه الديني (المذهبي)، وذلك إذا توفرت شروط منها: وفاة خامنئي أو عجزه عن إدارة البلاد، وانتقال منصب المرشد إلى أحد رموز رجال الدين الإصلاحيين، الذين يستطيعون حسم الخلاف مع المحافظين لصالحهم.

كما ينجحون في إبعاد الحرس الثوري عن التأثير في السياسة والاقتصاد. ويخرج رجال الدين من معادلة السياسة نهائيًّا، ويلتزموا بحوزاتهم العلمية.

وفي جميع الأحوال، فإن اغتيال إبراهيم رئيسي، قد كشف كثيرًا من عوامل الضعف داخل مؤسسات النظام الإيراني، والتي كان مسكوتًا عنها، ولكنها انجلت في تلك الحادثة، وانكشفت أمام العالم على الشاشات في بثّ مباشر.

 

 

أعلى